{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } ما ساق من الغنم . وقال مقاتل : أصاب غنماً ومتاعاً ثم رجع إلى أبيه ، فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، وسأله : أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه ؟ فقال له صلى الله عليه وسلم : نعم ، فأنزل الله هذه الآية . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وابن مسعود : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } هو أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله رازقه . وقال الربيع بن خيثم : { يجعل له مخرجاً } من كل شيء ضاق على الناس . وقال أبو العالية : يجعل له مخرجاً من كل شدة . وقال الحسن : { مخرجاً } عما نهاه عنه . { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " . { إن الله بالغ أمره } قرأ طلحة بن مصرف ، وحفص عن عاصم : { بالغ أمره } بالإضافة ، وقرأ الآخرون بالغ بالتنوين أمره بالنصب ، أي منفذ أمره ، ممض في خلقه قضاءه . { قد جعل الله لكل شيء قدراً } أي جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إليه . قال مسروق في هذه الآية { إن الله بالغ أمره } توكل عليه أو لم يتوكل ، غير أن المتوكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً .
وقوله { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } أي : يسوق الله الرزق للمتقي ، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به .
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : في أمر دينه ودنياه ، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، ويثق به في تسهيل ذلك { فَهُوَ حَسْبُهُ } أي : كافيه الأمر الذي توكل عليه به ، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي [ العزيز ] الرحيم ، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء ، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له ؛ فلهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي : لا بد من نفوذ قضائه وقدره ، ولكنه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } أي : وقتًا ومقدارًا ، لا يتعداه ولا يقصر عنه .
ورزقا من حيث لا يقدر ولا ينتظر . وهو تقرير عام ، وحقيقة دائمة . ولكن إلصاقها هنا بأحكام الطلاق يوحي بدقة انطباقها وتحققها عندما يتقي المتقون الله في هذا الشأن بصفة خاصة . وهو الشأن الذي لا ضابط فيه أحس ولا أدق من ضابط الشعور والضمير ، فالتلاعب فيه مجاله واسع ، لا يقف دونه إلا تقوى الله وحساسية الضمير .
( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، إن الله بالغ أمره ) . .
فمجال الكيد في هذه العلاقة واسع ، ومسالكه كثيرة ، وقد تؤدي محاولة اتقاء الكيد إلى الكيد ! فهنا إيحاء بترك هذه المحاولة ، والتوكل على الله ، وهو كاف لمن يتوكل عليه . فالله بالغ أمره . فما قدر وقع ، وما شاء كان ؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر ، وقوة القاهر . الفعال لما يريد . البالغ ما يشاء .
والنص عام . والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب ، بالنسبة لإرادة الله وقدره . . ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره .
( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . .
فكل شيء مقدر بمقداره ، وبزمانه ، وبمكانه ، وبملابساته ، وبنتائجه وأسبابه . وليس شيء مصادفة ، وليس شيء جزافا . في هذا الكون كله ، وفي نفس الإنسان وحياته . . وهي حقيقة ضخمة يقوم عليها جانب
كبير من التصور الإيماني . [ وقد فصلنا الحديث عنها عند استعراض قوله تعالى : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا )في سورة الفرقان . وعند قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) . . في سورة القمر ] . ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته ، والعدة ووقتها ، والشهادة وإقامتها . ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة ، والناموس الكلي العام . ويوقع في الحس أن الأمر جد من جد النظام الكوني المقدر في كل خلق الله .
وقوله : وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يقول : ويسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر ، ولا يعلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وذكر بعضهم أن هذه الاَية نزلت بسبب عوف بن مالك الأشجعيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن صَلْت ، عن قيس ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق عن عبد الله ، في قوله : وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : يعلم أنه من عند الله ، وأن الله هو الذي يعطي ويمنع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : المخرج أن يعلم أن الله تبارك وتعالى لو شاء أعطاه وإن شاء منعه ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال : من حيث لا يدري .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، مثله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا يقول : نجاته من كلّ كرب في الدنيا والاَخرة ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الربيع بن المنذر ، عن أبيه ، عن الربيع بن خثيم وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : من كلّ شيء ضاق على الناس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجا .
حدثني عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا ومن يتق الله يجعل له من أمره يُسرا ، قال : يعني بالمخرج واليُسر إذا طلق واحدة ثم سكت عنها ، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين ، فذلك اليُسر الذي قال الله ، وإن مضت عدتها ولم يراجعها ، كان خاطبا من الخطاب ، وهذا الذي أمر الله به ، وهكذا طلاق السنة فأما من طلق عند كلّ حيضة فقد أخطأ السنة ، وعصى الربّ ، وأخذ بالعسر .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : يطلق للسّنة ، ويراجع للسّنة زعم أن رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقال له عوف الأشجعيّ ، كان له ابن ، وأن المشركين أسروه ، فكان فيهم ، فكان أبوه يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيشكوا إليه مكان ابنه ، وحالته التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرْه بالصبر ويقول له : «إن الله سيجعل له مخرجا » ، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا إذا انفلت ابنه من أيدي العدوّ ، فمرّ بغنم من أغنام العدوّ فاستاقها ، فجاء بها إلى أبيه ، وجاء معه بغنًى قد أصابه من الغنم ، فنزلت هذه الاَية : وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عمار بن أبي معاوية الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : نزلت في رجل من أشجع جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مجهود ، فسأله فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اتّقِ اللّهَ وَاصْبِرْ » ، قال : قد فعلت ، فأتى قومه ، فقالوا : ماذا قال لك ؟ قال : قال : «اتق الله واصبر » ، فقلت : قد فعلت حتى قال ذلك ثلاثا ، فرجع فإذا هو بابنه كان أسيرا في بني فلان مِن العرب ، فجاء معه بأعنز ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن ابني كان أسيرا في بني فلان ، وإنه جاء بأعنز ، فطابت لنا ؟ قال : «نعم » .
قال : ثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد في قوله وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : نزلت في رجل من أشجع أصابه الجهد ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : «اتّقِ اللّهَ وَاصْبِرْ » ، فرجع فوجد ابنا له كان أسيرا ، قد فكه الله من أيديهم ، وأصاب أعنزا ، فجاء ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : هل تطيبُ لي يا رسول الله ؟ قال : «نَعَمْ » .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن المنذر الثوريّ ، عن أبيه ، عن الربيع بن خثيم يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : من كلّ شيء ضاق على الناس .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : يعلم أن الله إن شاء منعه ، وإن شاء أعطاه وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يقول : من حيث لا يدري .
قال : ثنا مهران ، عن سعيد بن أبي عَروبة ، عن قتادة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : من شُبُهات الأمور ، والكرب عند الموت وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ : من حيث لا يرجو ولا يؤمل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ لا يأمل ولا يرجو .
وقوله : وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يقول تعالى ذكره : ومن يتق الله في أموره ، ويفوّضها إليه فهو كافيه .
وقوله : إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ منقطع عن قوله وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ . ومعنى ذلك : إن الله بالغ أمره بكل حال توكل عليه العبد أو لم يتوكل عليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ توكل عليه أو لم يتوكل عليه ، غير أن المتوكل يُكَفّرْ عنه سيئاته ، ويُعْظِم له أجرا .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق بنحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن صلت عن قيس ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قال : ليس بمتوكل الذي قد قُضِيت حاجته ، وجعل فضل من توكل عليه على من لم يتوكل أن يكفرَ عنه سيئاته ، ويُعْظمَ له أجرا .
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن الشعبيّ ، قال : تجالس شُتير بن شكل ومسروق ، فقال شُتير : إما أن تحدّث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك ، وإما أن أحدث فتصدّقني ؟ قال مسروق : لا بل حدّث فأصدّقك ، فقال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أكبر آية في القرآن تفوّضا : وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قال مسروق : صدقت .
وقوله : قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا يقول تعالى ذكره : قد جعل الله لكلّ شيء من الطلاق والعدّة وغير ذلك حدّا وأجلاً وقدرا يُنتهى إليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا قال : أجلاً .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا قال : منتهى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق مثله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا قال : الحيض في الأجل والعدّة .