64- وقالت اليهود : يد الله مقبوضة لا تنبسط بالعطاء . قبض الله أيديهم وأبعدهم من رحمته ، فالله غني كريم ينفق كما يشاء . وإن كثيراً من هؤلاء - لإمعانهم في الضلال - ليزيدهم ما أنزل إليك من الله ظلماً وكفراً لما فيهم من حقد وحسد ، وأثرنا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وكلما أشعلوا ناراً لحرب الرسول والمؤمنين أطفأها الله بهزيمتهم وانتصار نبيه وأتباعه ، وأنهم يجتهدون في نشر الفساد في الأرض بالكيد والفتن وإثارة الحروب ، والله لا يحب المفسدين .
قوله تعالى : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } ، قال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً ، وأخصبهم ناحية ، فلما عصوا لله في محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به ، كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك ، قال فنحاص بن عازوراء : ( يد الله مغلولة ) ، أي : محبوسة ، مقبوضة من الرزق ، نسبوه إلى البخل ، تعالى الله عن ذلك . قيل : إنما قال هذه المقالة فنحاص ، فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله أشركهم الله فيها . وقال الحسن : معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا ، فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل ، والأول أولى . لقوله : { ينفق كيف يشاء } .
قوله تعالى : { غلت أيديهم } ، أي : أمسكت أيديهم عن الخيرات .
وقال الزجاج : أجابهم الله تعالى فقال : أنا الجواد وهم البخلاء ، وأيديهم هي المغلولة الممسكة . وقيل : هو من الغل في النار يوم القيامة ، لقوله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } [ غافر : 71 ] .
قوله تعالى : { ولعنوا } ، عذبوا .
قوله تعالى : { بما قالوا } ، فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة في الدنيا ، وفي الآخرة بالنار .
قوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } ، ويد الله صفة من صفات ذاته ، كالسمع ، والبصر ، والوجه . وقال جل ذكره : { لما خلقت بيدي } [ ص :75 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { كلتا يديه يمين } ، والله أعلم بصفاته ، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم ، وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات : أمروها كما جاء بلا كيف .
قوله تعالى : { ينفق } ، يرزق .
قوله تعالى : { كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } ، أي : كلما أنزلت آية كفروا بها وازدادوا طغياناً وكفرا .
قوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } ، يعني : بين اليهود والنصارى ، قاله الحسن ومجاهد : قيل : وبين طوائف اليهود جعلهم مختلفين في دينهم ، متباغضين .
قوله تعالى : { إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } يعني : اليهود ، أفسدوا وخالفوا حكم التوراة ، فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا ، فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ، ثم أفسدوا ، فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا ، فبعث الله عليهم المسلمين . وقيل : كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأوقدوا نار المحاربة أطفأها الله ، فردهم ، وقهرهم ، ونصر نبيه ودينه . هذا معنى قول الحسن : وقال قتادة : هذا عام في كل حرب طلبته اليهود ، فلا تلقى اليهود في بلد إلا وجدتهم من أذل الناس .
قوله تعالى : { ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين } .
{ 64 - 66 ْ } { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ْ }
يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة ، وعقيدتهم الفظيعة ، فقال : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ْ } أي : عن الخير والإحسان والبر .
{ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ْ } وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم . فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم ، بالبخل وعدم الإحسان . فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم .
فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا ، وأسوأهم ظنا بالله ، وأبعدهم الله عن رحمته التي وسعت كل شيء ، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي . ولهذا قال : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ْ } لا حجر عليه ، ولا مانع يمنعه مما أراد ، فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي ، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده ، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم .
فيداه{[269]} سحاء الليل والنهار ، وخيره في جميع الأوقات مدرارا ، يفرج كربا ، ويزيل غما ، ويغني فقيرا ، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا ، ويجيب سائلا ، ويعطي فقيرا عائلا ، ويجيب المضطرين ، ويستجيب للسائلين . وينعم على من لم يسأله ، ويعافي من طلب العافية ، ولا يحرم من خيره عاصيا ، بل خيره يرتع فيه البر والفاجر ، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال ثم يحمدهم عليها ، ويضيفها إليهم ، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ما لا يدركه الوصف ، ولا يخطر على بال العبد ، ويلطف بهم في جميع أمورهم ، ويوصل إليهم من الإحسان ، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه ، فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه ، وإليه يجأرون في دفع المكاره ، وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين ، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده .
وقبَّح الله من استغنى بجهله عن ربه ، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله ، بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة ، ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم ، لهلكوا ، وشقوا في دنياهم ، ولكنهم يقولون تلك الأقوال ، وهو تعالى ، يحلم عنهم ، ويصفح ، ويمهلهم ولا يهملهم .
وقوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ْ } وهذا أعظم العقوبات على العبد{[270]} ، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله ، الذي فيه حياة القلب والروح ، وسعادة الدنيا والآخرة ، وفلاح الدارين ، الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده ، توجب عليهم المبادرة إلى قبولها ، والاستسلام لله بها ، وشكرا لله عليها ، أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه ، وطغيان إلى طغيانه ، وكفر إلى كفره ، وذلك بسبب إعراضه عنها ، ورده لها ، ومعاندته إياها ، ومعارضته لها بالشبه الباطلة . { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ْ } فلا يتآلفون ، ولا يتناصرون ، ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم ، بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم ، متعادين بأفعالهم ، إلى يوم القيامة { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ ْ } ليكيدوا بها الإسلام وأهله ، وأبدوا وأعادوا ، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم { أَطْفَأَهَا اللَّهُ ْ } بخذلانهم وتفرق جنودهم ، وانتصار المسلمين عليهم .
{ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ْ } أي : يجتهدون ويجدون ، ولكن بالفساد في الأرض ، بعمل المعاصي ، والدعوة إلى دينهم الباطل ، والتعويق عن الدخول في الإسلام . { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ْ } بل يبغضهم أشد البغض ، وسيجازيهم على ذلك .
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مّنْهُم مّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ } . .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جراءة اليهود على ربهم ووصفهم إياه بما ليس من صفته ، توبيخا لهم بذلك وتعريفا منه نبيه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به وإنكارهم جميع جميل أياديه له نبيّ مبعوث ورسول مرسل أن كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود فضلاً عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرءوا كتابا ولا وَعَوْا من علوم أهل الكتاب علما فأطلع الله على ذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وسلم ليقرّر عندهم صدقه ويقطع بذلك حجتهم . يقول تعالى ذكره : وَقالَتِ اليَهُودُ من بين إسرائيل يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يعنون : أن خير الله ممسك ، وعطاءه محبوس عن الاتساع عليهم ، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ . وإنما وصف تعالى ذكره اليد بذلك ، والمعنى : العطاء ، لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم ، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم أو ببخل وشحّ وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه ، كما قال الأعشى في مدح رجل :
يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفّ مُفِيدَةٌ ***وكَفّ إذا ماضُنّ بالزّادِ تُنْفِقُ
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى اليد ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى . فخاطبهم الله بما يتعارفونه ، ويتحاورونه بينهم في كلامهم ، فقال : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يعني بذلك أنهم قالوا : إن الله يبخل علينا ويمنعنا فضله فلا يفضل ، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف . تعالى الله عما قال أعداء الله فقال الله مكذّبهم ومخبرهم بسخطه عليهم : غُلّتْ أيْدِيهِمْ يقول : أُمْسكت أيديهم عن الخيرات ، وقُبِضت عن الانبساط بالعطيات ، ولُعِنوا بما قالوا ، وأُبْعِدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب ، والإفك . بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يقول : بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه ، غير مغلولتين ولا مقبوضتين . يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ يقول : يعطى هذا ويمنع هذا فيقتر عليه .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قالُوا . قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكنهم يقولون : إنه بخيل أمسك ما عنده . تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ قال : لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل الله يده إلى نحره . وكذبوا
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ قال : اليهود تقول : لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب حتى إن يده إلى نحره . بل يداه مبسوطتان ، ينفق كيف يشاء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قالُوا . . . إلى : واللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ . أما قوله يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ قالوا : الله بخيل غير جواد ، قال الله : بلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ قالوا : إن الله وضع يده على صدره فلا يبسطها حتى يردّ علينا ملكنا .
وأما قوله : يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يقول : يرزق كيف يشاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ . . . الاَية ، نزلت في فنحاص اليهوديّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، قوله : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ يقولون : إنه بخيل ليس بجواد قال الله : غُلّت أيْدِيهِمْ : أمسكت أيديهم عن النفقة والخير . ثم قال يعني نفسه : بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتان يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وقال : لا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ يقول : لا تمسك يدك عن النفقة .
واختلف أهل الجدل في تأويل قوله : بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ فقال بعضهم : عُني بذلك نعمتاه ، وقال : ذلك بمعنى : يد الله على خلقه ، وذلك نعمه عليهم وقال : إن العرب تقول : لك عندي يد ، يعنون بذلك : نعمة .
وقال آخرون منهم : عنى بذلك القوّة ، وقالوا : ذلك نظير قول الله تعالى ذكره : وَاذْكُرْ عِبادَنا إبْرَاهِيمَ وإسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولى الأيْدِي .
وقال آخرون منهم : بل يده ملكه وقال : معنى قوله : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ : ملكه وخزائنه . قالوا : وذلك كقول العرب للمملوك : هو ملك يمينه ، وفلان بيده عقدة نكاح فلانة : أي يملك ذلك ، وكقول الله تعالى ذكره : فَقَدّمُوا بينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً .
وقال آخرون منهم : بل يد الله صفة من صفاته هي يد ، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم . قالوا : وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن خصوصية آدم بما خصه به من خلقه إياه بيده . قالوا : ولو كان لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم ، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته ومشيئته في خلقه تعمه وهو لجميعهم مالك . قالوا : وإذا كان تعالى ذكره قد خصّ آدم بذكره خلقه إياه بيده دون غيره من عباده ، كان معلوما إنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق . قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، بطل قول من قال : معنى اليد من الله القوّة والنعمة أو الملك في هذا الموضع . قالوا : وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون إن يد الله في قوله : وَقَالتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ هي نعمته ، لقيل : بل يده مبسوطة ، ولم يقل : بل يداه ، لأن نعمة الله لا تحصى بكثرة وبذلك جاء التنزيل ، يقول الله تعالى : وَإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها قالوا : ولو كانت نعمتين كانتا محصاتين .
قالوا : فإن ظنّ ظانّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة ، فذلك منه خطأ وذلك أن العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه ، وذلك كقول الله تعالى ذكره : وَالعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، وكقوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ ، وقوله : وكانَ الكافِرُ على رَبّهِ ظَهِيرا . قال : فلم يُرَدْ بالإنسان والكافر في هذه الأماكن إنسان بعينه ، ولا كافر مشار إليه حاضر ، بل عُني به جميع الإنس وجميع الكفار ، ولكن الواحد أدّى عن جنسه كما تقول العرب : ما أكثر الدرهم في أيدي الناس ، وكذلك قوله : وكانَ الكافِرُ معناه : وكان الذين كفروا . قالوا : فأما إذا ثني الاسم ، فلا يؤدّي عن الجنس ، ولا يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما . قالوا : وخطأ في كلام العرب أن يقال : ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى : ما أكثر الدراهم في أيديهم . قالوا : وذلك أن الدرهم إذا ثني لا يؤدّي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما . قالوا : وغير محال : ما أكثر الدرهم في أيدي الناس وما أكثر الدراهم في أيديهم لأن الواحد يؤدّي عن الجميع . قالوا : ففي قول الله تعالى : بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى ، ومع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع ، ما ينبىء عن خطأ قول من قال : معنى اليد في هذا الموضع : النعمة ، وصحة قول من قال : إنّ يَدَ اللّهِ هي له صفة . قالوا : وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال به العلماء وأهل التأويل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَيزِيدَنّ كَثِيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيّ أمور هؤلاء اليهود مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم ، احتجاحا عليهم لصحة نبوّتك ، وقطعا لعذر قائل منهم أن يقول : ما جاءنا من بشير ولا نذير ، ليزيدنّ كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ، يعني بالطغيان : الغلوّ في إنكار ما قد علموا صحته من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك . وكُفْرا يقول : ويزيدهم مع غلوهم في إنكار ذلك جحودهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته ، بأن ينسبوه إلى البخل ، ويقولوا : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ . وإنما أعلم تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ وتمرّد على ربهم ، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته ، ولكنهم يعاندونه يسلي بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله وتكذيبهم إياه . وقد بينت معنى الطغيان فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَيزِيدَنّ كَثِيرا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ طُغْيانا وكُفْرا حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَومْ القِيامَةِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَومْ القِيامَةِ بين اليهود والنصارى . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَومْ القِيامَةِ اليهود والنصارى .
فإن قال قائل : وكيف قيل : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ جعلت الهاء والميم في قوله بَيْنَهُمْ كناية عن اليهود والنصارى ، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر ؟ قيل : قد جرى لهم ذكر ، وذلك قوله : لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ جرى الخبر في بعض الاَي عن الفريقين وفي بعض عن أحدهما ، إلى أن انتهى إلى قوله : وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ ، ثم قصد بقوله : ألْقَيْنا بَيْنَهُمُ الخبر عن القريقين .
القول في تأويل قوله تعالى : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ .
يقول تعالى ذكره : كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى فأرادوا مناهضة من ناوأهم ، شتته الله عليهم وأفسده ، لسوء فعالهم وخبث نياتهم . كالذي :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِيرا فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وَكانَ وَعْدا مَفْعُولاً ثُمّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَيْهِمْ . قال : كان الفساد الأوّل ، فبعث الله عليهم عدوّا ، فاستباحوا الديار واستنكحوا النساء واستعبدوا الولدان وخرّبوا المسجد . فَغَبروا زمانا ، ثم بعث الله فيهم نبيّا ، وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان . ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء ، حتى قتلوا يحيى بن زكريا ، فبعث الله عليهم بختنصر ، قتل من قتل منهم وسَبى من سَبى وخرّب المسجد ، فكان بختنصر للفساد الثاني . قال : والفساد : المعصية . ثم قال : فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجدَ كما دَخَلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ . . . إلى قوله : وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا فبعث الله لهم عُزَيزا ، وقد كان علّم التوراة وحفظها في صدره ، وكتبها لهم . فقام بها ذلك القرن ، ولبثوا ونسوا . ومات عُزَيرٌ ، وكانت أحداث ، ونسوا العهد ، وبخّلوا ربهم ، وقالوا : يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بمَا قالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وقالوا في عُزَيرٍ : إن الله اتخذه ولدا . وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح ، فخالفوا ما نَهَوْا عنه وعملوا بما كانوا يُكَفّرون عليه . فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لم يظهروا على عدوّ آخر الدهر ، فقال : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا وَاللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ ، فبعث الله عليهم المجوس الثلاثة أربابا ، فلم يزالوا كذلك والمجوس على رقابهم وهم يقولون : يا ليتنا أدركنا هذا النبيّ الذي نجده مكتوبا عندنا ، عسى الله أن يفكنا به من المجوس والعذاب الهون فبعث محمدا صلى الله عليه وسلم ، واسمه محمد ، واسمه في الإنجيل أحمد فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرفُوا كَفَرُوا بِهِ ، قال : فَلَعْنَةُ اللّهِ على الكافِرِينَ وقال : فَباءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ هم اليهود .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا أولئك أعداء الله اليهود ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، فلن تلقى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله ، لقد جاء الإسلام حين جاء وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ قال : كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرّقه الله ، وأطفأ حَدّهم ونارهم ، وقذف في قلوبهم الرعب .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : كُلّما أوْقَدُوا نارا للحَرْبِ أطْفَأها اللّهُ قال : حرب محمد صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا وَاللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ .
يقول تعالى ذكره : ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله ، فيكفرون بإياته ويكذّبون رسله ويخالفون أمره ونهيه ، وذلك سعيهم فيها بالفساد . وَاللّهُ لا يُحِبّ المُفْسِدِينَ يقول : والله لا يحبّ من كان عاملاً بمعاصيه في أرضه .
{ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } .
عطف على جملة { وإذا جاؤوكم قالوا آمنّا } [ المائدة : 61 ] ، فإنّه لمّا كان أولئك من اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام ، وهذا قول اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم ( اليهود ) .
ومعنى { يد الله مغلولة } الوصف بالبخل في العطاء لأنّ العرب يجعلون العطاء معبَّراً عنه باليد ، ويجعلون بَسْط اليد استعارة للبذل والكرم ، ويجعلون ضدّ البسط استعارة للبخل فيقولون : أمسك يدَه وقبَض يده ، ولم نسمع منهم : غَلّ يدَه ، إلاّ في القرآن كما هنا ، وقوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنقك } في سورة الإسراء ( 29 ) ، وهي استعارة قويّة لأنّ مغلول اليد لا يستطيع بسطها في أقلّ الأزمان ، فلا جرم أن تكون استعارة لأشدّ البخل والشحّ .
واليهودُ أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذمّ . فقولهم هذا : إمّا أن يكون جرى مجرى التهكّم بالمسلمين إلزاماً لهذا القول الفاسد لهم ، كما روي أنّهم قالوا ذلك لمّا كان المسلمون في أوّل زمن الهجرة في شدّة ، وفَرَض الرسول عليهم الصدقات ، وربّما استعان باليهود في الديات . وكما روي أنّهم قالوه لمّا نزل قوله تعالى : { من ذا الّذي يُقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] فقالوا : إنّ ربّ محمّد فقير وبخيل . وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالى : { لقد سمع الله قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء } [ البقرة : 181 ] . ويؤيّد هذا قوله عقبهُ { وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً } . وإمّا أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس ؛ فقد روي في سبب نزولها أنّ اليهود نزلت بهم شدّة وأصابتهم مجاعة وجَهد ، فقال فنحاص بن عَازُورا هذه المقالة ، فإمّا تلقَّفُوها منه على عادة جهل العامّة ، وإمّا نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنّهم يقلّدونه ويقتدون به .
وقد ذمّهم الله تعالى على كلا التقديرين ، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضاً ، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات ، ولو كانت على نيّة إلزام الخصم ، والثّاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفّف من تصرّف الله ، فقابل الله قولهم بالدّعاء عليهم . وذلك ذمّ على طريقة العَرب .
وجملة { غُلَّت أيديهم } معترضة بين جملة { وقالت اليهود } وبين جملة { بل يداه مبسوطتان } . وهي إنشاء سبّ لهم . وأخذ لهم من الغُلّ المجازي مُقابِلُه الغلّ الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه ، كقول النّبيء صلى الله عليه وسلم « عُصَيَّةُ عَصت الله ورسوله ، وأسلم سَلَّمها الله ، وغِفَار غَفر الله لها »
وجملة { ولعنوا بما قالوا } يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم ، ويجوز أن تكون إخباراً بأنّ الله لعنهم لأجل قولهم هذا ، نظير ما في قوله تعالى : { وإن يَدْعون إلاّ شيطاناً مريداً لعنه الله } في سورة النّساء ( 117 ، 118 ) .
وقوله : { بل يداه مبسوطتان } نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى . وبسط اليدين تمثيل للعطاء ، وهو يتضمّن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين .
وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجُود ، وإلاّ فاليَدُ في حال الاستعارة للجود أو للبُخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد ، فالتثنية مستعملة في مطلق التّكرير ، كقوله تعالى : { ثُم ارجع البصر كرّتين } [ الملك : 4 ] ، وقولهم : « لبّيك وسعديك » . وقال الشّاعر ( أنشده في « الكشاف » ولم يعْزه هو ولا شارحوه ) :
جَادَ الْحِمَى بَسِطُ اليدَيْن بوابلٍ *** شكرَتْ نَدَاه تلاعُه ووهَاده
وجملة { ينفق كيف يشاء } بيان لاستعارة { يداه مبسوطتان } . و { كيف } اسم دالّ على الحالة وهو مبني في محلّ نصب على الحال . وفي قوله : { كيف يشاء } زيادة إشارة إلى أن تقتيره الرزق على بعض عبيده لمصلحة ، مثل العقاب على كفران النعمة ، قال تعالى : { ولو بَسط الله الرزق لعباده لبَغَوا في الأرض } [ الشورى : 27 ] .
{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طغيانا وَكُفْراً } .
عطف على جملة { وقالت اليهود يد الله مغلولة } . وقع معترضاً بين الردّ عليهم بجملة { بل يداه مبسوطتان } وبين جملة { وألقيْنا بينهم العداوة والبغضاء } ، وهذا بيان للسبب الّذي بعثهم على تلك المقالة الشنيعة ، أي أعماهم الحسد فزادهم طغياناً وكفراً ، وفي هذا إعداد للرسول عليه الصلاة والسلام لأخذ الحذر منهم ، وتسلية له بأنّ فَرط حنقهم هو الّذي أنطقهم بذلك القول الفظيع .
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } .
عطف على جملة { ولعنوا بما قالوا } عطفَ الخبر على الإنشاء على أحد الوجهين فيه . وفي هذا الخبر الإيماء إلى أنّ الله عاقبهم في الدّنيا على بغضهم المسلمين بأن ألقَى البغضاء بين بعضهم وبعض ، فهو جزاء من جنس العمل ، وهو تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم أن لا يهمّه أمر عداوتهم له ، فإنّ البغضاء سجيتهم حتّى بين أقوامهم وأنّ هذا الوصف دائم لهم شأنَ الأوصاف الّتي عمي أصحابها عن مداواتها بالتخلّق الحسن . وتقدّم القول في نظيره آنفاً .
{ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } .
تركيب { أوقدوا ناراً للحرب أطفاها الله } تمثيل ، شُبّه به حال التهيّؤ للحرب والاستعداد لها والحَزَامةِ في أمرها ، بحال من يُوقد النّار لحاجة بها فتنطفىء ، فإنّه شاعت استعارات معاني التسعير والحَمْي والنّار ونحوها للحرب ، ومنه حَمِيَ الوَطيس ، وفلان مِسْعَرُ حرب ، ومِحَشّ حرب ، فقوله : { أوقدوا ناراً للحرب } كذلك ، ولا نارَ في الحقيقة ، إذ لم يُؤْثر عن العرب أنّ لهم ناراً تختصّ بالحرب تُعَدّ في نِيرَان العرب الّتي يُوقِدُونها لأغراض . وقد وهم من ظنّها حقيقة ، ونبَّه المحقّقون على وهمه .
وشبّه حال انحلال عزمهم أو انهزامُهم وسرعةُ ارتدادهم عنها ، وإحجامُهم عن مصابحة أعدائهم ، بحال من انطفأت ناره الّتي أوقدها .
ومن بداعة هذا التمثيل أنّه صالحٌ لأن يعتبر فيه جَمْعُه وتفريقه ، بأن يُجعل تمثيلاً واحداً لِحالة مجموعة أو تمثيلين لحالتين ، وقبول التمثيل للتفريق أتمّ بلاغة . والمعنى أنّهم لا يلتئم لهم أمر حرب ولا يستطيعون نكاية عدوّ ، ولو حاربوا أو حُوربوا انهزموا ، فيكون معنى الآية على هذا كقوله : { ضُرِبت عليهم الذلّة أينَما ثُقِفوا } [ آل عمران : 112 ] .
وأمّا ما يروى أنّ مَعَدّا كلّها لمّا حاربوا مذبح يوم ( خَزَازَى ) ، وسيادتُهم لِتغلب وقائدُهم كُليب ، أمر كليب أن يوقدوا ناراً على جبل خَزَازَى ليهتدي بها الجيش لكثرته ، وجعلوا العلامة بينهم أنّهم إذا دهمتهم جيوش مذحج أوقدوا نارين على ( خَزَازَى ) ، فلمّا دهمتهم مَذحج أوقدوا النّار فتجمّعت مَعدّ كلّها إلى ساحة القتال وانهزمت مَذحج . وهذا الّذي أشار إليه عمرو بن كلثوم بقوله :
وَنَحْنُ غداة أوقِدَ في خَزازَى *** رَفَدْنَا فَوْقَ رفْد الرافِدِينَا
فتلك شعار خاصّ تواضعوا عليه يومئذٍ فلا يعدّ عادة في جميع الحروب . وحيث لا تعْرف نار للحرب تعيّن الحَمْل على التمثيل ، ولذلك أجمع عليه المفسّرون في هذه الآية فليس الكلامُ بحقيقة ولا كناية .
وقوله : { ويسعون في الأرض فساداً } القولُ فيه كالقول في نظيره المتقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً } [ المائدة : 33 ] .