11-اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن خفتم من قلة الماء ، ومن الأعداء ، فوهبكم الله الأمن ، وأصابكم النعاس فنمتم آمنين ، وأنزل الماء من السماء لتتطهروا به ، ولتذهبوا وساوس الشيطان عنكم ، وثبت قلوبكم واثقة بعون الرحمن ولتتماسك به الأرض فتثبت الأقدام{[73]} .
قوله تعالى : { إذ يغشيكم النعاس } ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ( يغشاكم ) بفتح الياء ، ( النعاس ) رفع على أن الفعل له ، لقوله تعالى في سورة آل عمران { أمنةً نعاساً يغشى طائفةً منكم } ، وقرأ أهل المدينة : ( يغشيكم ) بضم الياء وكسر الشين مخففاً ، ( النعاس ) نصب ، لقوله تعالى : { كأنما أغشيت وجوههم } وقرأ آخرون بضم الياء ، وكسر الشين ، مشدد ( النعاس ) نصب ، على أن الفعل لله عز وجل ، لقوله تعالى : { فغشاها ما غشى } [ النجم : 54 ] . والنعاس : النوم الخفيف .
قوله تعالى : { أمنةً } أمناً .
قوله تعالى : { منه } ، مصدر أمنت أمناً وأمنةً وأماناً ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان .
قوله تعالى : { وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به } ، وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر ، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب ، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر ، وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين ، وأصابهم الظمأ ، ووسوس إليهم الشيطان ، وقال : تزعمون أنكم على الحق ، وفيكم نبي الله ، وأنكم أولياء الله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون محدثين ومجنبين ، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم ؟ فأرسل الله عز وجل عليهم مطراً سال منه الوادي فشرب المؤمنون واغتسلوا ، وتوضؤوا ، وسقوا الركاب ، وملأوا الأسقية ، وأطفأ الغبار ، ولبد الأرض حتى ثبتت عليه الأقدام ، وزالت عنهم وسوسة الشيطان ، وطابت أنفسهم ، فذلك قوله تعالى : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من الأحداث والجنابة . قوله تعالى : { ويذهب عنكم رجز الشيطان } وسوسته .
قوله تعالى : { وليربط على قلوبكم } باليقين والصبر .
قوله تعالى : { ويثبت به الأقدام } حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض ، وقيل : يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب .
ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنزل عليكم نعاسا يُغَشِّيكُمُ [ أي ] فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل ، ويكون أَمَنَةً لكم وعلامة على النصر والطمأنينة .
ومن ذلك : أنه أنزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث ، وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه .
وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ أي : يثبتها فإن ثبات القلب ، أصل ثبات البدن ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نزل عليها المطر تلبدت ، وثبتت به الأقدام .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَآءِ مَآءً لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولتطمئن به قلوبكم إذ يعشيكم النعاس . ويعني بقوله : يُغَشّيكُمُ النّعاسَ : يلقي عليكم النعاس ، أمَنَةً يقول : أمانا من الله لكم من عدوّكم أن يغلبكم ، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عزّ وجلّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، قال : النعاس في القتال أمنة من الله عزّ وجلّ ، وفي الصلاة من الشيطان .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، في قوله : يغشاكم النعاس أمنة منه ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، بنحوه ، قال : قال عبد الله : فذكر مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بنحوه .
والأمنة : مصدر من قول القائل : أمنت من كذا أَمَنَةً وأمانا وأمنا ، وكلّ ذلك بمعنى واحد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أمَنَةً منْهُ : أمانا من الله عزّ وجلّ .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أمَنَةً قال : أمنا من الله .
حدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إذْ يُغَشّيكُمُ النّعاسَ أمَنَةً مِنْهُ قال : أنزل الله عزّ وجلّ النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أُحد . فقرأ : ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَم أمَنَةً نُعاسا .
واختلفت القراء في قراءة قوله : «إذْ يُغَشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة «يُغَشِيكُمُ النّعاسَ » بضم الياء وتخفيف الشين ونصب «النعاس » ، من أغشاهم الله النعاس ، فهو يغشيهم . وقرأته عامة قراء الكوفيين : يُغَشّيكُم بضم الياء وتشديد الشين من غشّاهم الله النعاس ، فهو يُغَشّيهم . وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : «يَغْشاكُم النّعاسُ » بفتح الياء ورفع «النعاس » ، بمعنى غشيهم النعاس ، فهو يغشاهم واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في آل عمران : يَغْشَى طائفَةً .
وأولى ذلك بالصواب : إذْ يُغَشّيكُم على ماذكرت من قراءة الكوفيين ، لإجماع جميع القرّاء على قراءة قوله : ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عزّ وجلّ ، فكذلك الواجب أن يكون كذلك : يُغَشّيكُم إذ كان قوله : ويُنَزّلُ عطفا على «يُغَشّي » ، ليكون الكلام متسقا على نحو واحد .
وأما قوله : ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيّطَهّرَكُمْ بِهِ فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر ، ليطهر به المؤمنين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذٍ مُجْنِبين على غير ماء فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا . وكان الشيطان وسوس لهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء ، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر فذلك ربطه على قلوبهم وتقويته أسبابهم وتثبيته بذلك المطر أقدامهم ، لأنهم كانوا التقوا مع عدوّهم على رَمْلة هَشّاء فلبّدَها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها ، توطئة من الله عزّ وجلّ لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم . وبمثل الذي قلنا ، تتابعت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلم . ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا هارون بن إسحاق ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : أصابنا من الليل طشّ من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف ، نستظلّ تحتها من المطر ، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به : «اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ » فلما أن طلع الفجر نادى : الصّلاةَ عِبادَ اللّهِ ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرّض على القتال .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : طشّ يوم بدر .
حدثني الحسن بن يزيد ، قال : حدثنا حفص ، عن داود ، عن سعيد ، بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد أبي عديّ وعبد الأعلى ، عن داود ، عن الشعبيّ وسعيد بن المسيب ، قالا : طش يوم بدر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الاَية : يُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ قالا : طش كان يوم بدر ، فثبت الله به الأقدام .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » . . . الاَية ، ذكر لنا أنهم مطروا يومئذٍ حتى سال الوادي ماء ، واقتتلوا على كثيب أعفر ، فلبده الله بالماء ، وشرب المسلمون وتوضئوا وسَقَوْا ، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان . وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشي الناس عليه والدوابّ فساروا إلى القوم ، وأمدّ الله نبيه بألف من الملائكة ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : «إذْ يُغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » . . . إلى قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المسلمون وملئوا الأسقية ، وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طُهورا ، وثبت الأقدام . وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله عليها المطر . فضربها حتى اشتدت ، وثبتت عليها الأقدام .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر ، فنزلوا عليه ، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تلقاء البحر ، فانطلقوا . قال : فنزلوا على أعلى الوادي ، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله . فكان الرجل من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام يُجنب فلا يقدر على الماء ، فيصلي جنبا ، فألقى الشيطان في قلوبهم ، فقال : كيف ترجون أن تظهروا عليهم وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبا على غير وضوء ؟ قال : فأرسل الله عليهم المطر ، فاغتسلوا وتوضئوا وشربوا ، واشتدت لهم الأرض ، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم ، فاشتدّت لهم من المطر واشتدّوا عليها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : غلب المشركون المسلمين في أوّل أمرهم على الماء فظمىء المسلمون ، وصلوا مجنبين محدثين ، وكانت بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، فقال : تزعمون أن فيكم نبيّا وأنكم أولياء الله ، وقد غلبتم على الماء وتصلون مجنبين محدثين ؟ قال : فأنزل الله ماء من السماء ، فسال كلّ واد ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وثبتت أقدامهم ، وذهبت وسوسة الشيطان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : المطر أنزله عليهم قبل النعاس . رِجْزَ الشّيْطَانِ قال : وسوسته . قال : فأطفأ بالمطر الغبار ، والتبدت به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ أنزله عليهم قبل النعاس ، طبق المطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به الأقدام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : القطر ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وساوسه . أطفأ بالمطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، رجز الشيطان : وسوسته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر . وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ الذي ألقى في قلوبكم ليس لكم بهؤلاء طاقة . وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ . . . إلى قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ : إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر ، وغلبوا المسلمين عليه ، فأصاب المسلمين الظمأ ، وصلوا محدثين مجنبين ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، ووسوس فيها : إنكم تزعمون أنكم أولياء الله وأن محمدا نبيّ الله ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين فأمطر الله السماء حتى سال كلّ واد ، فشرب المسلمون وملئوا أسقيتهم وسقوا دوابهم واغتسلوا من الجنابة ، وثبت الله به الأقدام وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوّهم رملة لا تجوزها الدوابّ ، ولا يمشي فيها الماشي إلاّ بجهد ، فضربها الله بالمطر حتى اشتدت وثبتت فيها الأقدام .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » : أي أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون ، ونزل عليكم من السماء المطر الذي أصابهم تلك الليلة ، فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء ، وخُلي سبيلُ المؤمنين إليه . لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام : ليذهب عنهم شكّ الشيطان بتخويفه إياهم عدوّهم ، واستجلاد الأرض لهم ، حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبق إليه عدوّهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة وقيامهم يصلون بغير وضوء ، فقال : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ » حتى تشتدّون على الرمل ، وهو كهيئة الأرض .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب ، وقال مرّة قرأ : وَيُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ فقال سعيد : إنما هي : «وَيُنزِلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطْهِرَكُمْ بِهِ » قال : وقال الشعبي : كان ذلك طشّا يوم بدر .
وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة ، أن مجاز قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم ، فيثبتون لعدوّهم . وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين ، وحسب قول خطأ أن يكون خلافا لقول من ذكرنا . وقد بيّنا أقوالهم فيه ، وأن معناه : ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يُغَشّيكُمُ النّعاسَ": يلقي عليكم النعاس. "أمَنَةً "يقول: أمانا من الله لكم من عدوّكم أن يغلبكم، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عزّ وجلّ...
والأمنة: مصدر من قول القائل: أمنت من كذا أَمَنَةً وأمانا وأمنا، وكلّ ذلك بمعنى واحد...
وأما قوله: "ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيّطَهّرَكُمْ بِهِ "فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر، ليطهر به المؤمنين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذٍ مُجْنِبين على غير ماء فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا. وكان الشيطان وسوس لهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر، فذلك ربطه على قلوبهم وتقويته أسبابهم وتثبيته بذلك المطر أقدامهم، لأنهم كانوا التقوا مع عدوّهم على رَمْلة هَشّاء فلبّدَها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها، توطئة من الله عزّ وجلّ لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ذكر النعاس بعد شدة خوفهم، والنعاس لا يكون ممن اشتد به الخوف ويغشيه إلا بعد الأمن، فذكر لطفه ومنته الأمن بعد شدة الخوف، ذكر عظيم ما منَّ عليهم من الأمن لما ذكر من إلقاء النعاس عليهم والنعاس إنما يكون بعد الأمن، بعد ما كان من حالهم ما ذكر حيث قال: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ). وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ذكر هذا -واللَّه أعلم- على المبالغة في المنة أنه أخبر أنه أنزل من السماء ماء فضل عن حوائجهم حتى وجدوا ماء لتطهير أنفسهم وأبدانهم، وأذهب عنهم رجز الشيطان؛ ذكر السبب الذي به يذهب الرجز؛ لأن الرجز هو العذاب، فذكر الرجز والمراد منه سبب الرجز.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ). يحتمل: حقيقة تثبيت الأقدام. ويحتمل: الثبات على ما هم عليه. والربط: هو الشد لشيء، فيحتمل قوله: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) أي شدها حتى لا يزول أحدهم عما هو فيه، ولا يزيغ عن ذلك، وإن ابتلاه اللَّه- تعالى -بأنواع الشدائد والبلايا. ذكر في التوحيد والإيمان الربط والتثبيت بقوله: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) وقوله: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ)، وقوله: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ). وذكر في الشرك والكفر الطبع والختم والقفل ونحوه؛ فهو- واللَّه أعلم -عقوبة لهم لما اختاروا ذلك...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما: قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني: أن أمَّنَهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما قال: الأمن منيم، والخوف مسهر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كما طَهَّرَ ظواهرهم بماء السماء طهَّر سرائرهم بماء التحقيق عن شهود كلِّ غير وكلِّ عِلَّة، وصان أسرارهم عن الإصغاء إلى الوساوس، وربط على قلوبهم بشهودهم جريان التقدير على حسب ما يجري الحقُّ من فنون التصريف. قوله جلّ ذكره: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}. أقدامَ الظاهر في مَشَاهِدِ القتال، وأقدامَ السرائر على نهج الاستقامة بشهود مجاري التقدير.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ومعنى {يغشيكم} يغطيكم به ويفرغه عليكم، وهذه استعارة و {النعاس} أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماشٍ...
لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال: {وما النصر إلا من عند الله} ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع:
الأول: قوله: {إذ يغشاكم النعاس أمنة منه} أي من قبل الله، واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى، فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لابد فيه من مزيد فائدة، وذكروا فيه وجوها:
أحدها: أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يأخذه النوم، وإذا نام الخائفون أمنوا، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن.
وثانيها: أنهم خافوا من جهات كثيرة. أحدها: قلة المسلمين وكثرة الكفار، وثانيها: الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين، وثالثها: العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر.
والوجه الثالث: في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم، أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن العدو من معاقصتهم، بل كان ذلك نعاسا يحصل لهم زوال الإعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه.
والوجه الرابع: أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة. فلهذا السبب قيل: إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز. فإن قيل: فإن كان الأمر كما ذكرتم فلم خافوا بعد ذلك النعاس؟ قلنا: لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفرا منصورا وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين...
النوع الثاني: من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان} ولا شبهة أن المراد منه المطر، وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء، واستولوا عليه، وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة، وأكثرهم احتلموا وأجنبوا، وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملا تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير، وكان الخوف حاصلا في قلوبهم، بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم، فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلا على حصول النصرة والظفر، وعظمت النعمة به من جهات:
أحدها: زوال العطش، فقد روي أنهم حفروا موضعا في الرمل، فصار كالحوض الكبير، واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا.
وثانيها: أنهم اغتسلوا من ذلك الماء، وزالت الجنابة عنهم، وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه.
وثالثها: أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود. وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة. أما قوله: {ويذهب عنكم رجز الشيطان} ففيه وجوه:
الأول: أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان.
الثاني: أن الكفار لما نزلوا على الماء، وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك، فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة، روى أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم، تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة، وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضا واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام.
الثالث: أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد فإن قيل: فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى؟ قلنا: قوله: {ليطهركم} معناه ليزيل الجنابة عنكم، فلو حملنا قوله: {ويذهب عنكم رجز الشيطان} على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل، ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله: {ليطهركم} حصول الطهارة الشرعية.
والمراد من قوله: {ويذهب عنكم رجز الشيطان} إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول: حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان، وذلك يوجب الحكم بكونه نجسا مطلقا لقوله تعالى: {والرجز فاهجر}.
النوع الثالث: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وليربط على قلوبكم} والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم، ومعنى الربط في اللغة الشد، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: {ورابطوا} ويقال لكل من صبر على أمر، ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال: رجل رابط أي حابس.
قال الواحدي: ويشبه أن يكون {على} ههنا صلة والمعنى -وليربط قلوبكم بالنصر- وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة (على) تفيد الاستعلاء. فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها. والنوع الرابع: من النعم المذكورة ههنا قوله تعالى: {ويثبت به الأقدام} وذكروا فيه وجوها:
أحدها: أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه، فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه، وعلى هذا التقدير، فالضمير في قوله: {به} عائد إلى المطر.
وثانيها: أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم، لأن من كان قلبه ضعيفا فر ولم يقف، فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم، وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله: {به} عائد إلى الربط.
وثالثها: روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين، وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل، فلما نزل المطر عظم الوحل، فصار ذلك مانعا لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله: {ويثبت به الأقدام} يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إذ يغشّيكم النعاس أمنة منه} هذه منة أخرى من مننه تعالى على المؤمنين، التي كانت من أسباب ظهورهم على المشركين، وهي إلقاؤه تعالى النعاس عليهم حتى غشيهم – أي غلب عليهم فكان كالغاشية تستر الشيء وتغطيه- تأمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم من الفرق العظيم بينهم وبين عدوهم في العدد والعدة وغير ذلك. روى أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن علي كرم الله وجهه قال ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح. وذلك أن من غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف، كما أن الخائف لا ينام، ولكن قد ينعس، والنعاس فتور في الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم فهو يضعف الإدراك ولا يزيله كله فمتى زال كان نوما ولذلك قال بعضهم هو أول النوم...
{وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} وهذه منة ثالثة منه عز وجل على المؤمنين، كان لها شأن عظيم في انتصارهم على المشركين، روى ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، وكان ببينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم (أي على الدهاس أو الرمل اللين لتلبده بالمطر) وذهبت وسوسته.
هذا أثبت وأوضح وأبسط ما ورد في المأثور عن هذا المطر في بدر، وعن مجاهد أنه كان قبل النعاس خلافا لظاهر الترتيب في الآية والواو لا توجبه. ولولا هذا المطر لما أمكن المسلمين القتال لأنهم كانوا رجالة ليس فيهم إلا فارس واحد هو المقداد كما تقدم وكانت الأرض دهاسا تسيخ فيها الأقدام أو لا تثبت عليها.
قال المحقق ابن القيم في الهدي النبوي: وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاّ طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض وصلب الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط على قلوبهم. فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحياض وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيها على تل مشرف على المعركة ومشى في موضع المعركة وجعل يشير بيده (هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى) فما تعدى أحد منهم موضع إشارته.اه...
ذكر تعالى لذلك المطر أربع منافع:
الأولى: تطهيرهم به أي تطهيرا حسيا بالنظافة التي تشرح الصدر وتنشط الأعضاء في كل عمل –وشرعيا بالغسل من الجنابة والوضوء من الحدث الأصغر.
الثانية: إذهاب رجز الشيطان عنهم. والرجز والرجس والركس كلها بمعنى الشيء المستقذر حسا أو معنى والمراد هنا وسوسته كما تقدم في المأثور.
الثالثة: الربط على القلوب ويعبر به عن تثبيتها وتوطينها على الصبر كما قال تعالى: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} [القصص: 10]. وتأثير المطر في القلوب تفسره المنفعة.
الرابعة: وهو تثبيت الأقدام به فإن من كان يعلم أنه يقاتل في أرض تسوخ فيها قدمه كلما تحرك وهو قد يقاتل فارسا لا راجلا لا يكون إلا وجلا مضطرب القلب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، فقَرَنَها، في قَرَن زمانها، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذْ الزمانية، وهذا من أبدع التخلص، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب. ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولاً فيه لقوله: {ومَا النصر} [الأنفال: 10] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، فلا جرم أن يكون وقت حُصوله طرفاً للنصر. والغَشْيُ والغشيان كون الشيء غاشياً أي غاماً ومغطياً، فالنوم يغطي العَقل. والنعاسُ النوم غير الثقيل، وهو مثل السِّنة( ...
) فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف، ولا يكون عامّاً سائرَ الجيش، فهو نوم منحهم الله إياه لِفائِدتهم. وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف وقد علم أنه من تقدير الله بقوله {أمنة منه}. (...
.) وإنما كان (النعاس) أمناً لهم لأنهم لمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب...
هنا في آية الأنفال نعاس وأمنة، وهناك في آية آل عمران أمنة ونعاس؛ لأن الحالتين مختلفتان- فتوضح آية آل عمران أن النعاس قد غشي طائفة واحدة من المقاتلين في غزوة أحد بعد أن أصابهم الغم في هذه الغزوة، وهؤلاء هم المؤمنون الصادقون الملتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما في سورة الأنفال فتبين الآية أن النعاس قد غشي الجيش كله حيث كان الجميع على قلب رجل واحد والإيمان يملأ قلوبهم جميعا ولا يوجد بينهم منافق أو مرتاب فغشيتهم جميعا هذه الآمنة بالنعاس؛ لأنه يزيل الخوف، ومن دلائل الأمن والطمأنينة والثقة بنصر الله. ويقول الحق تبارك وتعالى متابعا في ذات الآية: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} (من الآية 11 سورة الأنفال). ومعنى التطهير أن هناك حادثا يستحق التطهر منه وهم لم يجدوا ماء ليتطهروا منه وهم لم يجدوا ماء ليتطهروا به حيث كان المشركون قد غلبوا المسلمين على الماء في أول الأمر، فظمئ المسلمون وانشغلوا بالعطش، وبالرغبة في تطهير أجسامهم، وهذا يدل على أن المؤمن يجب أن يظل نظيفا، رغم الوجود في المعركة التي لو استمر فيها الواحد منهم يوما أو اثنين دون استحمام، لما لامه أحد على ذلك، وجاء هذا القول ليدل على حرص المؤمن على النظافة إن خرج شيء من الإفرازات والعرق، أو كان التطهر من رجز الشيطان؛ لأن الشيطان خيل لهم منامات جنسية، وأخذ يوسوس قائلا لهم: أنتم تقولون إنّكم على حق، فكيف تصلون وأنتم جنب؟ وكان مجرد حدوث هذا الأمر لهم جميعا هو آية أخرى من الآيات. فأغاظ الله الشيطان وأنزل عليهم الماء ليشربوا ويتطهروا...