71- والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق . فجعل رزق السيد المالك أفضل من رزق مملوكه ، فما الذين كثر رزقهم من السادة بمعطين نصف رزقهم لعبيدهم المملوكين لهم ، حتى يصيروا مشاركين لهم في الرزق على حد المساواة ، وإذا كان هؤلاء الكفار لا يرضون أن يشاركهم عبيدهم في الرزق الذي جاء من عند الله ، مع أنهم بشر مثلهم ، فكيف يرضون أن يشركوا مع الله بعض مخلوقاته فيما لا يليق إلا به تعالى ، وهو استحقاق العبادة ؟ فهل تستمر بعد كل هذا بصائر هؤلاء المشركين مطموسة ، فيجحدوا نعمة الله عليهم بإشراكهم معه غيره ؟ .
قوله تعالى : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } ، بسط على واحد ، وضيق على الآخر ، وقلل وكثر . { فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } ، من العبيد ، { فهم فيه سواء } ، أي : حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك . يقول الله تعالى : لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقهم سواء ، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني . يلزم به الحجة على المشركين . قال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل ، فهل منكم أحد يشركه مملوكه في زوجته وفراشه وماله ؟ أفتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ { أفبنعمة الله يجحدون } ، بالإشراك به ، وقرأ أبو بكر بالتاء ؛ لقوله { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } ، والآخرون بالياء ؛ لقوله : { فهم فيه سواء } .
{ 71 } { وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .
وهذا من أدلة توحيده ، وقبح الشرك به ، يقول تعالى : كما أنكم مشتركون بأنكم مخلوقون مرزوقون ، إلا أنه تعالى : { فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ } ، فجعل منكم أحرارا ، لهم مال وثروة ، ومنكم أرقاء لهم ، لا يملكون شيئا من الدنيا ، فكما أن سادتهم الذين فضلهم الله عليهم بالرزق ليسوا : { بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } ، ويرون هذا من الأمور الممتنعة ، فكذلك من أشركتم بها مع الله ، فإنها عبيد ليس لها من الملك مثقال ذرة ، فكيف تجعلونها شركاء لله تعالى ؟ !
هل هذا إلا من أعظم الظلم والجحود لنعم الله ؟ " ولهذا قال : { أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } ، فلو أقروا بالنعمة ونسبوها إلى من أولاها ، لما أشركوا به أحدا .
ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن خلق الإِنسان ، وتقلبه فى أطوار عمره ، إلى الحديث عن التفاوت بين الناس في أرزاقهم ، فقال - تعالى - : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق . . . } فجعل منكم الغني والفقير ، والمالك والمملوك ، والقوي والضعيف ، وغير ذلك من ألوان التفاوت بين الناس ، لحكمة هو يعلمها - سبحانه - .
ثم بين - سبحانه - موقف المفضلين في الرزق من غيرهم فقال : { فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ . . } ، أي : فليس الذين فضلهم الله - تعالى - في الرزق على غيرهم { برادي } ، أي : بمانحي وباذلي { رزقهم } ، الذي رزقهم الله إياه على مماليكهم ، أو خدمهم الذين هم إخوة لهم في الإنسانية . { فهم } ، أي : الأغنياء الذين فضلوا في الرزق ومماليكهم وخدمهم ، { فيه } ، أي : في هذا الرزق { سواء } ، من حيث إني أنا الرازق للجميع .
فالجملة الكريمة يجوز أن تكون دعوة من الله - تعالى - للذين فضلوا على غيرهم في الرزق ، بأن ينفقوا على مماليكهم وخدمهم ؛ لأن ما ينفقونه عليهم هو رزق أجراه الله للفقراء على أيدي الأغنياء . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية : أي : جعلكم متفاوتين في الرزق ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم ، وإخوانكم ، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تتساووا في الملبس والمطعم ، " كما يحكى عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما هم إخوانكم ، فاكسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تطعمون " . فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه ، وإزاره إزاره ، من غير تفاوت " .
ويجوز أن تكون الآية الكريمة توبيخا للذين يشركون مع الله - تعالى - آلهة أخرى في العبادة . فيكون المعنى : لقد فضل الله - تعالى - بعضكم على بعض في الرزق - أيها الناس - ، ومع ذلك فالمشاهد الغالب بينهم ، أن الأغنياء لا يردون أموالهم على خدمهم وعبيدهم ، بحيث يتساوون معهم في الرزق ، وإذا ردوا عليهم شيئا ، فإنما هو شيء قليل يسير ، يدل على بخلهم وحرصهم . . مع أني أنا الرازق للجميع .
وإلى هذا المعنى أشار ابن كثير بقوله عند تفسيره للآية : " يبين - تعالى - للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من شركاء ، وهم يعترفون بأنهم عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فقال - تعالى - منكرا عليهم : أنتم لاترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى - بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم ، كما قال - تعالى - في آية أخرى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ . . } . وقال العوفي : عن ابن عباس في هذه الآية يقول : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون معي عبيدي في سلطاني . . " .
وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى سياق آيات السورة الكريمة ؛ لأن السورة الكريمة مكية ، ومن أهدافها الأساسية دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله - عز وجل - ، ونبذ الإِشراك والمشركين ، وإقامة الأدلة المتنوعة على بطلان كل عبادة لغير الله - تعالى - .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } . والاستفهام هنا ؛ للتوبيخ والتقريع ، والفاء معطوفة على مقدر ، أي : أيشركون به - سبحانه - فيجحدون نعمه ، وينكرونها ، ويغمطونها حقها ، مع أنه - تعالى - هو الذي وهبهم هذه النعم ، وهو الذي منحهم ما منحهم من أرزاق ؟ ! ! .
هذا من الاستدلال على أن التّصرف القاهر لله تعالى . وذلك أنه أعقب الاستدلال بالإحياء والإماتة وما بينهما من هرم بالاستدلال بالرّزق .
ولما كان الرّزق حاصلاً لكل موجود بُني الاستدلال على التّفاوت فيه بخلاف الاستدلال بقوله تعالى : { والله خلقكم ثم يتوفاكم } [ سورة النحل : 70 ] .
ووجه الاستدلال به على التصرّف القاهر أن الرزق حاصل لِجميع الخلق وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ولا على استحقاقهم ؛ فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلاً وفهماً مقتّراً عليه في الرزق ، وبضدّه ترى أجهل الناس وأقلّهم تدبيراً موسّعاً عليه في الرزق ، وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهراً عليه ، فالمقتّر عليه لا يدري أسباب التّقتير ، والموسّع عليه لا يدري أسباب تيسير رزقه ، ذلك لأن الأسباب كثيرة متوالدة ومتسلسلة ومتوغّلة في الخفاء حتى يُظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي بمفقودة ولكنها غير محاط بها . ومما ينسب إلى الشافعي :
ومن الدّليل على القضاء وكونه *** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
ولذلك أسند التفضيل في الرزق إلى الله تعالى لأن أسبابه خارجة عن إحاطة عقول البشر ، والحكيم لا يستفزّه ذلك بعكس قول ابن الراوندي :
كـم عاقل عاقل أعيَت مذاهبه *** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة *** وصيّر العالم النّحرير زنديقا
وهذا الحكم دلّ على ضعف قائله في حقيقة العلم فكيف بالنّحريرية .
وتفيد وراء الاستدلال معنى الامتنان لاقتضائها حصول الرزق للجميع .
فجملة والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } مقدمة للدّليل ومنّة من المنن لأن التفضيل في الرزق يقتضي الإنعام بأصل الرزق .
وليست الجملة مناط الاستدلال ، إنما الاستدلال في التمثيل من قوله تعالى : { فما الذين فضلوا برادي رزقهم } الآية .
والقول في جعل المسند إليه اسم الجلالة وبناء المسند الفعلي عليه كالقول في قوله تعالى : { والله خلقكم ثم يتوفاكم } [ سورة النحل : 70 ] . والمعنى : الله لا غيره رزقكم جميعاً وفضّل بعضكم على بعض في الرزق ولا يسعكم إلا الإقرار بذلك له .
وقد تمّ الاستدلال عند قوله تعالى : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } بطريقة الإيجاز ، كما قيل : لمحة دالة .
وفرع على هذه الجملة تفريع بالفاء على وجه الإدماج قولُه تعالى : { فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء } . وهو إدماج جاء على وجه التمثيل لتبيان ضلال أهل الشرك حين سَوّوا بعض المخلوقات بالخالق فأشركوها في الإلهية فساداً في تفكيرهم . وذلك مثل ما كانوا يقولون في تلبية الحجّ ( لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ) . فمثل بطلان عقيدة الإشراك بالله بعضَ مخلوقاته بحالة أهل النّعمة المرزوقين ، لأنهم لا يرضون أن يُشركوا عبيدهم معهم في فضل رزقهم فكيف يسوّون بالله عبيده في صفته العظمى وهي الإلهيّة .
ورشاقة هذا الاستدلال أن الحالتين المشبّهتين والمشبّه بهما حالتا مولى وعبد ، كما قال تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } [ سورة الروم : 28 ] .
والغرض من التمثيل تشنيع مقالتهم واستحالة صدقها بحسب العرف ، ثم زيادة التشنيع بأنهم رضوا لله ما يرضونه لأنفسهم ، كقوله تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } إلى قوله : { ولله المثل الأعلى } [ سورة النحل : 57 ، 60 ] .
وقرينة التمثيل والمقصد منه دلالة المقام .
وقوله تعالى : { فما الذين فضلوا } نفيٌ . و ( ما ) نافية ، والباء في { برادي رزقهم } الباءُ التي تزاد في خبر النفي ب ( ما ) و ( ليس ) .
والرادّ : المعطي . كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم « والخُمُس مردود عليكم » أي فما هم بمعطين رزقهم لعبيدهم إعطاء مشاطرة بحيث يسوّونهم بهم ، أي فما ذلك بواقع .
وإسناد الملك إلى اليمين مجاز عقلي ، لأن اليمين سبب وَهمِي للمِلك ، لأن سبب الملك إما أسر وهو أثر للقتال بالسيف الذي تمسكه اليد اليمنى ، وإما شراء ودفع الثمن يكون باليد اليمنى عرفاً ، فهي سبب وهَمي ناشىء عن العادة .
وفرعت جملة { فهم فيه سواء } على جملة { فما الذين فضلوا برادي رزقهم } ، أي لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه ، أي لا يقع ذلك فيقع هذا . فموقع هذه الجملة الإسميّة شبيه بموقع الفعل بعد فاء السببية في جواب النفي .
وأما جملة { أفبنعمة الله يجحدون } فصالحة لأن تكون مفرّعة على جملة { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } باعتبار ما تضمّنته من الامتنان ، أي تفضّل الله عليكم جميعاً بالرزق أفبنعمة الله تجحدون ، استفهاماً مستعملاً في التوبيخ ، حيث أشركوا مع الذي أنعم عليهم آلهة لا حظّ لها في الإنعام عليهم . ( وذلك جحود النعمة كقوله تعالى : { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له } [ سورة العنكبوت : 17 ] . وتكون جملة { فما الذين فضلوا } إلى قوله تعالى : { فهم فيه سواء } معترضة بين الجملتين .
وعلى هذا الوجه يكون في { يجحدون } على قراءة الجمهور بالتحتية التفات من الخطاب إلى الغيبة . ونكتته أنهم لما كان المقصود من الاستدلال المشركين فكانوا موضع التوبيخ ناسب أن يعرض عن خطابهم وينالهم المقصود من التوبيخ بالتعريض كقول :
أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر *** ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثّته على الخير مـرّة *** عصاها وإن همّت بشر أطاعها
ثم صرّح بما وقع التعريض به بقوله : { أفبنعمة الله يجحدون } .
وقرأ أبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب { تجحدون } بالمثناة الفوقية على مقتضى الظاهر ويكون الاستفهام مستعملاً في التحذير .
وتصلح جملة { أفبنعمة الله يجحدون } أن تكون مفرّعة على جملة { فما الذين فضلوا برادي رزقهم } ، فيكون التوبيخ متوجّهاً إلى فريق من المشركين وهم الذين فضلوا بالرزق وهم أولو السّعة منهم وسادتهم وقد كانوا أشدّ كفراً بالدين وتألّباً على المسلمين ، أي أيجحد الذين فضلوا بنعمة الله إذْ أفاض عليهم النّعمة فيكونوا أشد إشراكاً به ، كقوله تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهّلهم قليلا } [ سورة المزمل : 11 ] .
وعلى هذا الوجه يكون قوله تعالى : { يجحدون } في قراءة الجمهور بالتحتية جارياً على مقتضى الظاهر . وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالمثناة الفوقية التفاتاً من الغيبة إلى خطابهم إقبالاً عليهم بالخطاب لإدخال الروع في نفوسهم .
وقد عُدّي فعل { يجحدون } بالباء لتضمّنه معنى يكفرون ، وتكون الباء لتوكيد تعلّق الفعل بالمفعول مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ سورة المائدة : 6 ] . وتقديم بنعمة الله على متعلّقه وهو { يجحدون } للرعاية على الفاصلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والله فضل بعضكم على بعض في الرزق}، يعني: جعل بعضكم أحرارا، وبعضكم عبيدا، فوسع على بعض الناس، وقتر على بعض،
{فما الذين فضلوا}، يعني: الرزق من الأموال،
{برآدي رزقهم}، يقول: برادي أموالهم،
{على ما ملكت أيمانهم}، يعني: عبيدهم، يقول: أفيشركونهم وعبيدهم في أموالهم،
{فهم فيه سواء}، فيكونون فيه سواء، بأنهم قوم لا يعقلون شيئا،
{أفبنعمة الله يجحدون}، يعني، ينكرون بأن الله يكون واحدا لا شريك له وهو رب هذه النعم، يقول: كيف أشرك الملائكة وغيرهم في ملكي، وأنتم لا ترضون الشركة من عبيدكم في أموال، فكما لا تدخلون عبيدكم في أموالكم، فكذلك لا أدخل معي شريكا في ملكي، وهم عبادي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله أيها الناس فضّل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا، فما الذين فضّلهم الله على غيرهم بما رزقهم {بِرَادّي رِزْقهِمْ على ما مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ}، يقول: بمشركي مماليكِهم فيما رزقهم من الأموال والأزواج. "فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ"، يقول: حتى يستووا هم في ذلك وعبيدهم... يقول تعالى ذكره: فهم لا يرضَون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني... وهذا مَثَل ضربه الله تعالى ذكره للمشركين بالله...
يقول تعالى ذكره: أفبنعمة الله التي أنعمها على هؤلاء المشركين من الرزق الذي رزقهم في الدنيا، يجحدون بإشراكهم غير الله من خلقه في سلطانه ومُلكه؟..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم، كما يحكي عن أبي ذرّ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تطعمون"، فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه، وإزاره إزاره، من غير تفاوت. {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ}، فجعل ذلك من جملة جحود النعمة. وقيل: هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال لهم: أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟. وقيل، المعنى: أنّ الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق. فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم.
اعلم أن هذا اعتبار حال أخرى من أحوال الإنسان، وذلك أنا نرى أكيس الناس وأكثرهم عقلا وفهما يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يستيسر له ذلك، ونرى أجهل الخلق وأقلهم عقلا وفهما تنفتح عليه أبواب الدنيا، وكل شيء خطر بباله ودار في خياله فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السبب جهد الإنسان وعقله، لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال، فلما رأينا أن الأعقل أقل نصيبا، وأن الأجهل الأخس أوفر نصيبا، علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام، كما قال تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا}... واعلم أن هذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له...
وحاصل القول فيه أن المقصود منه بيان أن الرازق هو الله تعالى، وأن المالك لا يرزق العبد بل الرازق للعبد والمولى هو الله تعالى، وتحقيق القول أنه ربما كان العبد أكمل عقلا وأقوى جسما وأكثر وقوفا على المصالح والمفاسد من المولى، وذلك يدل على أن ذلة ذلك العبد وعزة ذلك المولى من الله تعالى كما قال: {تعز من تشاء وتذل من تشاء}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع، الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار، للخوف كل لحظة من مصيبة الموت، ثنى بالمفاوتة في الأرزاق... ولما كانت وجوه التفضيل كثيرة، وكان التفضيل في المعاش، الذي يظن الإنسان أن له قدرة على تحصيله، وكانت المفاوتة فيه أدل على تمام القدرة، والفعل بالاختيار الذي السياق له... فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، وأقبلوا بجميع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار... ولما كان جعل المملوك في رتبة المالك مما يتعاظمهم في حقوقهم، مع أنه في الحقيقة لا مالك ولا مُلك، فلا يدينون لذلك ولا يدانونه وإن جل الخطب، وأدى إلى ذهاب الأرواح، بل من كانت أمه مملوكة حطوا رتبته وإن كان أبوه من كان، وإن كانت العبرة عندهم في النسب بالأب... نبههم سبحانه على ما وقعوا فيه في حقه من ذلك بسبب الإشراك، مع أنه مالك الملك وملك الملوك، بعدما اجترؤوا عليه في تفضيل أنفسهم في نسبة البنات إليه... ولما وضح ذلك وضوح الشمس وظهر حتى ما به أصلاً نوع لبس، تسبب عنه الإنكار في قوله على وجه الإعراض عن خطابهم المؤذن بالمقت: {أفبنعمة الله}، أي: الذي لا رب غيره، {يجحدون}، في جعلهم له شركاء، يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم، فيسوون بينهم وبينه في ذلك، وبنعمتهم يعترفون، ولها يحفظون في إنزال ما ملكت أيمانهم عنهم في المراتب والأموال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
واللمسة الثانية في الرزق. والتفاوت فيه ملحوظ. والنص يرد هذا التفاوت إلى تفضيل الله لبعضهم على بعض في الرزق. ولهذا التفضيل في الرزق أسبابه الخاضعة لسنة الله. فليس شيء من ذلك جزافا ولا عبثا. وقد يكون الإنسان مفكرا عالما عاقلا، ولكن موهبته في الحصول على الرزق وتنميته محدودة، لأن له مواهب في ميادين أخرى. وقد يبدو غبيا جاهلا ساذجا، ولكن له موهبة في الحصول على المال وتنميته.
والناس مواهب وطاقات. فيحسب من لا يدقق أن لا علاقة للرزق بالمقدرة، وإنما هي مقدرة خاصة في جانب من جوانب الحياة. وقد تكون بسطة الرزق ابتلاء من الله، كما يكون التضييق فيه لحكمة يريدها ويحققها بالابتلاء.. وعلى أية حال فإن التفاوت في الرزق ظاهرة ملحوظة تابعة لاختلاف في المواهب -وذلك حين تمتنع الأسباب المصطنعة الظالمة التي توجد في المجتمعات المختلة- والنص يشير إلى هذه الظاهرة التي كانت واقعة في المجتمع العربي؛ ويستخدمها في تصحيح بعض أوهام الجاهلية الوثنية التي يزاولونها، والتي سبقت الإشارة إليها. ذلك حين كانوا يعزلون جزءا من رزق الله الذي أعطاهم ويجعلونه لآلهتهم المدعاة. فهو يقول عنهم هنا: إنهم لا يردون جزءا من أموالهم على ما ملكت أيمانهم من الرقيق -وكان هذا أمرا واقعا قبل الإسلام -ليصبحوا سواء في الرزق. فما بالهم يردون جزءا من مال الله الذي رزقهم إياه على آلهتهم المدعاة؟ (أفبنعمة الله يجحدون؟) فيجازون النعمة بالشرك، بدل الشكر للمنعم المتفضل الوهاب؟.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ووجه الاستدلال به على التصرّف القاهر أن الرزق حاصل لِجميع الخلق وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ولا على استحقاقهم؛ ... ولذلك أسند التفضيل في الرزق إلى الله تعالى لأن أسبابه خارجة عن إحاطة عقول البشر، والحكيم لا يستفزّه ذلك بعكس قول ابن الراوندي:... فجملة "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق "مقدمة للدّليل ومنّة من المنن لأن التفضيل في الرزق يقتضي الإنعام بأصل الرزق...
وليست الجملة مناط الاستدلال، إنما الاستدلال في التمثيل من قوله تعالى: {فما الذين فضلوا برادي رزقهم} الآية...
وقد تمّ الاستدلال عند قوله تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} بطريقة الإيجاز، كما قيل: لمحة دالة...
وفرع على هذه الجملة تفريع بالفاء على وجه الإدماج قولُه تعالى: {فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء}. وهو إدماج جاء على وجه التمثيل لتبيان ضلال أهل الشرك حين سَوّوا بعض المخلوقات بالخالق فأشركوها في الإلهية فساداً في تفكيرهم...
ورشاقة هذا الاستدلال أن الحالتين المشبّهتين والمشبّه بهما حالتا مولى وعبد، كما قال تعالى: {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} [سورة الروم: 28]...
والغرض من التمثيل تشنيع مقالتهم واستحالة صدقها بحسب العرف، ثم زيادة التشنيع بأنهم رضوا لله ما يرضونه لأنفسهم، كقوله تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} إلى قوله: {ولله المثل الأعلى} [سورة النحل: 57، 60]...
وقرينة التمثيل والمقصد منه دلالة المقام...
والرادّ: المعطي. كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم « والخُمُس مردود عليكم» أي فما هم بمعطين رزقهم لعبيدهم إعطاء مشاطرة بحيث يسوّونهم بهم، أي فما ذلك بواقع...
وإسناد الملك إلى اليمين مجاز عقلي، لأن اليمين سبب وَهمِي للمِلك، لأن سبب الملك إما أسر وهو أثر للقتال بالسيف الذي تمسكه اليد اليمنى، وإما شراء ودفع الثمن يكون باليد اليمنى عرفاً، فهي سبب وهَمي ناشئ عن العادة...
ونكتته أنهم لما كان المقصود من الاستدلال المشركين فكانوا موضع التوبيخ ناسب أن يعرض عن خطابهم وينالهم المقصود من التوبيخ بالتعريض... ثم صرّح بما وقع التعريض به بقوله: {أفبنعمة الله يجحدون}...
لو نظرنا إلى الكون من حولنا لوجدنا أننا لا نتساوى إلا في شيء واحد فقط، هو أننا عبيد لله.. نحن سواسية في هذه فقط، وما دون ذلك فنحن مختلفون فيه، تختلف ألواننا، تختلف أجسامنا.. صورنا.. مواهبنا.. أرزاقنا.
والعجيب أن هذا الاختلاف هو عين الاتفاق؛ ذلك لأن الاختلاف قد ينشأ عنه الاتفاق، والاتفاق قد ينشأ عنه الاختلاف...
فالحق سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين في أشياء، وأراد أن يكون هذا الاختلاف تكاملاً فيما بيننا.. فكيف يكون التكامل إذن؟
هل نتصور مثلاً أن يوجد إنسان مجمعاً للمواهب، بحيث إذا أراد بناء بيت مثلاً، كان هو المهندس الذي يرسم، والبناء الذي يبني، والعامل الذي يحمل، والنجار والحداد والسباك.. الخ. هل نتصور أن يكون إنسان هكذا؟.. لا..
ولكن الخالق سبحانه نثر هذه المواهب بين الناس نثراً؛ لكي يظل كل منهم محتاجاً إلى غيره فيما ليس عنده من مواهب، وبهذا يتم التكامل في الكون.
إذن: الخلاف بيننا هو عين الوفاق، وهو آية من آياته سبحانه، وحكمة أرادها الخالق جل وعلا، فقال: {ولا يزالون مختلفين "118 "} (سورة هود)، فقد خلقنا هكذا. وإلا فلو اتحدنا واتفقنا في المواهب، فهل يعقل أن نكون جميعاً فلاسفة، أطباء، علماء، فمن يبني؟ ومن يزرع؟ ومن يصنع؟.. الخ
إذن: من رحمة الله أن جعلنا مختلفين متكاملين. فالحق سبحانه يقول: {في الرزق.. "71 "} (سورة النحل): ينظر الناس إلى الرزق من ناحية واحدة، فهو عندهم المال، فهذا غني وهذا فقير.. والحقيقة أن الرزق ليس المال فقط، بل كل شيء تنتفع به فهو رزقك.. فهذا رزقه عقله، وهذا رزقه قوته العضلية.. هذا يفكر، وهذا يعمل.
إذن: يجب ألا ننظر إلى الرزق على أنه لون واحد، بل ننظر إلى كل ما خلق الله لخلقه من مواهب مختلفة: صحة، قدرة، ذكاء، حلم، شجاعة.. كل هذا من الرزق الذي يحدث فيه التفاضل بين الناس.
والحق سبحانه وتعالى حينما تعرض لقضية الرزق جعل التفاضل هنا مبهماً، ولم تحدد الآية من الفاضل ومن المفضول، فكلمة بعض مبهمة؛ لنفهم منها أن كل بعض من الأبعاض فاضل في ناحية، ومفضول في ناحية أخرى.. فالقوي فاضل على الضعيف بقوته، وهو أيضاً مفضول، فربما كان الضعيف فاضلاً بما لديه من علم أو حكمة.. وهكذا.
إذن: فكل واحد من خلق الله رزقه الله موهبة، هذه الموهبة لا تتكرر في الناس حتى يتكامل الخلق ولا يتكررون.. وإذا وجدت موهبة في واحد وكانت مفقودة في الآخر، فالمصلحة تقتضي أن يرتبط الطرفان، لا ارتباط تفضل، وإنما ارتباط حاجة.. كيف؟
القوي يعمل للضعيف الذي لا قوة له يعمل بها، فهو إذن فاضل في قوته، والضعيف فاضل بما يعطيه للقوي من مال وأجر يحتاجه القوي ليقوت نفسه وعياله، فلم يشأ الحق سبحانه أن يجعل الأمر تفضلاً من أحدهما على الآخر، وإنما جعله تبادلاً مرتبطاً بالحاجة التي يستبقي بها الإنسان حياته.
وهكذا يأتي هذا الأمر ضرورة، وليس تفضيلاً من أحد؛ لأن التفضل غير ملزم به فليس كل واحد قادراً على أن يعطي دون مقابل، أو يعمل دون أجر.. إنما الحاجة هي التي تحكم هذه القضية.
إذن: ما الذي ربط المجتمع؟ هي الحاجة لا التفضل، ومادام العالم سيرتبط بالحاجة، فكل إنسان يرى نفسه فاضلاً في ناحية لا يغتر بفاضليته، بل ينظر إلى فاضلية الآخرين عليه؛ وبذلك تندك سمة الكبرياء في الناس، فكل منهما يكمل الآخر...
فالجميع إذن في الكون سواسية، ليس فينا من بينه وبين الله سبحانه نسب أو قرابة فيجامله.. كلنا عبيد لله، وقد نثر الله المواهب في الناس جميعاً؛ ليتكاملوا فيما بينهم، وليظل كل منهم محتاجاً إلى الآخر، وبهذا يتم الترابط في المجتمع.
وقد عرضت هذه القضية في آية أخرى في قوله تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخرياً.. "32 "}
البعض يفهم أن الفقير مسخر للغني، لكن الحقيقة أن كلاً منهما مسخر للآخر.. فالفقير مسخر للغني حينما يعمل له العمل، والغني مسخر للفقير حينما يعطي له أجره...
فقوله تعالى: {ليتخذ بعضهم بعضا سخرياً} (سورة الزخرف 32).
من منا يسخر الآخر؟! كل منا مسخر للآخر، أنت مسخر لي فيما تتقنه، وأنا مسخر لك فيما أتقنه.. هذه حكمة الله في خلقه؛ ليتم التوازن والتكامل بين أفراد المجتمع.
وربنا سبحانه وتعالى لم يجعل هذه المهن طبيعية فينا.. يعني هذا لكذا وهذا لكذا.. لا.. الذي يرضى بقدر الله فيما يناسبه من عمل مهما كان حقيراً في نظر الناس، ثم يتقن العمل ويجتهد فيه، ويبذل فيه وسعه، يقول له الحق سبحانه: ما دمت رضيت بقدري في هذا العمل لأرفعنك به رفعة يتعجب لها الخلق..
ولا تنظر إلى زاوية واحدة في الإنسان، ولكن انظر إلى مجموع الزوايا، وسوف تجد أن الحق سبحانه عادل في تقسيم المواهب على الناس.
وقد ذكرنا أنك لو أجريت معادلة بين الناس لوجدت مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان، بمعنى أنك لو أخذت مثلاً: الصحة والمال والأولاد والقوة والشجاعة وراحة البال والزوجة الصالحة والجاه والمنزلة.. الخ لوجدت نصيب كل منا في نهاية المعادلة يساوي نصيب الآخر، فأنت تزيد عني في القوة، وأنا أزيد عنك في العلم، وهكذا.. لأننا جميعاً عبيد لله، ليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة.
وقوله تعالى: {فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم}:
فما ملكت أيمانهم: هم العبيد المماليك.. والمعنى: أننا لم نر أحداً منكم فضله الله بالرزق، فأخذه ووزعه على عبيده ومماليكه، أبداً.. لم يحدث ذلك منكم.. والله سبحانه لا يعيب عليهم هذا التصرف، ولا يطلب منهم أن يوزعوا رزق الله على عبيدهم، ولكن في الآية إقامة للحجة عليهم، واستدلال على سوء فعلهم مع الله سبحانه وتعالى.
وكأن القرآن يقول لهم: إذا كان الله قد فضل بعضكم في الرزق، فهل منكم من تطوع برزق الله له، ووزعه على عبيده؟.. أبداً.. لم يحدث منكم هذا.. فكيف تأخذون حق الله في العبودية والألوهية وحقه في الطاعة والعبادة والنذر والذبح، وتجعلونه للأصنام والأوثان؟! فأنتم لم تفعلوا ذلك فيما تملكون.. فكيف تسمحون لأنفسكم أن تأخذوا حق الله، وتعطوه للأصنام والأوثان؟
ويقول تعالى في آية أخرى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم} (سورة الروم 28)، أي: أنكم لم تفعلوا هذا مع أنفسكم، فكيف تفعلونه مع الله؟ فهذه لقطة: أنكم تعاملون الله بغير ما تعاملون به أنفسكم: {فهم فيه سواء}، أي: أنكم سويتم بين الله سبحانه وبين أصنامكم، وجعلتموهم شركاء له سبحانه وتعالى وتعبدونهم مع الله.
والحق سبحانه وإن رزقنا وفضلنا فقد حفظ لنا المال، وحفظ لنا الملكية، ولم يأمرنا أن نعطي أموالنا للناس دون عمل وتبادل منافع، فإذا ما طلب منك أن تعطي أخاك المحتاج فوق ما افترض عليك من زكاة يقول لك: {من ذا الذي يقرض قرضاً حسناً فيضاعفه له} (سورة البقرة 245)، مع أن الحق سبحانه واهب الرزق والنعم، يطلب منك أن تقرضه، وكأنه سبحانه يحترم عملك ومجهودك، ويحترم ملكيتك الخاصة التي وهبها لك.. فيقول: أقرضني. لعلمه سبحانه بمكانة المال في النفوس، وحرص المقرض على التأكد من إمكانية الأداء عند المقترض، فجعل القرض له سبحانه؛ لتثق أنت أيها المقرض أن الأداء مضمون من الله.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله: {أفبنعمة الله يجحدون}، أي: بعد أن أنعم الله عليهم بالرزق، ولم يطلب منهم أن ينثروه على الغير، جحدوا هذه النعمة، وأنكروا فضل الله، وجعلوا له شركاء من الأصنام والأوثان، وأخذوا حق الله في العبودية والألوهية وأعطوه للأصنام والأوثان، وهذا عين الجحود وإنكار الجميل.