المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

41- يا أيها الرسول لا يحزنك صنع الكافرين الذين ينتقلون في مراتب الكفر من أدناها إلى أعلاها ، مسارعين فيها ، من هؤلاء المخادعين الذين قالوا : آمنا بألسنتهم ولم تذعن للحق قلوبهم ، ومن اليهود الذين يكثرون الاستماع إلى مفتريات أحبارهم ويستجيبون لها ، ويكثرون الاستماع والاستجابة لطائفة منهم ولم يحضروا مجلسك تكبراً وبغضاً ، وهؤلاء يبدلون ويحرفون ما جاء في التوراة من بعد أن أقامه الله وأحكمه في مواضعه ، ويقولون لأتباعهم : إن أوتيتم هذا الكلام المحرّف المبدّل فاقبلوه وأطيعوه ، وإن لم يأتكم فاحذروا أن تقبلوا غيره ، فلا تحزن ، فمن يرد الله ضلاله لانغلاق قلبه فلن تستطيع أن تهديه أو أن تنفعه بشيء لم يرده الله له ، وأولئك هم الذين أسرفوا في الضلال والعناد لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من دنس الحقد والعناد والكفر ، ولهم في الدنيا ذل بالفضيحة والهزيمة ، ولهم في الآخرة عذاب شديد عظيم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

قوله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } ، أي : في مولاة الكفار ، فإنهم لن يعجزوا الله .

قوله تعالى : { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } ، وهم المنافقون .

قوله تعالى : { ومن الذين هادوا } ، يعني : اليهود .

قوله تعالى : { سماعون } ، أي : قوم سماعون .

قوله تعالى : { للكذب } ، أي قابلون للكذب ، كقول المصلي : سمع الله لمن حمده ، أي : قبل الله ، وقيل : سماعون لأجل الكذب ، أي يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون ويقولون : سمعنا منه كذا ، ولم يسمعوا ذلك منه .

قوله تعالى : { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } ، أي هم جواسيس ، يعني : بني قريظة { لقوم آخرين } وهم أهل خيبر . وذلك أن رجلاً وامرأةً من أشراف أهل خيبر زنيا ، وكانا محصنين ، وكان حدهما الرجم في التوراة ، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما ، فقالوا : إن هذا الرجل بيثرب ليس في كتابه الرجم ، ولكنه الضرب ، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه ، وصلح له ، فليسألوه عن ذلك . فبعثوا رهطاً منهم مستخفين ، وقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما ؟ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه ، وأرسلوا معهم الزانيين ، فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير ، فقالوا لهم : إنكم جيران هذا الرجل ، ومعه في بلده ، وقد حدث فينا حدث فلان وفلانة ، قد فجرا وقد أحصنا ، فنحب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه فيه ، فقالت لهم قريظة والنضير : إذاً والله يأمركم بما تكرهون . ثم انطلق قوم ، منهم كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وسعيد بن عمرو ، ومالك بن الصيف ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هل ترضون بقضائي ؟ قالوا : نعم . فنزل جبريل عليه السلام بالرجم ، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به . فقال له جبريل عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه له . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تعرفون شاباً أمرد ، أعور ، يسكن فدك ، يقال له ابن صوريا ؟ قالوا : نعم ، قال : فأي رجل هو فيكم ؟ فقالوا : هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام في التوراة . قال صلى الله عليه وسلم : فأرسلوا إليه ففعلوا ، فأتاهم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم ، قال : أنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون ؟ قال : أتجعلونه بيني وبينكم ؟ قالوا : نعم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي نزل التوراة على موسى عليه السلام ، و أخرجكم من مصر ، وفلق لكم البحر ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، والذي ظلل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المن و السلوى ، وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه ، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ؟ قال ابن صوريا : نعم ، والذي ذكرتني به لولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت ، أو غيرت ما اعترفت لك ، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد ؟ قال : إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم . فقال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فما كان أول ما ترخصتم به أمر الله ؟ ، قال : كنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ، ثم زنى رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه ، فقالوا : والله لا يرجم حتى يرجم فلان لابن عم الملك فقلنا : تعالوا نجتمع فلنصنع شيئاً دون الرجم يكون على الوضيع والشريف ، فوضعنا الجلد والتحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ، ثم يسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين ووجوههما من قبل دبر الحمار ، ويطاف بهما ، فجعلوا هذا مكان الرجم ، فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ، ولكنك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك ، فقال لهم : إنه قد أنشدني بالتوراة ، ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته به ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده ، وقال : ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال : إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها لآية الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله : ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا فيها آية الرجم ، قالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .

وقيل : سبب نزول هذه الآية القصاص ، وذلك أن بني النضير كان لهم فضل على بني قريظة ، فقال بنو قريظة : يا محمد إخواننا بنو النضير ، أبونا واحد ، وديننا واحد ، ونبينا واحد ، إذا قتلوا منا قتيلاً لم يقيدونا وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل ، وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا ، وبالرجل منهم الرجلين منا ، وبالعبد حرا منا ، وجراحتنا على التضعيف من جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والأول أصح . لأن الآية في الرجم . قوله : { ومن الذين هادوا سماعون للكذب } ، قيل : اللام بمعنى إلى ، وقيل : هي لام كي ، أي : يسمعون لكي يكذبوا عليك ، واللام في قوله : { لقوم } أي : لأجل قوم آخرين { لم يأتوك } وهم أهل خيبر .

قوله تعالى : { يحرفون الكلم } ، جمع كلمة .

قوله تعالى : { من بعد مواضعه } ، أي : من بعد وضعه موضعه ، وإنما ذكر الكناية رداً على لفظ الكلم .

قوله تعالى : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } . أي : إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا .

قوله تعالى : { وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته } ، كفره وضلالته ، قال الضحاك : هلاكه ، وقال قتاده : عذابه .

قوله تعالى : { فلن تملك له من الله شيئاً } ، فلن تقدر على دفع أمر الله فيه .

قوله تعالى : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } ، وفيه رد على من ينكر القدر . قوله تعالى : { لهم في الدنيا خزي } . أي : للمنافقين واليهود ، فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم ، وخزي اليهود الجزية ، أو القتل ، والسبي ، أو النفي ، ورؤيتهم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون .

قوله تعالى : { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } ، الخلود في النار .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

{ 41 - 44 } { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }

كان الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان ، ثم يرجع إلى الكفر ، فأرشده الله تعالى ، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء . فإن هؤلاء لا في العير ولا في النفير . إن حضروا لم ينفعوا ، وإن غابوا لم يفقدوا ، ولهذا قال مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم - فقال : { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } فإن الذين{[264]}  يؤسى ويحزن عليهم ، من كان معدودا من المؤمنين ، وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا ، وحاشا لله أن يرجع هؤلاء عن دينهم ويرتدوا ، فإن الإيمان -إذا خالطت بشاشته القلوب- لم يعدل به صاحبه غيره ، ولم يبغ به بدلا .

{ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي : اليهود { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم ، المبني أمرهم على الكذب والضلال والغي . وهؤلاء الرؤساء المتبعون { لَمْ يَأْتُوكَ } بل أعرضوا عنك ، وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن مواضعه ، أي : جلب معان للألفاظ ما أرادها الله ولا قصدها ، لإضلال الخلق ولدفع الحق ، فهؤلاء المنقادون للدعاة إلى الضلال ، المتبعين للمحال ، الذين يأتون بكل كذب ، لا عقول لهم ولا همم . فلا تبال أيضا إذا لم يتبعوك ، لأنهم في غاية النقص ، والناقص لا يؤبه له ولا يبالى به .

{ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } أي : هذا قولهم عند محاكمتهم إليك ، لا قصد لهم إلا اتباع الهوى .

يقول بعضهم لبعض : إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم ، فاقبلوا حكمه ، وإن لم يحكم لكم به ، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك ، وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس .

{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } كقوله تعالى : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } أي : فلذلك صدر منهم ما صدر . فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي اتباع هواه ، وأنه إن حكم له رضي ، وإن لم يحكم له سخط ، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه ، كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به ، وافق هواه أو خالفه ، فإنه من طهارة القلب ، ودل على أن طهارة القلب ، سبب لكل خير ، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد .

{ لَهُم فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي : فضيحة وعار { وَلَهُم فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } هو : النار وسخط الجبار .


[264]:- كذا في ب، وفي أ: الذي.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

وبعد أن بين - سبحانه - ما بين من تكاليف قويمة ، وشرائع حكيمة ، تهدي من اتبعها إلى السعادة في الدنيا والآخرة . أتبع ذلك بالحديث عن بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود وأشباههم لكيد الدعوة الإِسلامية ، فذكر تلاعبهم بأحكامه - تعالى - ، ومحاولتهم فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم عند تقاضيهم أمامه ، وحذر - سبحانه - رسوله من مكرهم وساق له ما يسليه ويشرح صدره ، فقال - تعالى - :

{ ياأيها الرسول . . . }

وردت أحاديث متعددة في سبب نزول هذه الآيات الكريمة ، ومن ذلك : ما أخرجه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرواله أن رجلا منهم وامرأة قد زنيا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . فقال عبد الله بن سلام : كذبتم . إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها .

فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال له عبدالله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ؛ فيها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما .

فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يميل نحو المرأة يقيها الحجارة .

وروى مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود - أي قد وضع الفحم الأسود على وجهه للتنكيل به - .

فدعاهم فقال . هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال : انشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقال : لا والله ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، تجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه . وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد . فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع . فاجتمعنا على التحميم والجلد - مكان الرجم .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قال : فأمر به فرجم . قال : فأنزل الله - تعالى : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ } .

وأخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } { فأولئك هُمُ الظالمون } { فأولئك هُمُ الفاسقون } قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود . وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا . وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هاذ خوفا منكم ، فأما إذ قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم ، فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما بينهم .

ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم . ولقد صدقوا . ما أعطونا هذا إلا خوفا منا . فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم لا تحكموه . فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوه أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله - تعالى - : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ } إلى قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } قال ابن كثير - بعد أن ساق هذه الأحاديث وغيرها - فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بما يوافق حكم التوراة . وليس هذا من باب الإِكرام لهم بما يعتقدون صحته ، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله - تعالى - إليه بذلك وسؤالهم إياه عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تنواطأوا على كتمانه وجحوده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة . فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه ، ظهر زيفهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوه لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، ولهذا قالوا : { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } أي : إن حكم بالجلد والتحميم فاقبلوا حكمه ، { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } أي : وإن لم يحكم بذلك فاحذروا من قبوله واتباعه .

وبمطالعتنا لهذه الأحاديث التي وردت في سبب نزول الآيات ، نراها جميعها قد وردت بأسانيدها صحيحة وفي كتب السنة المعتمدة ، وأن بعها قد حكى أن الآيات نزلت في شأن القضية التي تحاكم فيها اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها قد حكى أنها نزلت في قضية دماء . ولا تعارض بين هذه الأحاديث ، فقد يكون هذان السببان قد حصلا في وقت واحد ، أو متقارب ، فنزلت هذه الآيات فيهما معا . وقد قرر العلماء أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات .

هذا ، وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بنداء من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال - سبحانه - : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هَادُواْ } .

قال القرطبي : قوله - تعالى - { لاَ يَحْزُنكَ } قرأ نفاع بضم الياء وكسر الزاي وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاي . والحزن خلاف السرور . ويقال : حزن الرجل - بالكسر - فهو حزن وحزين .

والمعنى : يأيها الرسول الكريم إن ربك يقول لك : لا تهتم ولا تبال بهؤلاء المنافقين ، وبأولئك اليهود الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة ، ويوقولن بأفواهم آمنا بك وصدقناك مع أن قلوبهم خالية من الإِيمان ، ومليئة بالنفاق والفسوق والعصيان .

. لا تهتم - أيها الرسول الكريم - بهؤلاء جميعا ، فإني ناصرك عليهم ، وكافيك شرهم .

وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة { ياأيها الرسول } تشريف له وتكريم وإشعار بأن وظيفته كرسول أن يبلغ رسالة الله دون أن يصرفه عن ذلك عناد المعاندين ، أو كفر الكافرين ، فإن تكاليف الرسالة تحتم عليه الصبر على أذى أعدائه حتى يحكم الله بينه وبينهم .

والنهي عن الحزن - وهو أمر نفسي لا اختيار للإِنسان فيه - المراد به هنا : النهي عن لوازمه ، كالإِكثار من محاولة تجديد شأن المصائب . وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام ، وتعز السلوى .

وفي هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيس لقلبه ، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور حتى لا يتأثر بها عند وقوعها .

وفي التعبير بقوله : { يُسَارِعُونَ فِي الكفر } ذم لهم على انحدارهم في دركات الكفر بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر . فهم يتنقلون بحركات سريعة في ثنايا الكفر ومداخلة دون أن يزعهم وازع من خلق أو دين .

قال صاحب الكشاف : يقال : اسرع فيه الشيب ، وأسرع في الفساد بمعنى : وقع فيه سريعا . فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه ، بحيث إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها .

وقال أبو السعود : والمسارعة في الشيء : الوقوع فيه بسرعة ورغبة . وإيثار كلمة ( في ) على كلمة إلى ، للإِيمان إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه .

وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها ، كإظهار موالاة المشركين ، وإبراز آثار الكيد للإِسلام ونحو ذلك .

وقوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } بيان لأولئك المسارعين في الكفر .

والمتنقلين في دركاته من دركة إلى دركة .

وقوله ( بأفواههم ) متعلق بقوله : ( قالوا ) وقوله : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } جملة حالية من ضمير ، قالوا .

وقوله : { وَمِنَ الذين هَادُواْ } معطوف على قوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِم } وعليه فيكون الذين هادوا داخلين في الذين يسارعون في الكفر .

أي أن المسارعين في الكفر فريقان : فريق المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وفريق اليهود الذين تميزوا بهذا الإِسم واشتركوا مع المنافقين في نفاقهم والمعنى : لا تهتم يا محمد بأولئك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود الذين من صفاتهم أنهم يظهرون الإِيمان على أطراف ألسنتهم والحال أن قلوبهم خالية منه .

وعلى هذا المعنى يكون الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { وَمِنَ الذين هَادُواْ } ويكون ما بعده وهو قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } . إلخ . من أوصاف الفريقين معا ، لأنهم مشتركون في المسارعة في الكفر .

ومنهم من يرى أن قوله تعالى : { وَمِنَ الذين هَادُواْ } جملة مستأنفة لبيان أحوال فريق آخر من الناس وهم اليهود ، وأن قوله - تعالى - بعد ذلك { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } إلخ .

من أوصاف هؤلاء اليهود ، وأن الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } وأن البيان بقوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } لفريق المنافقين .

قال الفخر الرازي : قوله { وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } ذكر الفراء والزجاج ها هنا وجهين :

الأول : أن الكلام إنما يتم عند قوله : { وَمِنَ الذين هَادُواْ } ثم يبدأ الكلام من قوله { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين للكذب .

الثاني : أن الكلام تم عند قوله - تعالى - : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ثم ابتدأ من قوله : { وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } وعلى هذا التقدير فقوله ( سماعون ) صفة لمحذوف .

والتقدير : ومن الذين هادوا قوم سماعون .

قال الجمل : الأولى والأحسن أن يكون قوله : و { وَمِنَ الذين هَادُواْ } معطوفا على البيان وهو قوله : { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا } فيكون البيان بشيئين المنافقين واليهود . أما على القول الثاني فيكون البيان بشيء واحد وهو المنافقون .

وقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } صفتان أخريان لأولئك الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة .

وقوله : ( سماعون ) جمع سماع . وهو صيغة مبالغة جيء بها لا فادة أنهم كثيروا السماع للكذب ، وأنهم لفساد نفوسهم يجدون لذة في الاستماع إليه من رؤسائهم وأحبارهم ، ومن هم على شاكلتهم في العناد والضلال .

واللام في قوله : ( للكذب ) للتقوية أي : أنهم يسمعون الكذب كثيراً سماع قبول وتلذذ ، ويأخذونه ممن يقوله من أعداء الإِسلام على أنه حقائق ثابتة لا مجال للريب فيها .

وقيل إن اللام للتعليل أي أنهم كثيرو السماع لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولأخباره من أجل الكذب عليه ، عن طريق تغيير وتبديل ما سمعوه على حسب ما تهواه نفوسهم المريضة .

وقوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } بيان لمسلك آخر من مسالكهم الخبيثة بعد بيان احتفالهم بالأخبار الكاذبة ، وتقبلها بفرح وسرور .

أي : أن هؤلاء المسارعين في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم أنهم كثيروا السماع للأكاذيب التي يروجها أعداء الدعوة الإِسلامية ضدها كثيرو السماع والقبول والاستجابة لما يقوله عنها قوم آخرون من أعدائها لم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تكبرا وعتوا ويجوز أن يكون المعنى : أنهم كثيروا السماع للكذب عن محبة ورغبة ، وأنهم كثيروا السماع لما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم لينقلوه إلى قوم آخرين - من أشباههم في الكفر والعناد - ولم يحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضاً فأنت ترى أن القرآن قد وصفهم بفساد بواطنهم حيث استحبوا الكذب على الصدق .

كما وصفهم بضعف نفوسهم حيث صاروا مطايا لغيرهم يطيعون أمرهم ويبلغون أخبار المسلمين ، فهم عيون على المسلمين ليبلغوا أخبارهم إلى زعماء الكفر والنفاق .

وإلى هذين المعنيين أشار صاحب الكشاف بقوله : ومعنى { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } : قابلون لما بفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه ، من قولك : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه سمع الله لمن حمده .

وقوله : { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } يعني اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرد فيهم من شدة البغضاء . وتبالغ من العداوة ، أي : قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك وقيل : سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه ، بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهودهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه .

وقوله : { يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } صفة أخرى للقوم الآخرين الذين لم يأتوا إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم أنفة وبغضاً . أو للمسارعين في الكفر من الفريقين .

وقوله : { يُحَرِّفُونَ } من التحريف وأصله من الحرف وهو طرف الشيء .

ومعناه إمالة الكلام عن معناه ، وإخراجه عن أطرافه وحدوده .

والكلم : اسم جنس جمعي للفظ كلمة ومعناه الكلام .

أي أن هؤلاء القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلسك نفورا منك ، أو هم والمسارعون في الكفر من المنافقين واليهود من صفاتهم ودأبهم تحريف جنس الكلم عن مواضعه . فهو يحرفون كلامك يا محمد ، ويحرفون التوراة ، ويحرفون معاني القرآن حسب أهوائهم وشهواتهم ويحرفون الحق الذي جئت به تارة تحريفاً لفظياً ، وتارة تحريفاً معنوياً ، وتارة بغير ذلك من وجوه التحريف والتبديل .

وقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : يحرفون الكلم من بعد استقرار مواضعه وبيان حلالها وحرامها .

وعبر هنا " من بعد مواضعه " وفي مواطن أخرى بقوله { عَن مَّوَاضِعِهِ } لأن المقام هنا للحديث عن الأحكام المستقرة الثابتة التي حاول أولئك المسارعون في الكفر تغييرها وإحلال أحكام أخرى محلها تبعاً لأهوائهم كما حدث في قضية الزنا وفي غيرها من القضايا التي تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب هنا التعبير بقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : من بعد استقرار مواضعه وثبوتها لا يقبل التحريف أو التغيير أو الإِهمال .

وقوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } بيان لما نطقت به أفواه أولئك الذين لم يحضروا مجالس رسول الله من مكر وخداع وضلال .

أي : أن أولئك القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا وتكبرا لم يكتفوا بتحريف الكلم عن مواضعه هم وأشياعهم .

بل كانوا إلى جانب ذلك يقولون لمطاياهم السامعين منهم أو السامعين من أجلهم : يقولن لهم عندما أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } أي : إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم يمثل هذا الذي نفتيكم به - كالجلد والتحميم بدل الرجم - فاقبلوا حكمه وخذوه واعملوا به { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } أي : وإن أفتاكم بغير ما أفتيناكم به فاحذروا قبول حكمه ، وإياكم أن تستجيبوا له ، أو تميلوا إلى ما قاله لكم .

واسم الإِشارة هذا في قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا } يعود إلى القول المحرف الذي تواضع أحبار اليهود على الإِفتاء به تبعاً لأهوائهم . كما حدث منهم في قضية الزنا حيث غيروا حكم الرجم بحكم آخر هو الجلد والتحميم .

وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف ، إشارة إلى تخوفهم الشديد من ميل أتباعهم إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يحذرونهم بشدة من الاستماع إلى ما يقوله لهم مما يخالف ما تواضعوا عليه من أباطيل .

وقوله : { إِنْ أُوتِيتُمْ } مفعول لقوله : ( يقولون ) واسم الإِشارة ( هذا ) مفعول ثان " لأوتيتم " والأول نائب الفاعل وقوله : ( فخذوه ) جواب الشرط ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

أي : ومن يقض الله بكفره وضلاله ، فلن تملك له - أيها الرسول الكريم - شيئا من الهداية لتدفع بها ضلالة وكفره ، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة لم يرد الله - تعالى - أن يطهر قلوبهم من النفاق والضلال ؛ لأنهم استحبوا العمى على الهدى ، { لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } أي : فضيحة وهوان بسبب ظهور كذبهم ، وفساد نفوسهم ، وانتشار تعاليم الإسلام التي يحاربونها ويشيعون الأباطيل حولها وحول من جاء بها صلى الله عليه وسلم .

{ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو خلودهم في النار بسبب اجتراحهم السيئات ، ومحاربتهم لمن جاءهم بالحق والهدى والسعادة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

استئناف ابتدائي لتهوين تألّب المنافقين واليهود على الكذب والاضطراب في معاملة الرّسول صلى الله عليه وسلم وسوء طواياهم معه ، بشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ممَّا عسى أن يحزنه من طيش اليهود واستخفافهم ونفاق المنافقين . وافتتح الخطاب بأشرف الصّفات وهي صفة الرّسالة عن الله .

وسبب نزول هذه الآيات حدَث أثناء مدّة نزول هذه السّورة فعقّبت الآيات النّازلة قبلها بها . وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه هو ما رواه أبو داوود ، والواحدي في « أسباب النّزول » ، والطبري في « تفسيره » ما محصّله : أنّ اليهود اختلفوا في حدّ الزاني ( حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فَدَك ) ، بَين أن يُرجم وبين أن يجلد ويحمَّم اختلافاً ألجأهم إلى أن أرسلوا إلى يهود المدينة أن يحكِّموا رسول الله في شأن ذلك ، وقالوا : إنْ حكم بالتّحميم قبِلْنا حكمَه وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه ، وأنّ رسول الله قال لأحبارهم بالمدينة : " ما تجدون في التّوراة على من زنى إذا أحْصن " ، قالوا : يحمّم ويُجلد ويطاف به ، وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كذّبهم وأعلمهم بأنّ حكم التّوراة هو الرّجم على من أحصَن ، فأنكروا ، فأمر بالتّوراة أن تنشر ( أي تفتَح طيّاتها وكانوا يلفّونها على عود بشكل اصطواني ) وجعَل بعضُهم يقرأها ويضع يده على آية الرجم ( أي يقرؤها للّذين يفهمونها ) فقال له رسول الله : ارفع يدك فرفع يده فإذا تحتها آية الرّجم ، فقال رسول الله : " لأكونَن أوّل من أحيَى حُكم التّوراة " فحكم بأنّ يُرجم الرجل والمرأةُ . وفي روايات أبي داوود أنّ قوله تعالى : { يأيّها الرّسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر } نزل في شأن ذلك ، وكذلك روى الواحدي والطبري .

ولم يذكروا شيئاً يدلّ على سبب الإشارة إلى ذكر المنافقين في صدر هذه الآية بقوله : { من الّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } . ولعلّ المنافقين ممّن يبطنون اليهوديّة كانوا مشاركين لليهود في هذه القضية ، أو كانوا ينتظرون أن لا يوجد في التّوراة حكم رجم الزّاني فيتّخذوا ذلك عذراً لإظهار ما أبطنوه من الكفر بعلّة تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم .

وأحسب أنّ التجاء اليهود إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ليس لأنّهم يصدّقون برسالته ولا لأنّهم يعُدّون حكمهُ ترجيحاً في اختلافهم ولكن لأنّهم يَعدّونه ولي الأمر في تلك الجهة وما يتبعها . ولهم في قواعد أعمالهم وتقادير أحْبارهم أن يطيعوا ولاة الحكم عَليهم من غير أهل ملّتهم . فلمّا اختلفوا في حكم دينهم جعلوا الحكم لغير المختلفين لأنّ حكم وليّ الأمر مطاع عندهم . فحكَم رسول الله حكماً جمع بين إلزامهم بموجب تحكيمهم وبين إظهار خَطَئهم في العدول عن حكم كتابهم ، ولذلك سمّاه الله تعالى القسط في قوله : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } .

ويحتمل أن يكون ناشئاً عن رأي من يثبت منهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ويقول : إنّه رسول للأميّين خاصّة . وهؤلاء هم اليهود العيسوية ، فيكون حكمه مؤيّداً لهم ، لأنّه يعدّ كالإخبار عن التّوراة ، ويؤيّده ما رواه أبو داوود عن أبي هريرة أنّ يهودياً زنى بيهوديّة فقال بعضهم لبعض : اذهبُوا بنا إلى محمّد فإنّه بُعث بالتّخفيف ، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قِبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فُتْيَا نبيء من أنبيائك ، وإمّا أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر . ويؤيّده ما رواه أبو داوود والترمذي أنّهم قالوا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ وإمّا أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقّفاً عند التّعارض فمالوا إلى التّحكيم . ولعلّ ذلك مباح في شرعهم ، ويؤيّده أنّه ورد في حديث البخاري وغيره أنّهم لمّا استفتوا النّبيء صلى الله عليه وسلم انطلق مع أصحابه حتّى جَاء المدارس وهو بيت تعليم اليهود وحاجَّهُم في حكم الرّجم ، وأجابه حَبران منهم يُدعيان بابْنَي صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم ، في التّوراة ؛ وإمّا أن يكونوا حكّموا النّبيء صلى الله عليه وسلم قصداً لاختباره فيما يدّعي من العلم بالوحي ، وكان حكم الرجم عندهم مكتوماً لا يعلمه إلاّ خاصّة أحبارهم ، ومنسياً لا يذكر بين علمائهم ، فلمّا حَكم عليهم به بهتوا ، ويؤيّد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرّجم . ففي « صحيح البخاري » أنّهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التّوراة وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم جاء المدراس فأمر بالتّوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنَا صوريا بها . وأيّامّا كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشّريعة بين اليهود يومئذٍ وضعف ثقتهم بعلومهم .

ومعنى { لا يحزنك الّذين يسارعون } نهيه عن أن يحصل له إحزانٌ مسند إلى الّذين يسارعون في الكفر . والإحزانِ فِعل الّذين يسارعون في الكفر ، والنّهي عن فعل الغير إنّما هو نهي عن أسبابه ، أي لا تجعلْهم يحْزنونك ، أي لا تهتمّ بما يفعلون ممّا شأنه أن يُدخِل الحزن على نفسك . وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركّب في معناه الكِنائي . ونظيره قولهم : لا أعرفَنَّك تفعل كذا ، أي لا تفعل حتّى أعرفَه . وقولهم : لا أُلفينّك هَهنا ، ولاَ أرَيَنّك هنا .

وإسناد الإحزان إلى الّذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأنّ الّذين يسارعون سبب في الإحزان ، وأمّا مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في العرف ؛ ولذلك فهو من المجاز الّذي ليست له حقيقة .

وأمّا كون الله هو موجد الأشياء كُلّها فذلك ليس ممّا تترتّب عليه حقيقة ومجاز ؛ إذ لو كان كذلك لكان غالب الإسناد مجازاً عقلياً ، وليس كذلك ، وهذا ممّا يغلط فيه كثير من النّاظرين في تعيين حقيقة عقليّة لبعض موارد المجاز العقلي . ولقد أجاد الشيخ عبد القاهر إذ قال في « دلائل الإعجاز » « اعلم أنّه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التّقدير إذا أنتَ نقلت الفعل إليه صار حقيقة فإنّك لا تجد في قولك : أقدمَني بَلَدَك حقّ لي على فلان ، فاعلاً سوى الحقّ » ، وكذلك في قوله :

وصَيّرني هَوَاكِ وبِي *** لِحَيْني يُضرب المثَل

و يزيدك وجهه حُسناً .

أنْ تزعم أن له فاعلاً قد نُقل عنه الفعل فجُعل للهوى وللوجه » اهـ . ولقد وَهِمَ الإمام الرازي في تبيين كلام عبد القاهر فطفق يجلب الشّواهد الدّالة على أنّ أفعالاً قد أسندت لفاعل مجازي مع أنّ فاعلها الحقيقي هو الله تعالى ، فإنّ الشّيخ لا يعزب عنه ذلك ولكنّه يبحث عن الفاعل الّذي يسند إليه الفعل حقيقة في عرف النّاس من مؤمنين وكافرين . ويدلّ لذلك قوله : « إذا أنتَ نقلت الفعل إليه » أي أسندتَه إليه .

ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة وفي كلّ فرصة ، فشبّه إظهاره المتكرّرُ بإسراع الماشي إلى الشيء ، كما يقال : أسرع إليه الشيب ، وقوله : إذا نهي السفيه جرى إليه . وعدّي بفي الدالّة على الظرفية للدلالة على أنّ الإسراع مجاز بمعنى التوغّل ، فيكون ( في ) قرينة المجاز ، كقولهم : أسْرع الفساد في الشيء ، وأسْرع الشيب في رأس فلان . فجعل الكفر بمنزلة الظّرف وجعل تخبّطهم فيه وشدّة ملابستهم إيّاه بمنزلة جولان الشّيء في الظرف جولاناً بنشاط وسرعة . ونظيره قوله { يسارعون في الإثم } [ المائدة : 62 ] ، وقوله : { نسارع لهم في الخيرات } المؤمنون : 56 ) ، { أولئك يسارعون في الخيرات } [ المؤمنون : 61 ] . فهي استعارة متكرّرة في القرآن وكلام العرب . وسيجيء ما هو أقوى منها وهو قوله : { يسارعون فيهم } [ المائدة : 52 ] .

وقوله : { من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم } إلخ بيان للّذين يسارعون في الكفر . والّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون .

وقوله : { ومن الّذين هادوا } معطوف على قوله : { من الّذين قالوا آمنّا } والوقفُ على قوله : { ومن الّذين هادوا } .