قوله عز وجل :{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه ، إن كنت نبياً ، كما كلمه موسى ونظر إليه ، فقال : لم ينظر موسى إلى الله عز وجل ، فأنزل الله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } يوحي إليه في المنام أو بالإلهام ، { أو من وراء حجاب } يسمعه كلامه ولا يراه ، كما كلمه موسى عليه الصلاة والسلام ، { أو يرسل رسولاً } إما جبريل أو غيره من الملائكة ، { فيوحي بإذنه ما يشاء } بنصب اللام والياء عطفاً على محل الوحي لأن معناه : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل رسولاً . { إنه علي حكيم }
{ 51-53 } { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ }
لما قال المكذبون لرسل الله ، الكافرون بالله : { لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } من كبرهم وتجبرهم ، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة ، وأن تكليمه تعالى لا يكون إلا لخواص خلقه ، للأنبياء والمرسلين ، وصفوته من العالمين ، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه .
إما أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وَحْيًا بأن يلقي الوحي في قلب الرسول ، من غير إرسال ملك ، ولا مخاطبة منه شفاها .
{ أَوْ } يكلمه منه شفاها ، لكن { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } كما حصل لموسى بن عمران ، كليم الرحمن .
{ أَوْ } يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي ، ف { يُرْسِلَ رَسُولًا } كجبريل أو غيره من الملائكة .
{ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ } أي : بإذن ربه ، لا بمجرد هواه ، { إِنَّهُ } تعالى علي الذات ، علي الأوصاف ، عظيمها ، علي الأفعال ، قد قهر كل شيء ، ودانت له المخلوقات . حكيم في وضعه كل شيء في موضعه ، من المخلوقات والشرائع .
ثم بين - سبحانه - الطرق التى بها يقع التكليم منه - تعالى - للمختارين من عباده فقال : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ . . } .
فهذه الآية الكريمة قد دلت على أن تكليم الله - تعالى - للبشر وقع على ثلاثة أوجه :
الأول : عن طريق الوحى ، وهو الإِعلام فى خفاء وسرعة عن طريق الإِلقاء فى القلب يقظة أو مناما ، ويشمل الإِلهام والرؤيا المنامية .
والوحى مصدر أوحى ، وقد غلب استعماله فيما يلقى للمصطفين الأخيار من الكلمات الإِلهية .
والثانى : عن طريق الإِسماع من وراء حجاب ، أى حاجز ، بأن يسمع النبى كلاما دون أن يرى من يكلمه ، كما حدث لموسى . عليه السلام - عندما كلمه ربه - عز وجل - ، وهذا الطريق هو المقصود بقوله - تعالى - : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } .
والثالث : عن طريق إرسال ملك ، وظيفته أن يبلغ الرسول ما أمره الله بتبليغه له ، وهو المقصود بقوله - تعالى - { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } .
وهذا الطريق الثالث قد وضحه الحديث الذى رواه الإِمام البخارى " عن عائشة - رضى الله عنها - أن الحارث بن هشام ، سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحى ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس - " وهو أشد على - أى : أحيانا يأتينى مشابها صوته وقوع الحديد بعضه على بعض - فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكملنى فأعى ما يقول .
قالت عائشة : ولقد رأيته - صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد ، فيصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقا .
والمعنى : وما صح وما استقام لبشر أن يكلمه الله - تعالى - فى من حال الأحوال إلا موحيا إليه ، أو مسمعا أياه ما يريد إسماعه له من وراء حجاب أو يرسل إليه ملكا ليبلغه ما يريده - سبحانه - منه .
وقوله - تعالى - { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } تعليل لما قبله ، أى : إنه - سبحانه - متعال عن صفات النقص ، حكيم فى كل أقواله وأفعاله .
وقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله } الآية نزلت بسبب خوض كان للكفار في معنى تكليم الله موسى ونحو ذلك ، ذهبت قريش واليهود في ذلك إلى تجسيم ونحوه ، فنزلت الآية مبينة صورة تكليم الله عباده كيف هو ، فبين الله أنه لا يكون لأحد من الأنبياء ولا ينبغي له ولا يمكن فيه أن يكلمه الله إلا بأن يوحي إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام . قال مجاهد ، والنفث في القلب{[10173]} . وقال النقاش : أو وحي في منام ؟ قال إبراهيم النخعي : كان من الأنبياء من يخط له في الأرض ونحو هذا ، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزاً كموسى عليه السلام ، وهذا معنى : { من وراء حجاب } أي من خفاء عن المتكلم لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه ، وليس كالحجاب في الشاهد ، أو بأن يرسل إليه ملكاً يشافهه بوحي الله تعالى . وقرأ جمهور القراء والناس : «أو يرسلَ » بالنصب «فيوحيَ » بالنصب أيضاً . وقرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة : «أو يرسلُ » بالرفع «فيوحيَ » بالنصب أيضاً . وقرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة : «أو يرسلُ » بالرفع «فيوحي » بسكون الياء ورفع الفعل . فأما القراءة الأولى فقال سيبويه : سألت الخليل عنها فقال : هي محمولة على { أن } غير التي في قوله : { أن يكلمه الله } لأن المعنى كان يفسد لو عطف على هذه ، وإنما التقدير في قوله : { وحياً } إلا أن يوحي وحياً .
وقوله : { من وراء حجاب } ، { من } متعلقة بفعل يدل ظاهر الكلام عليه ، تقديره : أو يكلمه من وراء حجاب ، ثم عطف : «أو يرسل » على هذا الفعل المقدر .
وأما القراءة الثانية فعلى أن «يرسل » في موضع الحال أو على القطع ، كأنه قال : أو هو يرسل ، وكذلك يكون قوله : { إلا وحياً } مصدر في موضع الحال ، كما تقول : أتيتك ركضاً وعدواً ، وكذلك قوله : { من وراء حجاب } في موضع الحال كما هو قوله : { ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين }{[10174]} في موضع الحال ، فكذلك { من } [ آل عمران : 46 ] وما عملت فيه هذه الآية أيضاً ، ثم عطف قوله : «أو يرسلَ » على هذه الحال المتقدمة . وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم ، وأن الحالف المرسل حانث إذا حلف أن لا يكلم إنساناً فأرسل إليه وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه{[10175]} .