الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

قوله :/ { أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ } : " أَنْ " ومنصوبُها اسمُ كان وليس " خبرَ " " ما " . وقال أبو البقاء : " أَنْ والفعلُ في موضع رفعٍ على الابتداءِ وما قبلَه الخبرُ ، أو فاعلٌ بالجارِّ لاعتمادِه على حرفِ النفي " وكأنه [ وَهِمَ في التلاوةِ ، فزعَم أنَّ القرآنَ : وما لبشَرٍ أَنْ يُكَلِّمه ] مع أنَّه يمكنُ الجوابُ عنه بتكلُّفٍ . و " إلاَّ وَحْياً " يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً أي : إلاَّ كلامَ وَحْيٍ . وقال أبو البقاء : " استثناءٌ منقطعٌ ؛ لأنَّ الوَحْيَ ليس من جنس الكلام " وفيه نظرٌ لأنَّ ظاهرَه أنه مُفرَّغٌ ، والمفرَّغُ لا يُوْصَفُ بذلك . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال .

قوله : " أو يُرْسِل " قرأ نافعٌ " يُرْسِلُ " برفع اللامِ ، وكذلك " فيوحِيْ " فسَكَنَتْ ياؤُه . والباقون بنصبهما . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجهٍ ، أحدها : أنَّه رفعٌ على إضمارِ مبتدأ أي : أو هو يُرْسِلُ . الثاني : أنه عطفٌ على " وَحْياً " على أنَّه حالٌ ؛ لأنَّ وَحْياً في تقديرِ الحال أيضاً ، فكأنه قال : إلاَّ مُوْحِياً أو مرسِلاً . الثالث : أَنْ يُعْطَفَ على ما يتعلَّقُ به " من وراءه " ، إذ تقديرُه : أو يُسْمِعُ مِنْ وراءِ حجاب ، و " وَحْياً " في موضعِ الحال ، عُطِف عليه ذلك المقدَّرُ المعطوفُ عليه " أَوْ يُرْسِلُ " . والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجابٍ ، أو مُرْسِلاً .

وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يُعْطَفَ على المضمرِ الذي يتعلَّقُ به { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } إذ تقديرُه : أو يُكَلِّمه مِنْ وراءِ حجابٍ . وهذا الفعلُ المقدَّر معطوفٌ على " وَحْياً " والمعنى : إلاَّ بوَحْي أو إسماعٍ مِنْ وراءِ حجاب أو إرسالِ رسولٍ . ولا يجوزُ أَنْ يُعَطفَ على " يكلِّمَه " لفسادِ المعنى . قلت : إذ يَصيرُ التقديرُ : وما كان لبشَرٍ أن يُرْسِلَ اللَّهُ رسولاً ، فَيَفْسُدُ لَفْظاً ومعنى . وقال مكي : " لأنَّه يَلْزَم منه نَفْيُ الرسلِ ونفيُ المُرْسَلِ إليهم " .

الثاني : أَنْ يُنْصَبَ ب " أنْ " مضمرةً ، وتكونَ هي وما نَصَبَتْه معطوفَيْن على " وَحْياً " و " وَحْياً " حالٌ ، فيكونَ هنا أيضاً [ حالاً : والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً أو مُرْسِلاً ] . وقال الزمخشري : " وَحْياً وأَنْ يُرْسِلَ مصدران واقعان موقعَ الحال ؛ لأنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالاً . و { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } ظرفٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أيضاً ، كقوله : { وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] . والتقدير : وما صَحَّ أَنْ يُكَلَّم أحداً إلاَّ مُوْحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجاب أو مُرسِلاً " . وقد رَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّ وقوعَ المصدرِ موقعَ الحالِ غيرُ منقاسٍ ، وإنما قاسَ منه المبردُ ما كان نوعاً للفعلِ فيجوزُ : " أتيتُه رَكْضاً " ويمنعُ " أَتَيْتُه بكاءً " أي : باكياً .

وبأنَّ " أَنْ يُرْسِلَ " لا يقعُ حالاً لنصِّ سيبويه على أنَّ " أَنْ " والفعلَ لا يَقَعُ حالاً ، وإن كان المصدرُ الصريحُ يقع حالاً تقولُ : " جاء زيد ضَحِكاً " ، ولا يجوز " جاء أَنْ يضحكَ " .

الثالث : أنَّه عطفٌ على معنى " وَحْياً " فإنَّه مصدرٌ مقدَّرٌ ب " أنْ " والفعلِ . والتقديرُ : إلاَّ بأَنْ يوحيَ إليه أو بأَنْ يُرْسِلَ ، ذكره مكي وأبو البقاء .

وقوله : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } العامَّةُ على الإِفراد . وابنُ أبي عبلةَ " حُجُبٍ " جمعاً . وهذا الجارُّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه : أو يُكَلِّمَه مِنْ وراء حجاب . وقد تقدَّم أن هذا الفعلَ معطوفٌ على معنى وَحْياً أي : إلاَّ أَنْ يوحيَ أو يكلِّمَه . قال أبو البقاء : " ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّق " مِنْ " ب " يُكَلِّمَه " الموجودةِ في اللفظِ ؛ لأنَّ ما قبل الاستثناءِ لا يعملُ فيما بعد إلاَّ " ، ثم قال : " وقيل : " مِنْ " متعلِّقةٌ ب " يُكلِّمه " لأنه ظرفٌ ، والظرفُ يُتَّسَعُ فيه " .