السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

ولما بين تعالى حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه فقال تعالى : { وما كان } أي : وما صح { لبشر } من الأقسام المذكورة وحل المصدر الذي هو اسم كان ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم الوجوه فقال تعالى : { أن يكلمه } وأظهر موضع الإضمار إعظاماً للوحي وتشريفاً لمقداره فقال تعالى : { الله } أي : يوجد الملك الأعظم الجامع بصفات الكمال في قلبه كلاماً { إلا } أن يوحي إليه { وحياً } أي : كلاماً خفياً يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إما بمشافهة كما ورد في حديث المعراج ، وإما بإلهام أو رؤية منام كما رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أن يذبح ولده ، أو بغير ذلك سواء خلق الله تعالى في المتكلم قوة السماع له وهو أشرف هذه الأقسام أم لا ومن الثاني قوله تعالى : { وأوحينا إلى أمّ موسى } ( القصص : 7 ) { وأوحى ربك إلى النحل } ( النحل : 68 ) { وأوحى في كل سماء أمرها } ( فصلت : 12 ) { أو } إلا { من وراء حجاب } أي : من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر كما وقع لموسى عليه السلام { أو يرسل رسولاً } من الملائكة إما جبريل عليه السلام أو غيره .

تنبيه : ذكر المفسرون : أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه ؟ فقال : «لم ينظر موسى إلى الله عز وجل فأنزل الله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً } ، { فيوحي } أي : الرسول إلى المرسل إليه أن يكلمه { بإذنه } أي : الله تعالى { ما يشاء } أي : الله عز وجل ، وقرأ نافع برفع اللام من يرسل وسكون الياء من يوحي والباقون بنصب اللام والياء أما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه رفع على إضمار مبتدأ ، أي : هو يرسل ، ثانيها : أنه عطف على وحياً على أنه حال لأن وحياً في تقدير الحال أيضاً فكأنه قال : إلا موحياً إليه أو مرسلاً ، ثالثها : أن يعطف على ما يتعلق به من وراء إذ تقديره أو يسمع من وراء حجاب ووحياً في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه أو يرسل ، والتقدير : إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً .

وأما القراءة الثانية : ففيها ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب إذ تقديره أو يكلمه من وراء حجاب وهذا الفعل المقدر معطوف على وحياً ، والمعنى : إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب أو إرسال رسول ، ولا يجوز أن يعطف على أن يكلمه لفساد المعنى إذ يصير التقدير : وما كان لبشر أن يرسل الله رسولاً بل يفسد لفظاً ومعنى ، وقال مكي : لأنه يلزم منه نفي الرسل ونفي المرسل إليهم ، ثانيها : أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على وحياً ووحياً حال فيكون هذا أيضاً حالاً والتقدير : إلا موحياً أو مرسلاً ، ثالثها : أنه معطوف على معنى وحياً فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير : إلا بأن يوحي إليه أو بأن يرسل ذكره مكي وأبو البقاء { إنه } أي : هذا الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم { علي } أي : بالغ العلو جداً عن صفات المخلوقين { حكيم } يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بواسطة وتارة بغير واسطة إما عياناً وإما من وراء حجاب .