تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

49

المفردات :

وحيا : إلقاء في القلب .

أو من وراء حجاب : أو يكلمه من وراء حجاب .

أو يرسل رسولا : أو يبعث الله الملك للأنبياء ليبلغهم ما أمر الله به .

التفسير :

51- { وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم } .

سبب النزول :

ذكر غير واحد من المفسرين أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا ، كما كلمه موسى ؟ فنزلت هذه الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لم ينظر موسى إلى الله تعالى ) .

الوحي نعمة من نعم الله على عباده ، وطريق إلى الهداية ، وفضل إلهي ترسله السماء إلى الأرض بواسطة مَلَك يختاره الله ليوحي إلى رسول مصطفى ومختار من عباد الله ، فما أجلّها من نعمة ، أن يتفضل الإله العلي الحكيم بإنزال هدايات السماء ؛ ليهدي العباد إلى الصراط المستقيم .

الوحي

ذكر الوحي في كتب علوم القرآن والتفسير على أنه الوسيلة التي يبلغ الله بها عباده التشريع والهداية ، بواسطة اختيار ملك كجبريل ينزل على رسول كمحمد صلى الله عليه وسلم .

ثلاث طرق

تفيد الآية الكريمة أن ما يبلغه الله إلى عباده يتم عن طريق واحدة من ثلاث طرق :

الأولى : إلقاء المعنى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق رؤيا منامية ، كما حدث لإبراهيم عليه السلام ، حين أمره الله بذبح ولده إسماعيل ، وأحيانا يلقي المعنى في قلب الرسول يقظة ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب )22 .

الثانية : سماع الرسول كلام الله من وراء حجاب ، بأن يسمعه الرسول من الله بدون واسطة ، متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يُرى سبحانه وتعالى ، كما كلم موسى عليه السلام ، وسمى الله ذلك وحيا ، فقال : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } . ( طه : 13 ) ، وقال سبحانه : { وكلّم الله موسى تكليما } . ( النساء : 164 ) . وكان موسى قد طلب الرؤية بعد التكلم فحجب عليها .

قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } . ( الأعراف : 143 ) .

الثالثة : أن يرسل الله تعالى ملكا من الملائكة إما جبريل أو غيره ، فيوحى ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء الله أن يوحى إليه ، كما كان جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة ينزلون على الأنبياء عليهم السلام ، والقرآن الكريم جميعه نزل عن طريق الوحي الجليّ في هذه الصورة الثالثة ، بواسطة جبريل عليه السلام يتلقاه عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم متيقنا أن ذلك من عند الله ، وهو وحي الله إلى رسوله ليبلغه إلى عباده .

قال تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } . ( الشعراء : 193-195 ) .

وقال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . . . } ( المائدة : 67 ) .

وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى } . ( النجم : 3-7 ) .

وقد أفاد النبي صلى الله عليه وسلم أن الوحي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس23 ، حيث يغيب النبي صلى الله عليه وسلم عمن حوله ، ويتفرغ بروحه وكل شئونه لاستقبال ذلك الوحي ، فإذا انتهى الوحي عاد إلى من حوله ، وأحيانا يتمثل الملك رجلا فيكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويعي الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله الملك .

قالت عائشة : ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ، أي : يسيل عرقا .

من تفسير ابن كثير :

هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الرب جل وعلا ، فتارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم وحيا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل .

وقوله تعالى : { أو من وراء حجاب . . . } أي : كما كلم موسى عليه السلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما : ( ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا )24 ، كذا جاء في الحديث ، وكان قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في عالم البرزخ ، والآية إنما هي في الدار الدنيا .

وقوله عز وجل : { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . . } كما ينزل جبريل عليه السلام ، وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

{ إنه علي حكيم } . فهو علي عليم ، خبير حكيم .

من فتح القدير للشوكاني :

{ وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلا وحيا . . . }

يوحي إليه فيلهمه ويقذف ذلك في قلبه ، كما أوحى إلى أم موسى ، وإلى إبراهيم في ذبح ولده ، والوحي هو الإخبار بسرعة على وجه الخفية .

{ أو من وراء حجاب . . . } كما كلم موسى عليه السلام ، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى .

{ أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . }

أي : يرسل ملكا فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحى إليه .

{ إنه علي حكيم } .

أي : متعال عن صفات النقص ، حكيم في كل أحكامه .

ثم إن هذه الأنواع من الوحي كلها قد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم . اه .

( أ ) أي أن الله قد قذف في قلبه أن الإنسان لن يموت حتى يستوفي أجله ورزقه .

( ب ) وقد كلمه الله من وراء حجاب ليلة الإسراء والمعراج .

( ج ) وقد نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم خلال ثلاثة وعشرين عاما من عمره الشريف ، حيث بدأ نزول الوحي عليه في مكة وعمره أربعون عاما ، واستمر الوحي ينزل عليه ثلاثة عشر عاما في مكة قبل الهجرة ، ثم نزل عليه الوحي عشرة أعوام بالمدينة ، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وعمره ثلاثة وستون عاما .

وما نزل من القرآن بمكة يسمى مكيا ، وما نزل بالمدينة بعد الهجرة سمي مدنيا ، ونجد في كتب علوم القرآن بحوثا مستفيضة عن الوحي المكي والمدني ، المحكم والمتشابه ، فواتح السور ، كتابة القرآن في الألواح ، وجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ، وكتابة القرآن الكريم على لغة قريش في عهد عثمان ، والمصحف العثماني نقطه وتشكيله ، وتجويد كتابته ، ووضع علامات الربع والحزب والجزء ، وعلامات الوقف والوصل والسجدة ، ووضع إطار حول كل صفحة ، واستمرار تحسين خط المصحف عبر العصور الإسلامية ، فالمصحف القرآني أصدق وثيقة وأنقى نص عرفه التاريخ 25 ، لأن الله تعالى تعهد بحفظه فقال : { إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ( الحجر : 9 ) .