اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً . . . } الآية لما بين حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه . وقوله : «أَنْ يُكَلمَهُ » «أن » ومنصوبها اسم كان و«لِبَشَرٍ »{[49514]} خبرها . وقال أبو البقاء : «أن » والفعل في موضع رفع على الابتداء وما قبله الخبر ، أو فاعل بالجار لاعتماده على حرف النفي{[49515]} ، وكأنه وهم في التلاوة فزعم أن القرآن : وما لبشر أن يكلمه مع أنه يمكن الجواب عنه بتكلُّفٍ{[49516]} .

و{ إِلاَّ وَحْياً } يجوز أن يكون مصدراً{[49517]} أي إلا كلام وحي . وقال أبو البقاء : استثناء منقطع{[49518]} ؛ لأن الوحي ليس من جنس الكلام . وفيه نظر ؛ لأن ظاهره أنه مفرغ ، والمفرغ لا يوصف بذلك{[49519]} . ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال{[49520]} .

قوله : «أَوْ يُرْسِلَ » قرأ نافع : «أوْ يُرْسِلُ » بفرع اللام ، وكذلك : فيوحي فسكنت ياؤه . والباقون بنصبهما{[49521]} . فاما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه رفع على إضمار مبتدأ أي : أو هو يرسل{[49522]} .

الثاني : أنه عطف على «وَحْياً » على أنه حال ؛ لأن وحياً في تقدير الحال أيضاً فكأنه قال : إلا موحياً أو مرسلاً{[49523]} .

الثالث : أن يعطف على ما يتعلق به «مِنَ وَراءِ » ؛ إذ تقديره أو يُسْمِعُ من وراء حجاب و«وَحْياً » في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه «أوْ يُرْسِل » ، والتقدير : إلاَّ موحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ مُرْسِلاً{[49524]} .

وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به { مِن وَرَاءِ حِجَابٍ } إذ تقديره : أو يُكَلِّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ . وهذا الفعل ( المقدر ){[49525]} معطوف على «وَحْياً » ، والمعنى : إلا بوحي أو إسماعٍ من وراءِ حجابٍ أو إرسال رسولٍ .

ولا يجوز أن يعطف على «يُكَلِّمَهُ » لفساد المعنى{[49526]} ؛ إذ يصير التقدير : ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُرْسِلَ اللهُ رَسُولاً ، فيفسد لفظاً ومعنًى .

وقال مكي : لأنه يلزم منه نفي الرسل ، ونفي المرسل{[49527]} إليهم .

الثاني : أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على «وَحْياً » و«وَحْياً » ، فيكون هذا أيضاً حالاً ، والتقدير : إلا موحياً أو مرسلاً{[49528]} .

وقال الزمخشري : «وَحْياً وأن يرسل » مصدران واقعان موقع الحال ، لأن : أن يُرْسِلَ في معنى : إرسالاً و{ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ } ظرف واقع موقع الحال أيضاً كقوله : { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً{[49529]} .

ورد عليه أبو حيان بأن وقوع المصدر موقع الحال غير منقاس وإنما قاس منه المبرد ما كان نوعاً للفعل فيجيز أتيته ركضاً ويمنع : أتيته بكاءً أي باكياً{[49530]} .

وبأن : أن يرسل لا يقع حالاً لنص سيبويه : على أن «أَنْ » والفعل لا يقع حالاً وإن كان المصدر الصريح يقع حالاً تقول : جاء زيد ضحكاً ، ولا يجوز أن يضحك{[49531]} .

الثالث : أنه عطف على معنى وحياً فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير : إلاَّ بأن يوحي إليه أو بأن يرسل . ذكره مكي{[49532]} وأبو البقاء{[49533]} .

قوله : { مِن وَرَاءِ حِجَابٍ } العامة على الإفراد . وابن أبي عبلة : حجبٍ جمعاً{[49534]} . وهذا الجار يتعلق بمحذوف تقديره : أو يكلمه من{[49535]} وراء حجاب . وقد تقدم أن هذا الفعل معطوف على معنى وحياً ، أي إلاَّ أن يوحي أو يكلمه .

قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يتعلق من ب «يْكَلِّمهُ » ( الموجودة{[49536]} في اللفظ لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعد إلا . ثم قال : وقيل : من مسبوقة بيُكَلِّمُهُ }{[49537]} لأنه ظرف والظرف يُتَّسَعُ فيه{[49538]} .

فصل

ذكر المفسرون أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه ؟ فقال : لم ينظر موسى إلى الله عز وجل . فأنزل الله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام أو من وراء حجاب يسمعه كلامه ولا يراه كما كلم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أو يرسل رسولاً إما جبريل أو غيره من الملائكة فيوحي بإذنه ما يشاء أن يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله{[49539]} ما يشاء{[49540]} .

وهذه الآية تدل على ( أن ){[49541]} الحسن لا يحسن لوجه عائد إليه وأن القبح لا يقبح لوجه عائد إليه بل الله إنما يأمر بما يشاء من غير تخصيص وأنه ينهى عما يشاء من غير تخصيص ، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله : «مَا يَشَاءُ » ، ثم قال : { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } أي عليم بصفات المخلوقين حيكم تجري{[49542]} أفعاله على الحكمة فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام وأخرى بإسماع الكلام وثالثاً بواسطة الملائكة الكرام .


[49514]:في النسختين ليس بدل لبشر تحريف.
[49515]:التبيان 1135.
[49516]:والتكليف هو جعل كان زائدة.
[49517]:قاله ابن الأنباري في البيان 2/351.
[49518]:التبيان 1135، قال: لأن الوحي ليس بتكليم.
[49519]:نقله السمين في الدر المصون 4/766.
[49520]:قاله ابن الأنباري في البيان 2/351.
[49521]:وهي قراءة متواترة انظر السبعة لابن مجاهد 582 والإتحاف للبناء 384 ومعاني الفراء 3/26، والبيان 2/351 والتبيان 1136.
[49522]:البيان والتبيان السابقين والحجة لابن خالويه 319، والكشاف 2/474.
[49523]:الكشاف قال بذلك المرجع السابق.
[49524]:الدر المصون للسمين 4/766.
[49525]:سقط من ب.
[49526]:وانظر البحر المحيط لفظا 7/527 والكشاف معنى 3/474.
[49527]:قاله ابن الأنباري في البيان 2/358 وقد نقله أيضا القرطبي في الجامع 16/53.
[49528]:مشكل إعراب القرآن 2/279 قال: أو نفي المرسل إليهم وذلك لا يجوز.
[49529]:قال النحاس في إعراب القرآن 4/92: قال سيبويه: سألت الخليل عن قول عز وجل: "أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه" فزعم أن النصب محمول إلى أن سوى هذه. وانظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/103.
[49530]:الكشاف 3/475.
[49531]:قال في المقتضب: ومن المصادر ما يقع في موضع الحال فيسد مسده فيكون حالا، لأنه قد ناب عن اسم الفاعل وأغنى غناءه وذلك قولهم: قتله صبرا، إنما تأوله صابرا أو مصبرا، وكذلك: جئته مشيا لأن المعنى جئته ماشيا فالتقدير أمشي مشيا، لأن المجيء على حالات والمصدر قد دل على فعله من تلك الحال. ولو قلت: جئته إعطاء لم يجز؛ لأن الإعطاء ليس من المجيء، ولكن جئته سعيا. فهذا جيد. المقتضب 3/334، فهذا النص نفهم منه بأن المصدر واقع موقع الحال، وقد فهم النحاة ونقلوا نقولات كثيرة عن المبرد في هذا هل المصدر هذا مفعول مطلق لهذا الفعل المحذوف أو أنه مصدر واقع موقع الحال؟
[49532]:البحر المحيط 7/527.
[49533]:مشكل إعراب القرآن 2/279.
[49534]:التبيان 1136.
[49535]:من القراءة الشاذة انظر البحر المحيط 7/527 وشواذ القرآن 216.
[49536]:التبيان لأبي البقاء 1136.
[49537]:ما بين القوسين تكملة لازمة من كتاب التبيان لأبي البقاء فقد سقط كل هذا من النسختين بسبب انتقال النظر.
[49538]:التبيان 1136.
[49539]:في ب بإذنه.
[49540]:البغوي 6/129.
[49541]:سقط من ب.
[49542]:الرازي 27/190.