الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } وما صح لأحد من البشر { أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ } على ثلاثة أوجه : إما على طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده . وعن مجاهد : أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره . قال عبيد بن الأبرص :

وَأَوْحَى إِليَّ اللَّهُ أَنْ قَدْ تَأَمَّرُوا *** بِإِبْلِ أَبِي أَوْفَى فَقُمْتُ عَلَى رِجْلِ

أي : ألهمني وقذف في قلبي . وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام ، من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، لأنه في ذاته غير مرئي . وقوله : { مِن وَرآىءِ حِجَابٍ } مثل أي ، كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء الحجاب ، فيسمع صوته ولا يرى شخصه ، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة . وإما على أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة فيوحى الملك إليه كما كلم الأنبياء غير موسى . وقيل : وحيا كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } أي نبيناً كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم . ووحيا ، وأن يرسل : مصدران واقعان موقع الحال ؛ لأنّ أن يرسل ، في معنى إرسالاً . ومن وراء حجاب : ظرف واقع موقع الحال أيضاً ، كقوله تعالى : { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً ، أو مسمعاً من وراء حجاب ، أو مرسلاً . ويجوز أن يكون : وحياً ، موضوعاً موضع : كلاماً ؛ لأنّ الوحي كلام خفي في سرعة ، كما تقول : لا أكلمه إلا جهراً وإلا خفاتا ؛ لأنّ الجهر والخفات ضربان من الكلام ، وكذلك : إرسالا جعل الكلام على لسان الرسول بغير واسطة تقول : قلت لفلان كذا ، وإنما قاله وكيلك أو رسولك . وقوله : { أَوْ مِن وَرَآىءِ حِجَابٍ } معناه : أو إسماعاً من وراء حجاب ؛ ومن جعل ( وحيا ) في معنى : أن يوحي ، وعطف يرسل عليه ، على معنى { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً } أي : إلا بأن يوحي . أو بأن يرسل ، فعليه أن يقدر قوله : { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } تقديراً يطابقهما عليه ، نحو : أو أن يسمع من وراء حجاب . وقرىء «أو يرسل رسولاً فيوحى » بالرفع ، على : أو هو رسل . أو بمعنى مرسلاً عطفاً على وحيا في معنى موحياً . وروى أنّ اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه ، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك ، فقال : لم ينظر موسى إلى الله ، فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها : من زعم أنّ محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، ثم قالت : أو لم تسمعوا ربكم يقول : فتلت هذه الآية : { إِنَّهُ عَلِىٌّ } عن صفات المخلوقين { حَكِيمٌ } يجري أفعاله على موجب الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة ، وأخرى بغير واسطة : إما إلهاماً ، وإما خطاباً .