28- ومن الناس والدواب والإبل والبقر والغنم مختلف ألوانه كذلك في الشكل والحجم واللون . وما يتدبر هذا الصنع العجيب ويخشى صانعه إلا العلماء الذين يدركون أسرار صنعه ، إن الله غالب يخشاه المؤمنون ، غفور كثير المحو لذنوب من يرجع إليه{[188]} .
قوله تعالى : { ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه } ذكر الكناية لأجل { من } وقيل : رد الكناية إلى ما في الإضمار ، مجازه : ومن الناس والدواب والأنعام ما هو مختلف ألوانه ، { كذلك } يعني كما اختلف ألوان الثمار والجبال ، وتم الكلام ها هنا ثم ابتدأ فقال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } قال ابن عباس : يريد إنما يخافني من خلقني من علم جبروتي وعزتي وسلطاني .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عمر بن حفص ، أنبأنا أبي أنبأنا الأعمش ، أنبأنا مسلم ، عن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها : " صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً " . وقال مسروق : كفى بخشية الله علماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً . وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم ، فقال الشعبي : إنما العالم من خشي الله عز وجل . { إن الله عزيز غفور } أي : عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده .
ومن ذلك : الناس والدواب ، والأنعام ، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف والأصوات والهيئات ، ما هو مرئي بالأبصار ، مشهود للنظار ، والكل من أصل واحد ومادة واحدة .
فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى ، التي خصصت ما خصصت منها ، بلونه ، ووصفه ، وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك ، وحكمته ورحمته ، حيث كان ذلك الاختلاف ، وذلك التفاوت ، فيه من المصالح والمنافع ، ومعرفة الطرق ، ومعرفة الناس بعضهم بعضا ، ما هو معلوم .
وذلك أيضا ، دليل على سعة علم اللّه تعالى ، وأنه يبعث من في القبور ، ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر ، وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى ، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها .
ولهذا قال : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } فكل من كان باللّه أعلم ، كان أكثر له خشية ، وأوجبت له خشية اللّه ، الانكفاف عن المعاصي ، والاستعداد للقاء من يخشاه ، وهذا دليل على فضيلة العلم ، فإنه داع إلى خشية اللّه ، وأهل خشيته هم أهل كرامته ، كما قال تعالى : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }
{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } كامل العزة ، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات .
ثم بين - سبحانه - أن هذا الاختلاف ليس مقصوراً على الجبال فقال : { وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ . . . } .
وقوله : { مُخْتَلِفٌ } صفة لموصوف محذوف . وقوله { كَذَلِكَ } صفة - أيضاً - لمصدر محذوف ، معمول لمخلتف .
أى : ليس اختلاف الألوان مقصوراً على قطع الجبال وطرقها وأجزائها ، بل - أيضاً - من الناس والدواب والأنعام ، أصناف وأنواع مختلفة ألوانها اختلافاً ، كذلك الاختلاف الكائن فى قطع الجبال ، وفى أنواع الثمار .
وإنما ذكر - سبحانه - هنا اختلاف الألوان فى هذه الأشياء ، لأن هذا الاختلاف من اعظم الأدلة على قدرة الله - تعالى - وعلى بديع صنعه .
ثم بين - سبحانه - هنا اختلاف الألوان فى هذه الأشياء ، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله - تعالى - وعلى بديع صنعه .
ثم بين - سبحانه - أولى الناس بخشية فقال : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } أى : إنما يخاف الله - تعالى - ويخشاه ، العالمون بما يليق بذاته وصفاته ، من تقديس وطاعة وإخلاص فى العبادة ، أما الجاهلون بذاته وصفاته - تعالى - ، فلا يخشونه ولا يخافون عقابه ، لانطماس بصائرهم ، واستحوذ الشيطان عليهم ، وكفى بهذه الجملة الكريمة مدحاً للعلماء ، حيث قصر - سبحانه - خشيته عليهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول فى هذا الكلام أو أخر ؟ قلت : لا بد من ذلك ، فإنك إذا قدمت اسم الله ، وأخرت العلماء ، كان المعنى . إن الذين يخشون الله من عباده هم العلماء دون غيرهم ، وإذا علمت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله ، كقوله - تعالى - : { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } وهما معنيان مختلفان .
فإن قلت : ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله ؟
قلت : لما قال { أَلَمْ تَرَ } بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء ، وعدد آيات الله ، وأعلام قدرته ، وآثار صنعته . . أتبع ذلك بقوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته ، وعلمه كنه علمه .
وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم به " .
وقوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية ، لدلالته على أنه يعاقب على المعصية ، ويغفر الذنوب لمن تاب من عباده توبة نصوحاً .
{ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك } كاختلاف الثمار والجبال . { إنما يخشى الله من عباده العلماء } إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله ، فمن كان اعلم به كان أخشى منه ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " أني أخشاكم لله وأتقاكم له " ولذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته ، وتقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية ولو آخر انعكس الأمر . وقرئ برفع اسم الله ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيبا . { إن الله عزيز غفور } تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه .
وقوله { مختلف ألوانه } قبله محذوف إليه يعود الضمير تقديره { والأنعام } خلق { مختلف ألوانه } ، { والدواب } يعم الناس والأنعام لكن ذكرا تنبيهاً منهما ، وقوله { كذلك } يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسناً ، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين ، ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب كأنه قال كما جاءت القدرة في هذا كله ، { إنما يخشى الله من عباده العلماء } أي المحصلون لهذه العبرة الناظرون فيها .
قال القاضي أبو محمد : وقال بعض المفسرين الخشية رأس العلم ، وهذه عبارة وعظية لا تثبت عند النقد ، بل الصحيح المطرد أن يقال العلم رأس الخشية ، وسببها والذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «خشية الله رأس كل حكمة »{[9720]} ، وقال صلى الله عليه وسلم : «رأس الحكمة مخافة الله »{[9721]} ، فهذا هو الكلام المنير ، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية كفى بالزهد علماً ، وقال مسروق وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله ، وقال تعالى : { سيذكر من يخشى }{[9722]} [ الأعلى : 1 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
«أعلمكم بالله أشدكم له خشية »{[9723]} ، وقال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم ، ويقال إن فاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله . وقال ابن مسعود : كفى بخشية الله علماً وبالاغترار ، به جهلاً ، وقال مجاهد والشعبي : إنما العالم من يخشى الله ، وإنما في هذه الآية تخصيص { العلماء } لا للحصر ، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه ، وإنما يعلم ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه ، فإذا قلت إنما الشجاع عنترة ، وإذا قلت إنما الله إله واحد ، بان لك فتأمله ، وهذه الآية بجملتها دليل على الوحدانية والقدرة والقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش .
{ وَمِنَ الناس والدوآب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه } .
موقعه كموقع قوله : { ومن الجبال جدد } [ فاطر : 27 ] ، ولا يلزم أن يكون مسوغ الابتداء بالنكرة غير مفيد معنى آخر فإن تقديم الخبر هنا سوغ الابتداء بالنكرة .
واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأسود والأصفر والأحمر حسب الاصطلاح الجغرافي . وللعرب في كلامهم تقسيم آخر لألوان أصناف البشر ، وقد تقدم عند قوله : { واختلاف ألسنتكم وألوانكم } في سورة الروم ( 22 ) .
ومن } تبعيضية . والمعنى : أن المختلف ألوانه بعض من الناس ، ومجموع المختلفات كله هو الناس كلهم وكذلك الدواب والأنعام ، وهو نظم دقيق دعا إليه الإِيجاز .
وجيء في جملة { ومن الجبال جدد } [ فاطر : 27 ] و { من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه } بالاسمية دون الفعلية كما في الجملة السابقة لأن اختلاف ألوان الجبال والحيوان الدال على اختلاف أحوال الإِيجاد اختلافاً دائماً لا يتغير وإنما يحصل مرة واحدة عند الخلق وعند تولد النسل .
{ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عزيز غفور } .
الأظهر عندي أن { كذلك } ابتداء كلام يتنزل منزلة الإِخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل . والمعنى : كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله : { إنما يخشى الله من عباده } أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم ، فجملة { إنما يخشى الله من عباده العلماء } مستأنفة عن جملة { كذلك } . وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتّى منهم خشية الله فدلّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون . وهذا مثل قوله : { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [ فاطر : 18 ] .
وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصاً للتنويه بأهل العلم والإِيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقوله : { إن الذين يتلون كتاب الله } [ فاطر : 29 ] الآية . . .
فقوله : { كذلك } خبر لمبتدأ محذوف دل عليه المقام . والتقدير : كذلك الاختلاف ، أو كذلك الأمر على نحو قوله تعالى في سورة الكهف ( 91 ) : { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً } وهو من فصل الخطاب كما علمت هنالك ولذلك يحسن الوقف على ما قبله ويستأنف ما بعده .
وأما جعل { كذلك } من توابع الكلام السابق فلا يناسب نظم القرآن لضعفه .
والقصر المستفاد من { إنما } قصر إضافي ، أي لا يخشاه الجهال ، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية ، أي عدم العلم ؛ فالمؤمنون يومئذٍ هم العلماء ، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله . ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتاً كثيراً . وتقديم مفعول { يخشى } على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه .
والمراد بالعلماء : العلماء بالله وبالشريعة ، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقْوَى الخشية ؛ فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله ، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر ، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصدُ شرعه ، فإنْ هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقناً أنه مورَّط فيما لا تحمد عقباه ، فذلك الإِيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإِقلاع أو الإِقلال .
وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء . قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد « والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها ، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة » .
وجملة { إن الله عزيز غفور } تكميل للدلالة على استغناء الله تعالى عن إيمان المشركين ولكنه يريد لهم الخير . ولما كان في هذا الوصف ضرب من الإِعراض عنهم مما قد يحدث يأساً في نفوس المقاربين منهم ، أُلِّفَتْ قلوبهم بإتباع وصف { عزيز } ، بوصف { غفور } أي فهو يقبل التوبة منهم إن تابوا إلى ما دعاهم الله إليه على أن في صفة { غفور } حظاً عظيماً لأحد طرفي القصر وهم العلماء ، أي غفور لهم .