255- الله هو الذي يستحق أن يُعبد دون سواه ، وهو الباقي القائم على شئون خلقه دائماً ، الذي لا يغفل أبداً ، فلا يصيبه فتور ولا نوم ولا ما يشبه ذلك لأنه لا يتصف بالنقص في شيء ، وهو المختص بملك السماوات والأرض لا يشاركه في ذلك أحد ، وبهذا لا يستطيع أي مخلوق كان أن يشفع لأحد إلا بإذن الله ، وهو - سبحانه وتعالى - محيط بكل شيء عالم بما كان وما سيكون ، ولا يستطيع أحد أن يدرك شيئاً من علم الله إلا ما أراد أن يعلم به من يرتضيه ، وسلطانه واسع يشمل السماوات والأرض ، ولا يصعب عليه تدبير ذلك لأنه المتعالي عن النقص والعجز ، العظيم بجلاله وسلطانه .
قوله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الزياتي ، أنا حميد بن زنجويه ، أنا ابن أبي شيبة ، أنا عبد الأعلى ، عن الجريري عن أبي السلسبيل عن عبد الله ابن رباح الأنصاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا المنذر أي آية من كتاب الله أعظم ؟ قلت : الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، قال : فضرب في صدري ثم قال : ليهنك العلم يا أبا المنذر ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده إن لهذه الآية لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو : أخبرنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني محتاج ولي عيال ولي حاجة شديدة قال : فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله قال : أما إنه قد كذبك وسيعود ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج ولي عيال ولا أعود ، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال : لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله قال : أما إنه كذبك وسيعود ، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ، ثم تعود قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت : ما هي ؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال : ما هي ؟ قلت : قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وقال : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا أحرص الناس على الخير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ قلت : لا قال ذاك الشيطان " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر هو المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حين يصبح آية الكرسي ، وآيتين من أول : حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ، حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ، ومن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح " .
قوله عز وجل : " الله " رفع بالابتداء ، وخبره في " لا إله إلا هو الحي " الباقي الدائم على الأبد ، وهو من له الحياة ، والحياة صفة الله تعالى " القيوم " قرأ عمر وابن مسعود " القيام " وقرأ علقمة " القيم " وكلها لغات بمعنى واحد ، قال مجاهد : القيوم القائم على كل شيء ، قال الكلبي : القائم على كل نفس بما كسبت وقيل هو القائم بالأمور . وقال أبو عبيدة : الذي لا يزول .
قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } . السنة : النعاس وهو النوم الخفيف ، والوسنان بين النائم واليقظان ، يقال منه وسن يسن وسناً وسنة ، والنوم : هو الثقيل المزيل للقوة والعقل ، قال المفضل الضبي : السنة في الرأس والنوم في القلب ، فالسنة أول النوم وهو النعاس ، وقيل : السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فهو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء ، نفى الله تعالى عن نفسه النوم لأنه آفة وهو منزه عن الآفات ولأنه تغير ولا يجوز عليه التغير .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن جعفر ، أخبرنا علي بن حرب ، أخبرنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، ولكنه يخفض القسط ، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ، ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال : حجابه النار .
قوله تعالى : { له ما في السماوات وما في الأرض } . ملكاً وخلقاً .
قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } . بأمره .
قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } . قال مجاهد وعطاء والسدي : ما بين أيديهم من أمر الدنيا ، وما خلفهم من أمر الآخرة ، وقال الكلبي : ما بين أيديهم يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، وما خلفهم من الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم ، وقال ابن جريج : { ما بين أيديهم } ما مضى أمامهم { وما خلفهم } ما يكون بعدهم ، وقال مقاتل : ( ما بين أيديهم ) ، ما كان قبل خلق الملائكة { وما خلفهم } أي ما كان بعد خلقهم ، وقيل : { ما بين أيديهم } أي ما قدموه من خير أو وشر وما خلفهم ما هم فاعلوه .
قوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه } . أي من علم الله .
قوله تعالى : { إلا بما شاء } . أي يطلعهم عليه ، يعني لا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء مما أخبر به الرسل كما قال الله تعالى : ( فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) .
قوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } . أي ملأ وأحاط بهما ، واختلفوا في الكرسي فقال الحسن : هو العرش نفسه ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله : { وسع كرسيه السماوات والأرض } أي سعته مثل سعة السماوات والأرض ، وفي الأخبار أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة .
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السماوات السبع ، والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس ، وقال علي ومقاتل : كل قائمة من الكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع ، وهو بين يدي العرش ، ويحمل الكرسي أربعة أملاك ، لكل ملك أربعة وجوه ، وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام ، ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام ، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة ، وملك على صورة سيد الأنعام ، وهو الثور ، وهو يسأل للإنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل ، وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة ، وملك على صورة سيد الطير ، وهو النسر يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة " .
وفي بعض الأخبار : أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة ، وسبعين حجاباً من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام ، لولا ذلك لاحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش . ذ
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أراد بالكرسي علمه ، وهو قول مجاهد ، ومنه قيل لصحيفة العلم كراسة ، وقيل : كرسيه ملكه وسلطانه ، والعرب تسمى الملك القديم كرسياً .
قوله تعالى : { ولا يؤوده } . أي لا يثقله ولا يشق عليه يقال : آدني الشي أي أثقلني .
قوله تعالى : { حفظهما } . أي حفظ السماوات والأرض .
قوله تعالى : { وهو العلي } . الرفيع فوق خلقه والمتعالي عن الأشباه والأنداد ، وقيل العلي بالملك والسلطنة .
ثم قال تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها ، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة ، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات ، فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن { لا إله إلا هو } أي : لا معبود بحق سواه ، فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى ، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه ، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ، ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه ، وكل ما سوى الله تعالى باطل ، فعبادة ما سواه باطلة ، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه ، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة ، وقوله : { الحي القيوم } هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما ، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات ، كالسمع والبصر والعلم والقدرة ، ونحو ذلك ، والقيوم : هو الذي قام بنفسه وقام بغيره ، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء ، وسائر أنواع التدبير ، كل ذلك داخل في قيومية الباري ، ولهذا قال بعض المحققين : إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، ومن تمام حياته وقيوميته أن { لا تأخذه سنة ولا نوم } والسنة النعاس { له ما في السماوات وما في الأرض } أي : هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } أي : لا أحد يشفع عنده بدون إذنه ، فالشفاعة كلها لله تعالى ، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه ، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن ، ثم قال { يعلم ما بين أيديهم } أي : ما مضى من جميع الأمور { وما خلفهم } أي : ما يستقبل منها ، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور ، متقدمها ومتأخرها ، بالظواهر والبواطن ، بالغيب والشهادة ، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى ، ولهذا قال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض } وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه ، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما ، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى ، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش ، وما لا يعلمه إلا هو ، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار ، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال ، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها ، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع ، والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب ، فلهذا قال : { ولا يؤوده } أي : يثقله { حفظهما وهو العلي } بذاته فوق عرشه ، العلي بقهره لجميع المخلوقات ، العلي بقدره لكمال صفاته { العظيم } الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة ، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة ، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء ، فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده ، وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته ، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته ، متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا .
وبعد أن أمر الله المؤمنين بالإِنفاق في وجوه الخير ، وذكرهم بأهوال يوم القيامة ، أتبع ذلك بآية كريمة اشتملت على تمجيده - سبحانه - فبينت كمال سلطانه ، وشمول علمه . وسابغ نعمه على خلقه . استمع إلى القرآن وهو يصف لك الخالق - عز وجل - بأكمل الصفات وأعظمها فيقول :
{ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم . . . }
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 255 )
قال بعضهم : هذه آية الكرسي أفضل آية من القرآن . ومعنى الفضل أن الثواب على قراءتها أكثر من على غيرها من الآيات . هذا هو التحقيق في تفضيل بعض آيات القرآن على بعض . وإنما كانت أفضل لأنها جمعت من أحكام الألوهية وصفات الإِله الثبوتية والسلبية ما لم تجمعه آية أخرى . جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة ، وفيها آية هي سيدة القرآن - أي أفضله - وهي آية الكرسي " .
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر جمل فيها ما فيها من صفات الله الجليلة - ونعوته السامية . أما الجملة الأولى والثانية فتتمثل في قوله - تعالى - : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } .
ولفظ الجلالة { الله } يقول العلماء : إن أصله إله دخلت عليه أداة التعريف " أل " وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله . قال القرطبي : قوله { الله } هذا الاسم أكبر أسمائه - تعالى - وأجمعها ، حتى قال بعضهم إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع ، فالله اسم الموجود الحق الجامع لصفات الألوهية ، المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو - سبحانه - " .
ولفظ { إله } قالوا إنه من إله فلان يأله أي عبد . فالإِله على هذا المعنى هو المعبود ، وقيل هو من أله أي تحير . . وذلك أن العبد إذا تفكر في صفاته - سبحانه - تحير فيها ؛ ولذا قيل : " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " .
و { الحي } أي الباقي الذي له الحياة الدائمة التي لا فناء لها . لم تحدث له الحياة بعد الموت ، ولا يعتريه الموت بعد الحياة ، وسائر الأحياء سواه يعتريهم الموت والفناء .
و { القيوم } أي : الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم ، والمعطى لهم ما به قوامهم . وهو مبالغة في القيام . وأصله قيووم - بوزن فيعول - من قام بالأمر إذا حفظه ودبره .
والمعنى : الله - عز وجل - هو الإِله الحق المتفرد بالألوهية التي لا يشاركه فيها سواه ، وهو المعبود بحق وكل معبود سواه فهو باطل ، وهو ذو الحياة الكاملة ، وهو الدائم القيام بتدبير شئون الخلق وحياطتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم .
والجملة الثالثة قوله - تعالى - : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وهي جملة سلبية مؤكدة للوصف الإِيجابي السابق ، فإن قيامه على كل نفس ما كسبت ، وعلى تدبير شئون خلقه يقتضي ألا تعرض له غفلة ، ولأن السنة والنوم من صفات الحوادث وهو - سبحانه - مخالف لها .
والسنة : الفتور الذي يكون في أول النوم مع بقاء الشعور والإِدراك .
ويقال له غفورة . يقال : وسن الرجل يوسن وسناً وسنة فهو وسن ووسنان إذا نعس والمراد أنه - سبحانه - لا يغفل عن تدبير أمر خلقه أبداً ، ولا يحجب علمه شيء حجباً قصيراً أو طويلاً ، ولا يدركه ما يدرك الأجسام من الفتور أو النعاس ، أو النوم .
وتقديم السنة على النوم يفيد المبالغة من حيث إن نفي السنة يدل على نفي النوم بالأولى ، فنفيه ثانياً صريحاً يفيد المبالغة لأن عطف الخاص على العام يفيد المبالغة ولأن عطف الخاص على العام يفيد التوكيد أي لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم . وفي قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ } دلالة على أن للنوم قوة قاهرة تأخذ الحيوان أخذاً وتقهر الكثير من أجناس المخلوقات قهراً ، ولكنه - سبحانه - وهو القاهر فوق عباده - منزه عن ذلك ، ومبرأ من أن يعتريه ما يعتري الحوادث .
وقوله - سبحانه - في الجملة الرابعة : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } تقرير لانفراده بالأولوهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته ، وتعليل لا تصافه بالقيومية ، لأن من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قائما بتدبير أمرها .
والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم . فالجملة الكريمة تفيد الملكية المطلقة لرب العالمين لكل ما في هذا الوجود من شمس وقمر وحيوان ونبات وجماد وغير ذلك من المخلوقات . وصدرت الجملة بالجار والمجرور " له " لإفادة القصر أي ملك السموات والأرض له وحده ليس لأحد سواه شيء معه .
والاستفهام في قوله في الجملة الخامسة { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } للنفي والإِنكار أي : لا أحد يستطيع أن يشفع عنده - سبحانه - إلا بإذنه ورضاه قال - تعالى - { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } والمقصود من هذه الجملة - كما يقول الآلوسي - بيان كبرياء شأنه - تعالى - وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عناداً أو مناصبة وعداوة . وفي ذلك تيئيس للكفار حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله " . وقوله - سبحانه في الجملة السادسة : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } تأكيد لكمال سلطانه في هذا الوجود ، وبيان لشمول علمه على كل شيء .
والضمير في ( أيديهم ) و ( خلفهم ) يعود إلى ( ما ) في قوله قبل ذلك { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } وعبر بضمير الذكور والعقلاء ، تغليباً لجانبهم على جانب غير العقلاء .
والعلم بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن إحاطة علمه - سبحانه بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، وما يعرفونه من شئونهم الدنيوية وما لا يعرفونه .
وقوله - تعالى - في الجملة السابعة : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } معطوف على قوله { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } لأنه مكمل لمعناه . والمراد بالعلم المعلوم . والإِحاطة بالشيء معناهها العلم الكامل به .
أي : لا يعلمون شيئاً من معلوماته - سبحانه - إلا بالقدر الذي أراد أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله . فهو كقوله - تعالى - : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً . إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } فالجملة الكريمة بيان لكمال علم الله - تعالى - ولنقصان علم سواه ، إذ أن البشر لم يعظوا من العلم إلا القليل ، وهذا القليل ناقص لأنه ليس على إحاطة واستغراق لكل ما تشتمل عليه جزئيات الشيء ووجوده وجنسه وكيفية وغرضه المقصود به وبإيجاده ، إذ العلم الكامل بالشيء لا يكون إلا الله رب العالمين .
ثم قال - تعالى - في الجملة الثامنة : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } .
قال الراغب : الكرسي في تعارف العامة : اسم للشيء الذي يقعد عليه ، وهو في الأصل منسوب إلى الكرسي أي الشيء المجتمع ، ومنه الكراسة لأنها تجمع العلم . . وكل مجتمع من الشيء كرس .
وللعلماء اتجاهان مشهوران في تفسير معنى الكري في الجملة الكريمة . فالسلف يقولون : إن لله - تعالى - كرسيا علينا أن نؤمن بوجوده وإن كنا لا نعرف حقيقته ، لأن ذلك ليس في مقدور البشر .
والخلف يقولون : الكرسي في الآية كناية عن عظم السلطان ، ونفوذ القدرة ، وسعة العلم ، وكمال الإِحاطة .
ولصاحب الكشاف تلخيص حسن لأقوال العلماء في ذلك ، فقد قال - رحمه الله - وفي قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } أربعة أوجه :
أحدها : أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته وما هو إلا تصوير لعظمته ولا كسري ثمة ولا قعود ولا قاعد .
والثاني : وسع علمه ، وسمي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم .
والثالث : وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك .
والرابع : ما روى أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض وهو إلى العرش كأصغر شيء . وعن الحسن الكلرسي هو العرش .
هذا وقد روى المفسرون عن ابن عباس أنه قال : " كرسيه علمه " ولعل تفسير الكرسي بالعلم كما قال حبر الأمة هو أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو المناسب لسياق الآية الكريمة .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالصفتين التاسعة والعاشرة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم } .
{ يَؤُودُهُ } معناه يثقله ويشق عليه . يقال آدني الأمر بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة .
و { العلي } هو المتعالي عن الأشياء ، والأنداد ، والأمثال ، والأضداد وعن إمارات النقص ودلالات الحدوث . وقيل هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة وعلو الشأن .
والمعنى : ولا يثقله ولا يتعبه حفظ السموات والأرض ورعايتهما ، وهو المتعالي عن الأشباه والنظائر ، والمسيطر على خلقه ، العظيم في ذاته وصفاته ، ففي هاتين الجملتين بيان لعظيم قدرته ، وعظيم رعايته لخلقه ، وتنزيهه - سبحانه - عن مشابهة الحوادث .
وبعد ، فهذه آية الكرسي التي اشتملت على عشر جمل ، كل جملة منها تشتمل على وصف أو أكثر من صفات الله الجليلة ، ونعوته المجيدة ، وألوهيته الحقه ، وقدرته النافذة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، قد أقامت الأدلة الساطعة على وحدانية الله - تعالى - وجوب إفراده بالعباده .
وقد تكلم العلماء طويلا عن تناسق جملها ، وبلاغه تراكيبها ووجوه فضلها ومن ذلك قول صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم فضلت هذه الآية على غيرها حتى ورد في فضلها ما ورد ؟ قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص من اشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العزة . فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار " .
ومن الأحاديث التي ساقها الإِمام ابن كثير في فضلها ما جاء عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : " أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال الله ورسوله أعلم . فرددها مرارا ثم قال : آية الكرسي . فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ليهنك العلم أبا المنذر " .
وأخرج الإِمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي " .
وروى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج ذات يوم على الناس فقال : أيكم يخبرني بأعظم آية ؟ فقال ابن مسعود على الخبير سقطت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أعظم آية في القرآن { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } " . الآية .
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن سعيد الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح ، عن أبي - هو ابن كعب - أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : " أي آية في كتاب الله أعظم " ؟ قال : الله ورسوله أعلم . فرددها مرارًا ثم قال أبى : آية الكرسي . قال : " لِيَهْنك العلم أبا المنذر ، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش " وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن الجريري - به{[4267]} وليس عنده زيادة : " والذي نفسي بيده . . . " إلخ .
حديث آخر : عن أبي أيضاً في فضل آية الكرسي ، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا مبشر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبدة بن أبي لبابة{[4268]} عن عبد الله بن أبي بن كعب : أن أباه أخبره : أنه كان له جرن فيه تمر قال : فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال : فحرسه{[4269]} ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم قال : فسلمت عليه فرد السلام . قال : فقلت : ما أنت ، جني أم إنسي ؟ قال : جني . قلت : ناولني يدك . قال : فناولني ، فإذا يد{[4270]} كلب وشعر كلب . فقلت : هكذا خَلْقُ الجن ؟ قال : لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني ، قلت : فما حملك على ما صنعت ؟ قال : بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك . قال : فقال له{[4271]} فما الذي يجيرنا{[4272]} منكم ؟ قال : هذه الآية : آية الكرسي . ثم غدا إلى النبي{[4273]} صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق الخبيث " .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن الحضرمي بن لاحق ، عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده به{[4274]} . وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن غياث{[4275]} قال : سمعت أبا السليل قال : كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس حتى يكثروا عليه فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي آية في القرآن أعظم ؟ " فقال رجل :
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } قال : فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، أو قال : فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال : " ليهنك العلم يا أبا المنذر " {[4276]} .
حديث آخر : عن الأسفع{[4277]} البكري . قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو يزيد القراطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسفع{[4278]} - رجل صدق - أخبره عن الأسفع {[4279]} البكري : أنه سمعه يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان : أي آية في القرآن أعظم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } حتى انقضت الآية . {[4280]} .
حديث آخر : عن أنس قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن الحارث حدثني سلمة بن وردان أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من صحابته فقال : " أي فلان هل تزوجت " ؟ قال : لا وليس عندي ما أتزوج به . قال : " أوليس معك : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن . أليس معك : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن . أليس معك { إِذَا زُلْزِلَتِ } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن أليس معك : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ[ وَالْفَتْحُ ]{[4281]} } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن . أليس معك آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ{[4282]} } " ؟ قال : بلى . قال : " ربع القرآن " {[4283]} .
حديث آخر : عن أبي ذر جُنْدَب بن جنادة قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست . فقال : " يا أبا ذر هل صليت ؟ " قلت : لا . قال : " قم فصل " قال : فقمت فصليت ثم جلست فقال : " يا أبا ذر تَعَوَّذ بالله من شر شياطين الإنس والجن " قال : قلت : يا رسول الله أوللإنس شياطين ؟ قال : " نعم " قال : قلت : يا رسول الله الصلاة ؟ قال : " خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر " . قال : قلت : يا رسول الله فالصوم ؟ قال : " فرض مُجْزِئ وعند الله مزيد " قلت : يا رسول الله فالصدقة ؟ قال : " أضعاف مضاعفة " . قلت : يا رسول الله فأيها أفضل ؟ قال : " جهد من مقل أو سر إلى فقير " قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول ؟ قال : " آدم " قلت : يا رسول الله ونبي{[4284]} كان ؟ قال : " نعم نبي مكلم " قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون ؟ قال : " ثلثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا " وقال مرة : " وخمسة عشر " قال : قلت : يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال : " آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } " ورواه النسائي{[4285]} .
حديث آخر : عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري ، رضي الله عنه وأرضاه قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان{[4286]} عن ابن أبي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب : أنه كان{[4287]} في سهوة له ، وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فقال : " فإذا رأيتها فقل : باسم الله أجيبي رسول الله " . قال : فجاءت فقال لها : فأخذها فقالت : إني لا أعود . فأرسلها فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما فعل أسيرك ؟ " قال : أخذتها فقالت لي : إني لا أعود ، إني لا أعود . فأرسلتها ، فقال{[4288]} : " إنها عائدة " فأخذتها مرتين أو ثلاثا كل ذلك تقول : لا أعود . وأجيء {[4289]} إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : " ما فعل أسيرك ؟ " فأقول : أخذتها فتقول : لا أعود . فيقول : " إنها عائدة " فأخذتها فقالت : أرسلني وأعلمك شيئًا تقوله فلا يقربك شيء : آية الكرسي ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : " صدقت وهي كذوب " .
ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بُنْدار عن أبي أحمد الزبيري به{[4290]} ، وقال : حسن غريب .
وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب " فضائل القرآن " وفي كتاب " الوكالة " وفي " صفة إبليس " من صحيحه : قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة . قال : فخليت عنه . فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ " قال : قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فَرحِمْتُه وخليت سبيله . قال : " أما إنه قد كَذَبك وسيعود " فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه سيعود " فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود . فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ " قلت{[4291]} : يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله . قال : " أما إنه قد كذبك وسيعود " فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم أنك لا تعود ثم تعود . فقال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها . قلت : ما هن{[4292]} . قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فعل أسيرك البارحة ؟ " قلت : يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله . قال : " ما هي ؟ " قال : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح . وكانوا أحرص شيء على الخير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه صدقك{[4293]} وهو كذوب تعلم من تخاطب مُذْ{[4294]} ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ " قلت{[4295]} : لا قال : " ذاك شيطان " .
كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم{[4296]} وقد رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن إبراهيم بن يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره {[4297]} وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره :
حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرويه الصفار ، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أخبرنا مسلم بن إبراهيم أخبرنا إسماعيل بن مسلم العبدي أخبرنا أبو المتوكل الناجي : أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف ودخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يومًا آخر ثالثًا فإذا قد أخذ منه مثل ذلك . فشكا ذلك أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " تحب أن تأخذ صاحبك هذا ؟ " قال : نعم . قال : " فإذا فتحت الباب فقل : سبحان من سخرك محمد " {[4298]} فذهب ففتح الباب فقال{[4299]} : سبحان من سخرك محمد{[4300]} . فإذا هو قائم بين يديه قال : يا عدو الله أنت صاحب هذا ؟ قال : نعم دعني فإني لا أعود ما كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء ، فخلى عنه ثم عاد الثانية ثم عاد الثالثة . فقلت : أليس قد عاهدتني ألا تعود ؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي{[4301]} صلى الله عليه وسلم قال : لا تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى قال له : لتفعلن ؟ قال : نعم . قال : ما هن ؟ قال : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قرأ آية الكرسي حتى ختمها فتركه فذهب فأبعد فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما علمت أن ذلك كذلك ؟ " .
وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة به{[4302]} وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضًا فهذه ثلاث وقائع .
قصة أخرى : قال أبو عبيد في كتاب " الغريب " : حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود قال : خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن فقال : هل لك أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخل شيطان ؟ فصارعه فصرعه{[4303]} فقال : إني أراك ضئيلا شخيتا{[4304]} كأن ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها الجن . كلكم أم أنت من بينهم ؟ فقال : إني بينهم{[4305]} لضليع فعاودني فصارعه {[4306]} فصرعه الإنسي . فقال : تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خَبَخٌ كخبج{[4307]} الحمار .
فقيل لابن مسعود : أهو عمر ؟ فقال : من عسى أن يكون إلا عمر .
قال أبو عبيد : الضئيل : النحيف الجسم . والخَبَج{[4308]} بالخاء المعجمة ويقال : بالحاء المهملة : الضراط{[4309]} .
حديث آخر عن أبي هريرة : قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه : حدثنا علي بن حمشاذ{[4310]} حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثني حكيم بن جُبَير الأسدي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه ! آية الكرسي " .
وكذا رواه من طريق أخرى عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[4311]} كذا قال ، وقد رواه الترمذي من حديث زائدة [ به ]{[4312]} ولفظه : " لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي " . ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير ، وقد تكلم فيه شعبة وضعفه{[4313]} .
قلت : وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الأئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي .
حديث آخر : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد المروزي أخبرنا عمر بن محمد البخاري ، أخبرنا أبي أخبرنا عيسى بن موسى غُنْجَار عن عبد الله بن كَيْسان ، أخبرنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر{[4314]} عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب : أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال : أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن ؟ فقال ابن مسعود : على الخبير سَقَطْتَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أعظم آية في القرآن : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }{[4315]} .
حديث آخر في اشتماله على اسم الله الأعظم : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر{[4316]} أخبرنا عبيد الله{[4317]} بن أبي زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت{[4318]} : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } و { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ آل عمران : 1 ، 2 ] " إن فيهما اسم الله الأعظم " {[4319]} .
وكذا رواه أبو داود عن مُسدَّد والترمذي عن علي بن خَشْرم{[4320]} وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ثلاثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد به{[4321]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
حديث آخر في معنى هذا عن أبي أمامة رضي الله عنه : قال ابن مَرْدُويه : أخبرنا عبد الرحمن بن نمير أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أخبرنا الوليد بن مسلم ، أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد : أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه قال : " اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث : سورة البقرة وآل عمران وطه " وقال هشام - وهو ابن عمار خطيب دمشق - : أما البقرة ف { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي آل عمران : { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي طه : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [ طه : 111 ]{[4322]} .
حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة : قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن محرز بن مساور الأدمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن أخبرنا الحُسَين بن بشر{[4323]} بطَرسُوس أخبرنا محمد بن حمير أخبرنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ دُبُر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " .
وهكذا رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن الحسين بن بشر به {[4324]}وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن حِمْير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضًا فهو إسناد على شرط البخاري ، وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع{[4325]} فالله أعلم . وقد روى ابن مردويه من حديث علي{[4326]} والمغيرة بن شعبة{[4327]} وجابر بن عبد الله نحو هذا الحديث . ولكن في إسناد كل منها ضعف .
وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن دُرُسْتُوَيه المروزي{[4328]} أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن المثنى عن قتادة عن الحسن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعلْ له{[4329]} قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين{[4330]} وأعمال الصديقين ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنتُ{[4331]} قلبه للإيمان أو أريد قتله في سبيل الله " {[4332]} وهذا حديث منكر جدًّا .
حديث آخر في أنها تحفظ من قرأها أول النهار وأول الليل : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد الرحمن المليكي عن
زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ : { حم } المؤمن إلى : { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح " ثم قال : هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مُلَيْكة المليكي من قبل حفظه{[4333]} .
وقد ورد في فضيلتها{[4334]} أحاديث أخر تركناها اختصارًا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث على قراءتها عند الحجامة : أنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ وعدم النسيان أوردهما ابن مردويه وغير ذلك . وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة .
فقوله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } أي : الحي في نفسه الذي لا يموت أبدًا القيم لغيره وكان عمر يقرأ : " القَيَّام " فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] وقوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أي : لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية{[4335]} ، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم ، فقوله : { لا تَأْخُذُهُ } أي : لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ولهذا قال : { وَلا نَوْمٌ } لأنه أقوى من السنة . وفي الصحيح عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال : " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " {[4336]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام الله عز وجل ؟ فأوحى الله إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا{[4337]} فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما . قال : فجعل ينعس وهما في يده{[4338]} في كل يد واحدة قال : فجعل ينعس وينبه{[4339]} وينعس وينبه{[4340]} حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله عز وجل يقول : فكذلك السموات والأرض في يديه .
وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق فذكره{[4341]} وهو من أخبار بني إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل وأنه منزه عنه .
وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير :
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر ، قال : " وقع في نفس موسى : هل ينام الله ؟ فأرسل الله إليه ملكًا فأرقه ثلاثًا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما " . قال : " فجعل ينام تكاد يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى ، حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان " قال : " ضرب الله له مثلا عز وجل : أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض " {[4342]} .
وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك ؟ قال : اتقوا الله . فناداه ربه عز وجل : يا موسى سألوك : هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ، ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا . فقال : يا موسى ، لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك . وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي .
وقوله : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله :
{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 93 - 95 ] .
وقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } كقوله : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] وكقوله : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه له{[4343]} في الشفاعة كما في حديث الشفاعة : " آتي تحت العرش فأخر{[4344]} ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع " قال : " فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة " {[4345]} .
وقوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات : ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخبارًا عن الملائكة : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [ مريم : 64 ] .
وقوله : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } أي : لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه . ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [ طه : 110 ] .
وقوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } قال : علمه ، وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم كلاهما عن مطرف بن طريف به .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير مثله . ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : الكرسي موضع القدمين ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين .
وقال شجاع بن مخلد في تفسيره : أخبرنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الدُّهْني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال : " كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل " .
كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس ، فذكره{[4346]} وهو غلط وقد رواه وَكِيع في تفسيره : حدثنا سفيان عن عمار الدُّهْنِي{[4347]} عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره . وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم عن سفيان - وهو الثوري - بإسناده عن ابن عباس موقوفًا مثله وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[4348]} وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظُهَيْر الفزاري الكوفي - وهو متروك - عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا ولا يصح أيضًا .
وقال السدي عن أبي مالك : الكرسي تحت العرش . وقال السدي : السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش . وقال الضحاك عن ابن عباس : لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة .
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : حدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرْس " . قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض " {[4349]} .
وقال أبو بكر بن مردويه : أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبد الله بن وهيب{[4350]} الغزي أخبرنا محمد بن أبي السَّرِيّ العسقلاني أخبرنا محمد بن عبد الله{[4351]} التميمي عن القاسم بن محمد الثقفي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري ، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة " {[4352]} .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا زهير حدثنا ابن أبي بُكَيْر{[4353]} حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن عمر ، رضي الله عنه قال : أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة . قال : فعظم الرب تبارك وتعالى وقال : " إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطًا كأطيط الرَّحل الجديد من ثقله " {[4354]} .
وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتاب " المختار " من حديث أبي إسحاق{[4355]} السبيعي عن عبد الله بن خليفة وليس بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر{[4356]} ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفًا ومنهم من يرويه عنه مرسلا{[4357]} ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها .
وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه{[4358]} ، والله أعلم .
وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء ، والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية .
وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين : أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الأثير ويقال له : الأطلس . وقد رد ذلك عليهم آخرون .
وروى ابن جرير من طريق جُويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول : الكرسي هو العرش . والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه ، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار ، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة ، عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر والله أعلم .
وقوله : { وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي : لا يثقله ولا يُكْرثُهُ حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما ، بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب على جميع الأشياء ، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه ، محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد الفعال لما يريد ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه فقوله : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } كقوله : { وَهُو [ الْعَلِيُّ الْكَبِير } وكقوله ]{[4359]} : { الْكَبِيرُ الْمُتَعَال } [ الرعد : 9 ] .
وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه .
{ اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }
هذه سيدة آي القرآن ، ورد ذلك في الحديث( {[2428]} ) وورد أنها تعدل ثلث القرآن( {[2429]} ) ، وورد أن من قرأها أول ليله لم يقربه شيطان( {[2430]} ) ، وكذلك من قرأها أول نهاره . وهذه متضمنة التوحيد والصفات العلى ، و { الله } مبتدأ ، و { لا إله } مبتدأ ثانٍ ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود ، و { إلا } هو بدل من موضع { لا إله } ، و { الحي } صفة من صفات الله تعالى ذاتية ، وذكر الطبري ، عن قوم أنهم قالوا : الله تعالى حي لا بحياة . وهذا قول المعتزلة وهو قول مرغوب عنه ، وحكي عن قوم أنه حي بحياة هي صفة له ، وحكي عن قوم أنه يقال حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه( {[2431]} ) ، و { القيوم } فيعول من القيام أصله قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء ، وقيوم بناء مبالغة أي : هو القائم على كل أمر بما يجب له ، وبهذا المعنى فسره مجاهد والربيع والضحاك ، وقرأ ابن مسعود وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعمش : «الحي القيوم » بالألف( {[2432]} ) ثم نفى عز وجل أن تأخذه { سنة } أو { نوم } ، وفي لفظ الأخذ غلبة ما ، فلذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي ، والسنة بدء النعاس ، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه ، وليس يفقد معه كل ذهنه ، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن ، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا تدركه آفة ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال ، فجعلت هذه مثالاً لذلك وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ، وهذا هو مفهوم الخطاب كما قال تعالى : { فلا تقل لهما أف }( {[2433]} ) [ الإسراء : 23 ] ، ومما يفرق بين الوسن والنوم قول عدي بن الرقاع : [ الكامل ]
وَسْنان أَقْصَدُه النُّعاسُ فَرنّقَتْ . . . في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بنائِمِ( {[2434]} )
وبهذا المعنى في السنة فسر الضحاك والسدي ، وقال ابن عباس وغيره : السنة النعاس ، وقال ابن زيد : الوسنان ، الذي يقوم من النوم وهولا يعقل حتى ربما جرد السيف على أهله .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا الذي قال ابن زيد فيه نظر وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب ، وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال : «وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه ؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً لم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما ، قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت فانكسرت القارورتان »
قال : ضرب الله مثلاً أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض( {[2435]} ) ، وقوله تعالى : { له ما في السموات وما في الأرض } أي بالملك . فهو مالك الجميع وربه ، وجاءت العبارة ب { ما } وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود ، ثم قرر ووقف تعالى على من يتعاطى أن { يشفع عنده } أو يتعاطى ذلك فيه إلا أن يأذن هو في ذلك لا إله إلا هو( {[2436]} ) وقال الطبري : هذه الآية نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فقال الله : { له ما في السموات وما في الأرض } الآية تقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهنا هم الأنبياء والعلماء وغيرهم ، والإذن هنا راجع إلى الأمر فيما نص عليه ، كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له : واشفع تشفع( {[2437]} ) وإلى العلم والتمكين إن شفع أحد من الأنبياء والعلماء قبل أن يؤمر ، والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار ، وهو بين المنزلتين أو وصل ولكن له أعمال صالحة( {[2438]} ) .
وفي البخاري( {[2439]} ) ، في باب بقية من باب الرؤية ، أن المؤمنين يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا ، فهذه شفاعة فيمن يقرب أمره ، وكما يشفع الطفل المحبنطىء على باب الجنة الحديث( {[2440]} ) ، وهذا إنما هو في قرابتهم ومعارفهم وأن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين بالذنوب الذين لم تنلهم شفاعة الأنبياء .
وأما شفاعة محمد في تعجيل الحساب فخاصة له ، وهي الخامسة التي في قوله : «وأعطيت الشفاعة » وهي عامة للناس ، والقصد منها إراحة المؤمنين ، ويتعجل للكفار منها المصير إلى العذاب ، وكذلك إنما يطلبها إلى الأنبياء المؤمنون ، والضميران في قوله : { أيديهم وما خلفهم } عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : { له ما في السموات وما في الأرض } ، وقال مجاهد { ما بين أيديهم } الدنيا { وما خلفهم } الآخرة ، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان ، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان ، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده ، وبنحو قول مجاهد قاله السدي وغيره .
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
قوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه } معناه : من معلوماته( {[2441]} ) ، وهذا كقول الخضر لموسى عليهما السلام حين نقر العصفور من حرف السفينة : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات ، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض ، ومعنى الآية ، لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه ، واختلف الناس في الكرسي الذي وصفه الله تعالى بأنه وسع السموات والأرض ، فقال ابن عباس : { كرسيه } علمه ، ورجحه الطبري : وقال : منه الكراسة للصحائف التي تضم العلم ، ومنه قيل للعلماء الكراسيّ ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، وهذه الألفاظ تعطي نقض ما ذهب إليه من أن الكرسي العلم ، قال الطبري : ومنه قول الشاعر :
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة . . . كراسيّ بالأحداث حين تنوب( {[2442]} )
يريد بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها ، وقال أبو موسى الأشعري : الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل( {[2443]} ) ، وقال السدي : هو موضع قدميه .
قال القاضي أبو محمد : وعبارة أبي موسى مخلصة( {[2444]} ) لأنه يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك ، وهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك ، والكرسي هو موضع القدمين ، وأما عبارة السدي فقلقة ، وقد مال إليها منذر البلوطي( {[2445]} ) وتأولها بمعنى : ما قدم من المخلوقات( {[2446]} ) على نحو ما تأول في قول النبي عليه السلام فيضع الجبار فيها قدمه( {[2447]} ) . قال أبو محمد وهذا عندي عناء ، لأن التأويل لا يضطر إليه إلا في ألفاظ النبي عليه السلام وفي كتاب الله ، وأما في عبارة مفسر فلا ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الكرسي هو العرش نفسه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ، والعرش أعظم منه( {[2448]} ) ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس »( {[2449]} ) ، وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض » ، وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى ، والمستفاد من ذلك عظم قدرته إذ { لا يؤوده } حفظ هذا الأمر العظيم ، و { يؤوده } : معناه يثقله ، يقال آدني( {[2450]} ) الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة ، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم ، وروي عن الزهري وأبي جعفر والأعرج بخلاف عنهم ، تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى ، جعلوها بين بين لا تخلص واواً مضمومة ولا همزة محققة ، كما قيل في لؤم لوم ، و { العلي } : يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان ، لأن الله منزه عن التحيز ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا قول جهلة مجسمين( {[2451]} ) ، وكان الوجه أن لا يحكى وكذا { العظيم } هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر ، لا على معنى عظم الأجرام ، وحكى الطبري عن قول : أن { العظيم } معناه المعظم ، كما يقال العتيق بمعنى المعتق وأنشد قول الأعشى :
وكأن الخمر العتيق من الأس . . . فنط ممزوجة بماء زلال( {[2452]} )
وذكر عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا : لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيماً قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ .