128- وإذا كان الذين سلكوا صراط الله المستقيم لهم الأمْن وولاية الله ، فالذين سلكوا طريق الشيطان لهم جزاء ما ارتكبوا ، حين يحشر الجميع يوم القيامة ، ويقول - جل جلاله - للآثمين من الجن والإنس : أيها المجتمعون من الجن قد أكثرتم من إغواء الإنس حتى تبعكم منهم عدد كثير ! . فيقول الذين اتبعوهم من الإنس : يا خالقنا والقائم علينا ، قد انتفع بعضنا ببعض ، واستمتعنا بالشهوات ، وبلغنا أجلنا الذي حددته لنا . فيقول - جل جلاله - : مقركم النار خالدين فيها إلا مَنْ شاء الله أن ينقذهم ممن لم ينكروا رسالة الله . وإن أفعال الله دائماً على مقتضى الحكمة والعلم .
قوله تعالى : { ويوم يحشرهم } ، قرأ حفص : { يحشرهم } ، بالياء .
قوله تعالى : { جميعاً } ، يعني : الجن والإنس يجمعهم في موقف القيامة فيقول : { يا معشر الجن } ، والمراد بالجن : الشياطين
قوله تعالى : { قد استكثرتم من الإنس } ، أي : استكثرتم من الإنس بالإضلال والإغواء ، أي : أضللتم كثيراً .
قوله تعالى : { وقال أولياؤهم من الإنس } ، يعني : أولياء الشياطين الذين أطاعوهم من الإنس .
قوله تعالى : { ربنا استمتع بعضنا ببعض } قال الكلبي : استمتاع الإنس بالجن هو أن الرجل كان إذا سافر ونزل بأرض قفر ، وخاف على نفسه من الجن قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت في جوارهم ، وأما استمتاع الجن بالإنس هو أنهم قالوا : قد سدنا الإنس مع الجن ، حتى عاذوا بنا ، فيزدادون شرفاً في قومهم ، وعظماً في أنفسهم ، وهذا كقوله تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } . وقيل : استمتاع الإنس بالجن ، ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة ، وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها ، حتى يسهل فعلها عليهم ، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي . قال محمد بن كعب : هو طاعة بعضهم بعضاً ، وموافقة بعضهم لبعض .
قوله تعالى : { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } ، يعني : القيامة والبعث ،
قوله تعالى : { قال } الله تعالى : { النار مثواكم } مقامكم .
قوله تعالى : { خالدين فيها إلا ما شاء الله } . اختلفوا في هذا الاستثناء كما اختلفوا في قوله : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } [ هود :107 ] . قيل : أراد إلا قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم ، يعني : هم خالدون في النار إلا هذا المقدار . وقيل : الاستثناء يرجع إلى العذاب ، وهو قوله { النار مثواكم } ، أي : خالدين في النار سوى ما شاء الله من أنواع العذاب ، وقال ابن عباس : الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار ، و( ما ) بمعنى ( من ) على هذا التأويل .
قوله تعالى : { إن ربك حكيم عليم } ، قيل : عليم بمن استثنى ، عليم بما في قلوبهم من البر والتقوى .
{ 128 - 135 } { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
يقول تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } أي : جميع الثقلين ، من الإنس والجن ، من ضل منهم ، ومن أضل غيره ، فيقول موبخا للجن الذين أضلوا الإنس ، وزينوا لهم الشر ، وأزُّوهم إلى المعاصي : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ } أي : من إضلالهم ، وصدهم عن سبيل الله ، فكيف أقدمتم على محارمي ، وتجرأتم على معاندة رسلي ؟ وقمتم محاربين لله ، ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل الجحيم ؟
فاليوم حقت عليكم لعنتي ، ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم ، وإضلالكم لغيركم . وليس لكم عذر به تعتذرون ، ولا ملجأ إليه تلجأون ، ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع ، فلا تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال ، والخزي والوبال ، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا ، وأما أولياؤهم من الإنس ، فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا : { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي : تمتع كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه ، وانتفع به .
فالجنّي يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته ، وتعظيمه ، واستعاذته به . والإنسي يستمتع بنيل أغراضه ، وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته ، فإن الإنسي يعبد الجِنّي ، فيخدمه الجِنّي ، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية ، أي : حصل منا من الذنوب ما حصل ، ولا يمكن رد ذلك ، { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } أي : وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه بالأعمال ، فافعل بنا الآن ما تشاء ، واحكم فينا بما تريد ، فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر ، والأمر أمرك ، والحكم حكمك . وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق ، ولكن في غير أوانه . ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل ، الذي لا جور فيه ، فقال : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا }
ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه ، ختم الآية بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } فكما أن علمه وسع الأشياء كلها وعمّها ، فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها .
وقوله : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس } .
المعشر : الجماعة الذين يعاشر بعضهم بعضا أو الذين يربطهم أمر مشترك بينهم والمراد بالجن شياطينهم ومردتهم .
والمعنى : واذكر يا محمد - أو أيها العاقل - يوم نحشر الضالين والمضلين جميعاً من الإنس والجن ، فنقول للمضلين من الجن : { قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس } أى : قد أكثرتم من إغوائكم الإنس وإظلالكم إياهم ، أو قد أكثرتم منهم بأن جعلتموهم أتباعكم ، وأهل طاعتكم ، ووسوستم لهم بالمعاصى حتى غررتموهم وأوردتموهم هذا المصير الأليم .
و " يوم " منصوب على الظرفية والعامل فيه مقدر ، أى : اذكر يوم نحشرهم جميعاً . والضمير المنصوب فى " نحشرهم " لمن يحشر من الثقلين . وقيل للكفار الذين تتحدث عنهم هذه الآيات .
ووجه الخطاب إلى معشر الجن ، لأنهم هم الأصل فى إضلال أتباعهم من الإنس ، وهم السبب فى صدقهم عن السبيل القويم .
والمقصود من هذا القول لهم توبيخهم وتقريعهم على ما كان يصدر منهم من إغواء الغافلين من الإنس .
وهنا يحكى القرآن رد الضالين من الإنس على هذا التوبيخ فيقول : { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا } .
أى : وقال الذين أطاعوهم وانقادوا لهم من الإنس يا ربنا ، لقد استمتع بعضنا ببعض .
أى : انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على المفاسد وما يوصل إليها ، وانتفع الجن بالإنس ، حيث أطاعوهم واستجابوا لوسوستهم ، وخالفوا أمر ربهم .
وقال الحسن : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس .
أى : فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت ، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة .
وقيل : استمتاع الإنس بالجن معناه أن الرجل فى الجاهلية كان إذا سافر فنزل بأرض قفر خاف على نفسه من الجن فيقول . أعوذ بسيد هذا الوداى من شر سفهاء قومه ، فيبيت فى جوارهم وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أنهم قالوا . سدنا الإنس حتى عاذوا بنا ، فيزدادون بذلك شرفا فى قومهم وعظما فى أنفسهم .
وقيل : استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة ، واستمتاع الجن بالإنس هو طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من المعاصى فصاروا كالرؤساء لهم .
والذى نراه . أن استماع الجن بالإنس والإنس بالجن يتناول كل ذلك ، حيث انتفع كل فريق من صاحبه باللذة العاجلة التى أوردته إلى سوء المصير .
وقولهم هذا ، هو تحسر منهم على حالهم ، إذ قالوه اعترافاً بما فعلوه من طاعة للشياطين واتباع الهوى ، وتكذيب أمر البعث .
وإنما قال الأتباع من الإنس هذا القول مع أن الخطاب موجه إلى المتبوعين من شياطين الجن ، للإيذان بأن شياطين الجن قد أفحموا . ولم يستطيعوا أن ينطقوا أو يجيبوا . ثم أتبعوا تحسرهم هذا بتحسر آخر وهو قولهم : " وبلغنا أجلنا الذى أجلت لنا " .
أى " ها نحن يا ربنا قد استمتع بعضنا ببعض فى الدنيا عن طريق الشهوات المحرمة . واللذات الفانية القبيحة ، وها نحن قد وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذى حددته لنا ، وهو يوم القيامة والجزاء . ونحن فى أقبح صورة وأسوأ عيش .
وهنا يأتيهم الرد الحاسم . والحكم النافذ من الله العلى الكبير . حيث يقول - سبحانه - { قَالَ النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله } .
مثواكم : الثواء مع الإقامة مع الاستقرار . يقال : ثوى يثوى ثواء أى : استقر ، والثوية مأوى الغنم .
والمعنى : قال الله - تعالى - لهؤلاء الظالمين المعترفين على أنفسهم بارتكاب الموبقات : النار منزلكم ومحل إقامتكم الدائمة . فأنتم خالدين فيها فى كل وقت إلا فى وقت مشيئة الله بخلاف ذلك ، لأن الأمور كلها متروكة إليه ، وخاضعة لمشيئته .
والأرجح أن المراد بهذا الاستثناء وبنظائره فى آيات أخر ، المبالغة فى الخلود .
أى : أنه لا ينتفى فى وقت ما إلا وقت مشيئته - تعالى - وهو سبحانه لا يشاء ذلك . فقد أخبر فى آيات متعددة من كتابه أن هؤلاء الكفار لا يخرجون من النار أبدا .
وفى إيراد هذا المعنى بتلك الصورة ، بلاغ للناس بأن مرد الأمور كلها إلى مشيئة الله ، وأن خلود المشركين فى نار جهنم إنما هو بمحض مشيئته ، ولو شاء غير ذلك ما خلدوا ، وفيه إلى جانب ذلك تنكيل آخر بهؤلاء الأشقياء لأنهم قد صاروا فى حيرة دائمة من أمرهم .
تجعلهم مشتتين بين الطمع فى الخروج مما هم فيه ، واليأس منه .
وهذا التفسير للجملة الكريمة هو الذى نختاره ونرجحه ، وهناك وجوه أخرى فى تفسيرها منها ما ذهب إليه الزمخشرى حيث قال :
وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله } أى : يخلدون فى عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التى ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير فقد روى أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ، أو أن يكون من قول الموتور - أى المظلوم - الذى ظفر بواتره ، ولم يزل يحرق عليه أنيابه ، وقد طلب أن ينفس عن خناقه . أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئتُ ، علم أنه لا يشاء إلى التشفى منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنت والتشديد . فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه فى صورة الاستثناء الذى فيه إطماع .
ومنها : ما نقل عن ابن عباس أنه - تعالى - استثنى قوما قد سبق فى علمه أنهم يدخلون فى الإسلام ، وهو مبنى على أن الاستثناء . ليس من المحكى وأن " ما " بمعنى " من " .
ومنها : أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت فى وجوههم استهزاء بهم . فهم فيها إلا الوقت الذى يخرجون منها متجهين إلى الجنة حيث تقفل فى وجوههم ليكون ذلك أعظم فى حسرتهم .
ومنها : أن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار . أى : إلا وقت مشيئة الله فناءها وزوال عذابها . وهى مسألة خلافية بين العلماء .
وهناك أقوال أخرى لا مجال لذكرها . والقول الذى نرجحه ونعتمده هو الذى سقناه أولا كما أشرنا إلى ذلك من قبل لأنه قول المحققين من العلماء ؛ ولأنه يتناسب مع ما يليق بذات الله من كمال قدرته . ونفاذ إرادته .
وجملة " إن ربك حكيم عليم " تسلية لبيان ما تقتضيه حكمته وإرادته . أى : إن ربك حكيم فى التعذيب والإثابة وفى كل أفعاله . عليم بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يلي بها من جزاء .
يقول تعالى : واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتذكرهم به { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } يعني : الجن وأولياءهم { مِنَ الإنْسِ } الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ويعوذون بهم ويطيعونهم ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا . { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ } أي : ثم يقول : يا معشر الجن . وسياق الكلام يدل على المحذوف .
ومعنى قوله : { قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ } أي : من إضلالهم وإغوائهم ، كما قال [ تعالى ]{[11214]} { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ يس : 60 - 62 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ } يعني : أضللتم منهم كثيرا . وكذلك قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة .
{ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } يعني : أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الأشهب هَوْذَة بن خليفة ، حدثنا عَوْف ، عن الحسن في هذه الآية قال : استكثر ربكم أهل النار يوم القيامة ، فقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض . قال الحسن : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت ، وعملت الإنس .
وقال محمد بن كعب في قوله : { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } قال : الصحابة في الدنيا .
وقال ابن جُرَيْج : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض ، فيقول : " أعوذ بكبير هذا الوادي " : فذلك استمتاعهم ، فاعتذروا يوم القيامة .
وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان - فيما ذكر - ما ينال الجنّ من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم ، فيقولون : قد سدنا الإنس والجن .
{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } قال السدي ، أي الموت .
قال : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ } أي : مأواكم ومنزلكم أنتم وأولياؤكم . { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين مكثًا مخلدًا إلا ما شاء الله .
قال بعضهم : يرجع معنى [ هذا ]{[11215]} الاستثناء إلى البرزخ . وقال بعضهم : هذا رد إلى مدة الدنيا . وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها [ إن شاء الله ]{[11216]} عند قوله تعالى في سورة هود : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [ الآية : 107 ] .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن صالح - كاتب الليث - : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا .
{ ويوم يحشرهم جميعا } نصب بإضمار أذكر أو نقول ، والضمير لمن يحشر من الثقلين . وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب { يحشرهم } بالياء . { يا معشر الجن } يعني الشياطين . { قد استكثرتم من الإنس } أي من إغوائهم وإضلالهم ، أو منهم جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقوله استكثر الأمير من الجنود . { وقال أولياؤهم من الإنس } الذين أطاعوهم . { ربنا استمتع بعضنا ببعض } أي انتفع الإنس والجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها ، والجن والإنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم . وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند المخاوف ، واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم يقدرون على إجازتهم . { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي البعث وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث وتحسر على حالهم . { قال النار مثواكم } منزلكم أو ذات مثواكم . { خالدين فيها } حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدرا ، ومعنا الإضافة إن جعل مكانا { إلا ما شاء الله } إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل { إلا ما شاء الله } قبل الدخول كأنه قيل : النار مثواكم أبدا إلى ما أمهلكم . { إن ربك حكيم } في أفعاله . { عليم } بأعمال الثقلين وأحوالهم .
{ يوم } نصب بفعل مضمر تقديره واذكر يوم ، ويحتمل أن يكون العامل { وليهم } [ الأنعام : 127 ] والعطف على موضع قوله { بما كانوا } [ الأنعام : 127 ] ، والضمير في { يحشرهم } عائد على الطائفتين الذين يجعل الله الرجس عليهم وهم جميع الكفار جناً وإنساً ، والذين لهم دار السلام جناً ، وإنساً ، ويدل على ذلك التأكيد العام بقوله { جميعاً } وقرأ حفص عن عاصم «يحشرهم » بالياء ، وقرأ الباقون بالنون وكلُّ متجه{[5095]} ، ثم ذكر عز وجل ما يقال للجن الكفرة ، وفي الكلام فعل مضمر يدل عليه ظاهر الكلام تقديره نقول يا معشر الجن ، وقوله { قد استكثرتم } معناه فرطتم ، و { من الإنس } يريد في إضلالهم وإغوائهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال الكفار من الإنس وهم أولياء الجن الموَّبخين على جهة الاعتذار عن الجن { ربنا استمتع بعضنا ببعض } أي انتفع .
قال القاضي أبو محمد : وذلك في وجوه كثيرة ، حكى الطبري وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف{[5096]} وكانت الجن تتعظم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير والمستجير ، إذ كان العربي إذا نزل وادياً ينادي : يا رب الوادي إني أستجير بك هذه الليلة ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي فهذا استمتاع بعضهم ببعض .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال في الاستمتاع ، ولو ُتُتبع لتبينت له وجوه أخر كلها دنياوية ، وبلوغ الأجل المؤجل قال السدي هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه ، وقيل هو الحشر ، وقيل هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع ، كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل ، وقرأ الحسن «وبلِّغنا أجلنا » بكسر اللام مشددة ، وقوله تعالى : { قال النار مثواكم } الآية ، إخبارٌ من الله عز وجل عما يقول لهم يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم ، وجاء الفعل بلفظ الماضي وهو في الحقيقة مستقبل لصحة وقوعه ، وهذا كثير من القرآن وفصيح الكلام و { مثواكم } أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة ، هذا قول الزجّاج وغيره ، قال أبو علي في الإغفال : المثوى عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي { خالدين } والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً ، والتقدير النار ذات ثوابكم ، والاستثناء في قوله { إلا ما شاء الله } قالت فرقة { ما } بمعنى من ، فالمراد إلا من شاء ممن آمن في الدنيا بعد أن آمن من هؤلاء الكفرة .
قال القاضي أبو محمد : ولما كان هؤلاء صنفاً ساغت في العبارة عنهم { ما } ، وقال الفراء { إلا } بمعنى سوى ، والمراد سوى ما يشاء من زيادة في العذاب ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال الطبري : إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار .
قال القاضي أبو محمد : وساغ هذا من حيث العبارة بقوله { النار مثواكم } لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره ، وقال الطبري عن ابن عباس أنه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم الله ثم أسند إليه أنه قال : إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً{[5097]} .
قال القاضي أبو محمد : والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ، ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، وليس مما يقال يوم القيامة ، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه قال للكفار : { النار مثواكم } استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافراً ، وتقع { ما } على صفة من يعقل ، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله { إن ربك حكيم عليم } أي بمن يمكن أن يؤمن منهم ، و { حكيم عليم } صفتان مناسبتان لهذه الآية ، لأن تخلد هؤلاء الكفرة في النار فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء .