المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

19- فقالوا - بطراً بنعمة الراحة والأمن - : ربنا باعد بين أسفارنا ، فلا نصادف قرى عامرة في طريقنا إلى مقاصدنا ، فباعد الله بين أسفارهم ، وظلموا أنفسهم بطغيانهم ، فصيَّرناهم أحاديث للناس ، وفرقناهم كل تفريق ، إن فيما وقع لهم لعظات لكل صابر على البلاء ، شكور على العطاء .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

قوله تعالى : { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد ، فجعل الله لهم الإجابة . وقال مجاهد : بطروا النعمة وسئموا الراحة . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : بعد بالتشديد من التبعيد ، وقرأ الآخرون : باعد ، بالألف ، وكل على وجه الدعاء والسؤال ، وقرأ يعقوب : ربنا برفع الباء ، باعد بفتح العين والدال على الخبر ، كأنهم استبعدوا أسفارهم القريبة بطروا وأشروا . { وظلموا أنفسهم } بالبطر والطغيان . قوله تعالى :{ فجعلناهم أحاديث } عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ، { ومزقناهم كل ممزق } فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق . قال الشعبي : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، أما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان ، وخزاعة إلى تهامة ، ومر آل خزيمة إلى العراق ، والأوس والخزرج إلى يثرب ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر ، وهو جد الأوس والخزرج . { إن في ذلك لآيات } لعبراً ودلالات ، { لكل صبار } عن معاصي الله ، { شكور } لأنعمه ، قال مقاتل : يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شاكر للنعماء . قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

صبار على المكاره والشدائد ، يتحملها لوجه اللّه ، ولا يتسخطها بل يصبر عليها . شكور لنعمة اللّه تعالى يُقِرُّ بها ، ويعترف ، ويثني على من أولاها ، ويصرفها في طاعته . فهذا إذا سمع بقصتهم ، وما جرى منهم وعليهم ، عرف بذلك أن تلك العقوبة ، جزاء لكفرهم نعمة اللّه ، وأن من فعل مثلهم ، فُعِلَ به كما فعل بهم ، وأن شكر اللّه تعالى ، حافظ للنعمة ، دافع للنقمة ، وأن رسل اللّه ، صادقون فيما أخبروا به ، وأن الجزاء حق ، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

ولكنهم لم يقدروا هذه النعمة ، بل بلغ بهم الجهل والحمق والبطر ، أنهم دعوا الله - تعالى - بقولهم - كما حكى القرآن عنهم - : { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } .

أى : ما أننا بفضلنا وإحساننا قد أعطيناهم تلك النعمة ، ومكانهم منها ، وهى نعمة تيسير وسائل السفر ، ومنحهم الأمان والاطمئمان خلاله . . إلا أنهم - لشؤمهم وضيق تفكيرهم وشقائهم - تضرعوا إلينا وقالوا : يا ربنا اجعل بيننا وبين القرى المباركة ، مفاوز وصحارى متباعدة الأقطار ، بدل تلك القرى العامرة المتقاربة ، فهم - كما يقول صاحب الكشاف - : بطروا النعمة ، وبشموا . أى : سئموا - من طيب العيش ، وملوا العافية ، فطلبوا النكد والتعب ، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم ، مكان المن والسلوى .

وفى هذه الجملة الكريمة قراءات متعددة ذكرها القرطبى فقال ما ملخصه : فقراءة العامة { ربنا } - النصب - على أنه نداء مضاف . . { باعد } - بزنة فاعل - سألوا المباعدة فى أسفارهم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ربنا } كذلك على الدعاء { بعَّد } - بتشديد العين - من التبعيد .

وقرأ يعقوب وغيره { ربُّنا } - بالرفع - { باعَدَ } بفتح العين والدال - على الخبر . أى : لقد باعد ربنا { بَيْنَ أَسْفَارِنَا } .

وقوله : { وظلموا أَنفُسَهُمْ } أى : قالوا ذلك القول السئ ، وظلموا أنفسهم بسببه ، حيث أجيب دعاؤهم ، فكان نقمة عليهم ، لأنهم بعد أن كانوا يسافرون بيسر وأمان ، صاروا يسافرون بمشقة وخوف .

وقوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } بيان لما آل إليه أمرهم .

والأحاديث : جمع أحدوثة ، وهى ما يتحث به الناس على سبيل التلهى والتعجب أى : قالوا ما قالوا من سوء وفعلوا ما فعلوا من منكر ، فكانت نتيجة ذلك . أن صيرناهم أحاديث يتلهى الناس بأخبارهم ، ويضربون بهم المثل ، فيقولون : فتفرقوا أيدى سبأ ، ومزقناهم كل ممزق فى البلاد المتعددة ، فمنهم من ذهب إلى الشام ، ومنهم من ذهب إلى العراق . . . . بعد أن كانوا أمة متحدة ، يظلها الأمان والاطمئمان ، والغى والجاه . .

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذى فعلناه بهم بسبب جهلهم وفسوقهم وبطرهم { لآيَاتٍ } واضحات بينات { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } على طاعة الله - تعالى - { شَكُورٍ } له - سبحانه - على نعمه .

وخص - سبحانه - الصبار والشكور بالذكر . لأنهما هما المنتفعان بآياته وعبره ومواعظه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

15

{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } ، وقرأ آخرون : " بعد بين أسفارنا " ، وذلك أنهم بَطروا هذه النعمة - كما قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وغير واحد - وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحَرُور والمخاوف ، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض ، من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في مَنّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة ؛ ولهذا قال لهم : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } [ البقرة : 61 ] ، وقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 58 ] ، وقال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] . وقال في حق هؤلاء : { وَظَلَمُوا{[24265]} أَنْفُسَهُمْ } أي : بكفرهم ، { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي : جعلناهم حديثا للناس ، وَسمَرًا يتحدثون به من{[24266]} خبرهم ، وكيف مكر الله بهم ، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا ؛ ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا : " تفرقوا أيدي سبأ " " وأيادي سبأ " و " تفرقوا شَذَرَ مَذَرَ " . {[24267]}

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، سمعت أبي يقول : سمعت{[24268]} عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ ، قال : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ [ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ] }{[24269]} إلى قوله : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } وكانت فيهم كهنة ، وكانت الشياطين يسترقون السمع ، فأخبروا الكهنة{[24270]} بشيء من أخبار{[24271]} السماء ، فكان{[24272]} فيهم رجل كاهن شريف كثير المال ، وإنه خُبّر أن زوال أمرهم قد دنا ، وأن العذاب قد أظلهم{[24273]} . فلم يدر كيف يصنع ؛ لأنه كان له مال كثير من عقار ، فقال لرجل من بنيه - وهو أعزهم أخوالا - : إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعل ، فإذا انتهرتك فانتهرني ، فإذا تناولتك فالطمني . فقال : يا أبت ، لا تفعل ، إن هذا أمر عظيم ، وأمر شديد ، قال : يا بني ، قد حدث أمر لا بد منه . فلم يزل به حتى وافاه على ذلك . فلما أصبحوا واجتمع الناس ، قال : يا بني ، افعل كذا وكذا . فأبى ، فانتهره أبوه ، فأجابه ، فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه ، فوثب على أبيه فلطمه ، فقال : ابني يلطمني ؟ عَلَيّ بالشفرة . قالوا : وما تصنع بالشفرة ؟ قال : أذبحه . قالوا : تذبح ابنك . الطمه أو اصنع ما بدا لك . قال : فأبى ، قال : فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك ، فجاء أخواله فقالوا : خذ منا ما بدا لك . فأبى إلا أن يذبحه . قالوا : فلتموتن قبل أن تذبحه . قال : فإذا كان الحديث هكذا فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ولدي{[24274]} فيه ، اشتروا مني دوري ، اشتروا مني أرضي ، فلم يزل حتى باع دوره وأرضيه وعقاره ، فلما صار الثمن في يده وأحرزه ، قال : أي قوم ، إن العذاب قد أظلكم ، وزوال أمركم قد دنا ، فمن أراد منكم دارا جديدا ، وجملا شديدا ، وسفرا بعيدا ، فليلحق بعمان . ومن أراد منكم الخَمْر والخَمير والعَصير - وكلمة ، قال{[24275]} إبراهيم : لم أحفظها - فليلحق{[24276]} ببصْرَى ، ومن أراد الراسخات في الوحل ، المطعمات في المحل ، المقيمات في الضحل ، فليلحق{[24277]} بيثرب ذات نخل . فأطاعه قومه{[24278]} فخرج أهل عمان إلى عمان . وخرجت غسان إلى بصرى . وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل . قال : فأتوا على بطن مر فقال بنو عثمان : هذا مكان صالح ، لا نبغي به بدلا . فأقاموا به ، فسموا لذلك خزاعة ، لأنهم انخزعوا من أصحابهم ، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة ، وتوجه أهل عمان إلى عمان ، وتوجهت غسان إلى بصرى .

هذا أثر غريب عجيب ، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم . {[24279]}

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن ، بسبب استشعاره بإرسال العَرم فقال : وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن - فيما حدثني أبو زيد الأنصاري - : أنه رأى جرذًا يَحفر{[24280]} في سد مأرب ، الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم . فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك ، فاعتزم على النَّقُلة عن اليمن فكاد{[24281]} قومه ، فأمر أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ، ففعل ابنه ما أمره به ، فقال عمرو : لا أقيم ببلد لَطَم وجهي فيها أصغر ولدي{[24282]} . وعرض أمواله ، فقال أشراف من أشراف اليمن : اغتنموا غَضْبَةَ عمرو . فاشتروا منه أمواله ، وانتقل هو في ولده وولد ولده . وقالت الأزد : لا نتخلف عن عمرو بن عامر . فباعوا أموالهم ، وخرجوا معه فساروا{[24283]} حتى نزلوا بلاد " عك " مجتازين يرتادون البلدان ، فحاربتهم عك ، وكانت حربهم سجَالا . ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي :

وَعَكَ بنُ عَدنَانَ الذين تَغَلَّبُوا *** بِغَسَّانَ ، حتى طُرّدُوا كُلّ مَطْرَد

وهذا البيت من{[24284]} قصيدة له .

قال : ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد ، فنزل آل جَفْنَة بن عمرو بن عامر الشام ، ونزلت الأوس والخزرج يثرب ، ونزلت خزاعة مَرّا . ونزلت أزد السراة السراة ، ونزلت أزد عُمَان عُمان ، ثم أرسل الله على السد السيل فهدمَه ، وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات . {[24285]}

وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق ، إلا أنه قال : " فأمر ابن أخيه " ، مكان " ابنه " ، إلى قوله : " فباع ماله وارتحل بأهله ، فتفرقوا " . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، أخبرنا [ سلمة ]{[24286]} ، عن ابن إسحاق قال : يزعمون أن عمرو بن عامر - وهو عم القوم - كان كاهنًا ، فرأى في كهانته أن قومه سَيمَزّقون ويباعَدُ بين أسفارهم . فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا هَمٍّ بعيد وجمل شديد ، ومَزَاد جَديد - فليلحق بكاس أو كرود . قال : فكانت وادعة بن عمرو . ومَنْ كان منكم ذا هَمّ مُدْن ، وأمر دَعْن ، فليلحق بأرض شَنْ . فكانت عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم : بارق . ومَنْ كان منكم يريد عيشا آنيا ، وحرما آمنا ، فليلحق بالأرزين . فكانت خزاعة . ومَنْ كان منكم يريد الراسيات في الوحل ، المطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل . فكانت الأوس والخزرج ، وهما هذان الحيان من الأنصار . ومَنْ كان منكم يريد خمرا وخَميرا ، وذهبا وحريرا ، وملكا وتأميرا ، فليلحق بكُوثي وبُصرى ، فكانت غسانَ بنو جَفنة{[24287]} ملوكُ الشام . ومَنْ كان منهم بالعراق . قال ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه المقالة طريفةُ امرأة عمرو بن عامر ، وكانت كاهنة ، فرأت في كهانتها ذلك ، فالله أعلم أيّ ذلك كان . {[24288]}

وقال سعيد ، عن قتادة ، عن الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان ، فمزقهم الله كل ممزق . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .

ثم قال محمد بن إسحاق : حدثني أبو عبيدة قال : قال الأعشى - أعشى بني قيس بن ثعلبة - واسمه : ميمون بن قيس :

وَفي ذَاكَ للمُؤتَسي{[24289]} أسْوَةٌ *** ومَأربُ عَفّى عَلَيها العَرمْ

رُخَام بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيرُ *** إذا جاءَ مَوَارهُ لم يَرمْ

فَأرْوَى الزُّرُوعَ وَأعنَابَها *** عَلَى سَعَة مَاؤهُمْ إذْ{[24290]} قُسِم

فَصَارُوا أيَادي مَا يَقْدرُو *** نَ منْه عَلَى شُرب طِفْل فُطِم{[24291]}

وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب ، وتبديل النعمة وتحويل العافية ، عقوبةَ على ما ارتكبوه من الكفر والآثام - لعبرةً وَدَلالةً لكل عبد صبار{[24292]} على المصائب ، شكور على النعم .

قال{[24293]} الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني ، قالا أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن العَيْزَار بن حُرَيث عن عمر بن سعد ، عن أبيه - هو سعد بن أبي وقاص ، رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن ، إن أصابه خير حَمدَ رَبَّه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حَمِد ربه وصَبَر ، يؤجر المؤمن في كل شيء ، حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته " .

وقد رواه النسائي في " اليوم والليلة " ، من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي ، به{[24294]} - وهو حديث عزيز - من رواية عمر بن سعد ، عن أبيه . ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة : " عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا{[24295]} ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " . {[24296]}

قال عبد : حدثنا يونس ، عن شيبان ، عن{[24297]} قتادة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } قال : كان مطرّف يقول : نعم العبد الصبار الشكور ، الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر .


[24265]:- في ت ، س ، أ: "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا".
[24266]:- في ت: "في".
[24267]:- في ت: "ومدر".
[24268]:- في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة".
[24269]:- زيادة من ت ، س ، أ.
[24270]:- في س: "فأخبروا به الكهنة".
[24271]:- في أ: "خبر".
[24272]:- في س: "وكان".
[24273]:- في أ: "أضلهم".
[24274]:- في ت ، س: "ابنى".
[24275]:- في ت: "قالها".
[24276]:- في ت: "فيحق".
[24277]:- في ت: "فليحق".
[24278]:- في س: "قومنا".
[24279]:- في ت: "كهناتهم".
[24280]:- في س: "تحفر".
[24281]:- في ت ، س: "وكاد".
[24282]:- في ت: "أولادى".
[24283]:- في ت: "فسار".
[24284]:- في ت ، س: "في".
[24285]:- السيرة النبوية لابن هشام (1/10).
[24286]:- زيادة من ت ، والطبري.
[24287]:- في ت: "بنو حنيفة".
[24288]:- تفسير الطبري (22/59).
[24289]:- في ت: "وفي ذلك للمتوسى".
[24290]:- في ت: "إذا".
[24291]:- السيرة النبوية لابن هشام (1/14).
[24292]:- في ت: "صبار شكور على".
[24293]:- في ت: "وروى".
[24294]:- المسند (1/173) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10906).
[24295]:- في ت ، س: "خيرًا له".
[24296]:- لم أجده من حديث أبي هريرة ، وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (2999) من حديث صهيب ، رضي الله عنه.
[24297]:- في ت: "وعن".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالُواْ رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزّقْنَاهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ } .

اختلق القرّاء في قراءة قوله : رَبّنا باعِدْ بينَ أسْفارِنا فقرأته عامة قرّاء المدينة والكُوفة : رَبّنا باعِدْ بينَ أسْفارِنا على وجه الدعاء والمسألة بالألف وقرأ ذلك بعض أهل مكة والبصرة : «بَعّدْ » بتشديد العين على الدعاء أيضا . وذُكر عن المتقدمين أنه كان يقرؤه : «رَبّنا باعَدَ بَينَ أسْفارِنا » على وجه الخبر من الله أن الله فعل ذلك بهم . وحكي عن آخر أنه قرأه : «ربنا بَعّد » على وجه الخبر أيضا غير أنّ الربّ منادي .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا : رَبّنا باعِدْ و«بَعّدْ » لأنهما القراءتان المعروفتان في قرأة الأمصار وما عداهما فغير معروف فيهم على أن التأويل من أهل التأويل أيضا يحقّق قراءة من قرأه على وجه الدعاء والمسألة ، وذلك أيضا مما يزيد القراءة الأخرى بُعدا من الصواب .

فإذا كان هو الصواب من القراءة ، فتأويل الكلام : فقالوا : يا ربنا باعِدْ بين أسفارنا ، فاجعل بيننا وبين الشأم فَلَوات ومَفاوِز ، لنركب فيها الرواحل ، ونتزوّد معنا فيها الأزواد وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم ، وجهلهم بمقدار العافية ولقد عجل لهم ربهم الإجابة ، كما عجل للقائلين : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عَنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ أعطاهم ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من المسألة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو خُصَين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عَبْثَر ، قال : حدثنا حُصَين ، عن أبي مالك في هذه الاَية : فَقالُوا رَبّنا باعِدْ بينَ أسْفارِنا قال : كانت لهم قُرًى متصلة باليمن ، كان بعضها ينظر إلى بعض ، فبطروا ذلك ، وقالوا : ربنا باعدْ بين أسفارنا ، قال : فأرسل الله عليهم سَيْل العَرِم ، وجعل طعامهم أَثْلاً وخَمْطا وشيئا من سدر قليل .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَقَالُوا رَبّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ قال : فإنهم بطِروا عيشهم ، وقالوا : لو كان جَنَى جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه ، فمُزّقوا بين الشأم وسبأ ، وبدّلوا بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل ، وشيء من سدر قليل .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَقالُوا رَبّنا باعِدْ بينَ أسْفارِنا بطر القوم نعمة الله ، وغَمَطوا كرامة الله ، قال الله وَظَلَمُوا أنُفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَقالُوا رَبّنا باعِدْ بَينَ أسْفارِنا حتى نبيت في الفَلَوات والصحاري فَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ .

وقوله فَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ وكان ظلمهم إياها عَمَلَهم بما يسخط الله عليهم من معاصيه ، مما يوجب لهم عقاب الله فجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ يقول : صيرناهم أحاديث للناس يضربون بهم المثل في السبّ ، فيقال : تفرّق القوم أيادِي سَبَا ، وأيدي سبا ، إذا تفرّقوا وتقطّعوا .

وقوله وَمَزّقْناهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ يقول : وقطعناهم فِي البلاد كلّ مقطع ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ فجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ وَمَزّقْناهُمْ كُلّ مُمّزّقٍ قال قتادة : قال عامر الشّعْبِي : أما غَسّان فقد لَحِقوا بالشأم ، وأما الأنصار فلحقوا بَيثرِب ، وأما خَزَاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعُمان .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : يزعمون أن عمِران بن عامر ، وهو عمّ القوم كان كاهنا ، فرأى في كَهانته أن قومه سيمزّقون ويتباعَدُون ، فقال لهم : إني قد علمت أنكم سَتُمزّقون ، فمن كان منكم ذا همّ بعيد ، وجمل شديد ، ومزاد جديد ، فليلحق بكأس أو كرود ، قال : فكانت وادعة بن عمرو ومن كان منكم ذا هم مدنٍ ، وأمرد عَنٍ ، فليلْحَق بأرض شَنّ ، فكانت عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم بارق ومن كان منكم يريد عيشا آينا ، وحرَما آمنا ، فليلحق بالأرزين ، فكانت خزاعة ومن كان يريد الراسيات في الوحْل ، المطْعِمات في المَحْل ، فليلحق بيثرب ذات النخل ، فكانت الأوس والخزرج فهما هذان الحيان من الأنصار ومن كان يريد خمرا وخميرا ، وذهبا وحريرا ، وملكا وتأميرا فليلحق بكُوثىَ وبُصْرَى ، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشأم ومن كان منهم بالعراق . قال ابن إسحاق : قد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمران بن عامر ، وكانت كاهنة ، فرأت في كهانتها ذلك ، والله أعلم أيّ ذلك كان قال : فلما تفرّقوا ، نزلوا على كهانة عمران بن عامر .

وقوله : إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ يقول تعالى ذكره : إن في تمزيقناهم كلّ ممزّق لاَيات يقول : لعظة وعِبْرة ودلالة على واجب حق الله على عبده من الشكر على نعمه إذا أنعم عليه ، وحقه من الصبر على محنته إذا امتحنه ببلاء لكلّ صبار شكور على نعمه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ كان مطرّف يقول : نعم العبد الصّبار الشكور ، الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر .