{ مثلهم } شبههم ، وقيل صفتهم . والمثل : قول سائر في عرف الناس يعرف به معنى الشيء وهو أحد أقسام القرآن السبعة .
{ كمثل الذي } . يعني الذين ، بدليل سياق الآية . ونظيره ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) .
{ استوقد ناراً } . أوقد نارا .
قوله تعالى : { فلما أضاءت } النار .
قوله تعالى : { ما حوله } . أي حول المستوقد . وأضاء : لازم ومتعد يقال أضاء الشيء بنفسه وأضاء غيره وهو هاهنا متعد .
قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } قال ابن عباس وقتادة ومقاتل والضحاك والسدي : نزلت في المنافقين . يقول : مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مغازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينا هو كذلك إذا طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفا متحيراً فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف . وقيل : ذهاب نورهم في القبر . وقيل : في القيامة ، حيث يقولون ( للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ) . وقيل : ذهاب نورهم بإظهار عقيدتهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فضرب النار مثلاً ثم لم يقل : أطفأ الله نارهم لكن عبر بإذهاب النور عنه لأن النار نور وحرارة فيذهب نورهم وتبقى الحرارة عليهم . وقال مجاهد : إضاءة النار إقبالهم إلى المسلمين والهدى ، وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة ، وقال عطاء و محمد ابن كعب : نزلت في اليهود . وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به ثم وصفهم الله فقال : { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } .
ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف ، فقال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
أي : مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا ، أي : كان في ظلمة عظيمة ، وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره ، ولم تكن عنده معدة ، بل هي خارجة عنه ، فلما أضاءت النار ما حوله ، ونظر المحل الذي هو فيه ، وما فيه من المخاوف وأمنها ، وانتفع بتلك النار ، وقرت بها عينه ، وظن أنه قادر عليها ، فبينما هو كذلك ، إذ ذهب الله بنوره ، فذهب عنه النور ، وذهب معه السرور ، وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة ، فذهب ما فيها من الإشراق ، وبقي ما فيها من الإحراق ، فبقي في ظلمات متعددة : ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر ، والظلمة الحاصلة بعد النور ، فكيف يكون حال هذا الموصوف ؟ فكذلك هؤلاء المنافقون ، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين ، ولم تكن صفة لهم ، فانتفعوا بها{[56]} وحقنت بذلك دماؤهم ، وسلمت أموالهم ، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا ، فبينما هم على ذلك{[57]} إذ هجم عليهم الموت ، فسلبهم الانتفاع بذلك النور ، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب ، وحصل لهم ظلمة القبر ، وظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظُلَمُ{[58]} المعاصي على اختلاف أنواعها ، وبعد ذلك ظلمة النار [ وبئس القرار ] . فلهذا قال تعالى [ عنهم ] : { صُمٌّ }
وبعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين في الآيات السابقة ، ساق مثلين لتوضيح سوء تصرفهم ، وشدة حيرتهم واضطرابهم . فقال تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . . }
قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ } أي : صفتهم ، وأصل المثل بمعنى المثل - بكسر الميم وسكون الثاء - والمثل النظير والشبيه ، ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه - وهو الذي يضرب فيه - لمورده الذي ورد فيه أولا ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شان عجيب وفيها غرابة ، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية ، وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفي وتقريب المعقول من المحسوس ، وعرض الغائب في صورة الشاهد ، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس .
واستوقد النار : طلب وقودها بسطوع نارها واندلاع لهيبا ، أو أوقدها لأن أوقد واستوقد قد يكونان بمعنى واحد كأجاب واستجاب .
والنار : جوهر لطيف حار محرق من نار ينور إذا نفر لحركتها واضطرابها ، وأضاءت ما حوله ، جعلت ما حوله مضئياً ، أو أشرقت فيما حوله . وحول الشيء : ما يحيط به من جميع نواحيه ، ولذا قيل للعام حول ، للفه ودورانه حتى يعود كما كان .
والنور : الضوء الذي يكون للشيء المضيء ، وهو مأخوذ من النار .
ومعنى : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } سلبه منهم ، وفي إسناد ذهب إلى الله تعالى - إشعار بأن النور الذي سلب عنهم لن يستطيع أحد أن يرده عليهم ، لأن الذي سلبه عنهم إنما هو الله الغالب على أمره .
وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنارهم ، لأن إيقاد النار يكون للإِضاءة وللإِحراق والمقصود من إيقاد النار الواردة في المثل إنما هو الإِضاءة .
وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنوره ، مع أن الضمير يعود { الذي استوقد } وهو بحسب الظاهر مفرد ، لأن { الذي } قد يطلق أحيانا قد يطلق بمعنى الذين ، كما في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } أو لأن { الذي } أريد منه جنس المستوقد ، لا مستوقد بعينه ، فصار في معنى جماعة من المستوقدين . وصح أن يعود عليه ضمير الجمع في قوله { بِنُورِهِمْ } لذلك .
وأورد الظلمات بصيغة الجمع للمبالغة في شدتها ، فكأنها لشدة كثافتها ظلمات بعضها فوق بعض ، وأكد هذا بقوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } أي : أن هذه الظلمات بالغة في الشدة حتى أولئك المحاطين بها لا يتأتى لهم أن يبصروا ، كما أن الشان كذلك بالنسبة للذين طمس على أعينهم .
وعبر - سبحانه - بقوله : { وَتَرَكَهُمْ } ولم يقل : ذهب بنورهم وبقوا في ظلمات ، ليدل بذلك على قطع الصلة بينهم وبين ربهم ، وأنهم متروكون غضباً عليهم ونكاية بهم .
هذا ، وللعلماء رأيان في تطبيق هذا المثل على المنافقين ، أما الرأي الأول فيرى أصحابه ، أن هذا المثل قد ضرب في قوم دخلوا في الإِسلام عند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم تحولوا بعد ذلك إلى الكفر والنفاق فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء المنافقين الذين اكتسبوا بإيمانهم نوراً ، ثم أبطلوا ذلك بنفاقهم ، ووقعوا في حيرة عظيمة ، كقصة من استوقدوا ناراً ؛ فلما أضاءت ما حولهم ، سلب الله منهم الضوء فراحوا في ظلام لا يهتدون إلى الخروج منه سبيلا .
وأما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن هذا المثل إنما ضرب في قوم لم يسبق لهم إيمان وإنما دخلوا في الإسلام من أول أمرهم نفاقاً ، فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء الذين دخلوا في الإِسلام نفاقاً ، فظفروا بحقن دمائهم وبغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين ، وتمتعوا بذلك في الدنيا قليلا ثم صاروا إلى ظلمات العذاب الدائم في الآخرة - قصة هؤلاء كقصة من استوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها ، فأضاءت ما حولهم قليلا ، ثم طفئت وصاروا إلى ظلمة شديدة مطبقة .
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ }
[ يقال : مثل ومثل ومثيل - أيضا - والجمع أمثال ، قال الله تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ]{[1298]} .
وتقدير هذا المثل : أن الله سبحانه ، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى ، بمن استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله ، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره ، وصار في ظلام شديد ، لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع ذلك أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ، أعمى لو كان ضياء لما أبصر ؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء{[1299]} المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى ، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد . وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا ، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع ، والله أعلم .
وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال : والتشبيه هاهنا في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين .
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] .
والصواب : أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير ، رحمه الله ، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 3 ] ؛ فلهذا وجه [ ابن جرير ]{[1300]} هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان ، أي في الدنيا ، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة .
قال : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما قال : { رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ الأحزاب : 19 ] أي : كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [ الجمعة : 5 ] ، وقال بعضهم : تقدير الكلام : مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا . وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه . وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد{[1301]}
قلت : وقد التفت في أثناء المثل من الواحد{[1302]} إلى الجمع ، في قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } وهذا أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي : ذهب عنهم ما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ، { لا يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبل{[1303]} خير ولا يعرفونها ، وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا يسمعون خيرا { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْيٌ } في ضلالة وعماية البصيرة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة .
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه :
قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة ، فأوقد نارًا ، فأضاءت ما حوله من قذى ، أو أذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه{[1304]} فبينا{[1305]} هو كذلك إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى ، فكذلك المنافق : كان في ظلمة الشرك فأسلم ، فعرف الحلال والحرام ، و[ عرف ]{[1306]} الخير والشر ، فبينا{[1307]} هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر .
وقال مجاهد : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ }{[1308]} أما إضاءة النار فإقبالهم{[1309]} إلى المؤمنين ، والهدى .
وقال عطاء الخرساني في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال : هذا مثل المنافق ، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا ، ثم يدركه عمى القلب .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، والحسن والسدي ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين . كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم ، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا{[1310]} ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية ، قال : أما النور : فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به ، وأمَّا الظلمة : فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدى ، ثمّ نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك .
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ ، كما سُلِب صاحب النار ضَوءه .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها ، وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص ، بلا إله إلا الله ، أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة .
وقال الضحاك [ في قوله ]{[1311]} { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فهي{[1312]} لا إله إلا الله ؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وقال سعيد ، عن قتادة في هذه الآية : إن المعنى : أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازاهم بها ، ووارثهم بها ، وحقن بها دمه وماله ، فلما كان عند الموت ،
سلبها المنافق ؛ لأنه{[1313]} لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في عمله{[1314]} .
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } يقول : في عذاب إذا ماتوا .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم{[1315]} ونفاقهم فيه ، فتركهم الله في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ، ولا يستقيمون على حق .
وقال السدي في تفسيره بسنده : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } فكانت الظلمة نفاقهم .
وقال الحسن البصري : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ } فذلك{[1316]} حين يموت المنافق ، فيظلم عليه عمله عمل السوء ، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق{[1317]} به قول : لا إله إلا الله{[1318]} . { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } قال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } فهم خرس عمي{[1319]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه ، وكذا قال أبو العالية ، وقتادة بن دعامة .
{ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } قال ابن عباس : أي لا يرجعون إلى هدى ، وكذلك{[1320]} قال الرّبيع بن أنس .
وقال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام .
وقال قتادة : { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } أي لا يتوبون{[1321]} ولا هم يذكرون .