قوله تعالى : { قال فبما أغويتني } ، اختلفوا في ( ما ) قيل : هو استفهام ، يعني فبأي شيء أغويتني ؟ ثم ابتدأ فقال : { لأقعدن لهم } وقيل : هو ما الجزاء ، أي : لأجل أنك أغويتني أقعدن لهم . وقيل : هو ما المصدر موضع القسم تقديره : فبإغوائك إياي لأقعدن لهم ، كقوله { بما غفر لي ربي } [ يس :27 ] ، يعني بغفران ربي . والمعنى بقدرتك علي ونفاذ سلطانك . وقال ابن الأنباري : أي فيما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب هبوطي من السماء ، أغويتني : أضللتني عن الهدى . وقيل : أهلكتني ، وقيل : خيبتني .
قوله تعالى : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } ، أي : لأجلسن لبني آدم على طريقك القويم ، وهو الإسلام .
{ 16 - 17 } { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }
أي : قال إبليس - لما أبلس وأيس من رحمة اللّه - { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي : للخلق { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : لألزمن الصراط ولأسعى غاية جهدي على صد الناس عنه وعدم سلوكهم إياه .
ثم حكى القرآن ما توعد به إبليس آدم وذريته من كيد وأذى فقال : { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } .
الباء للقسم أو للسببية أى : فأقسم بإغوائك إياى ، أو بسبب إغوائك إياى ، لأترصدن لآدم وبنيه على طريق الحق وسبيل النجاة ، كما يترصد قطاع الطرق للسائرين فيها فأصدنهم عنها وأحاول لك السبل أن اصرفهم عن صراطك المستقيم ، ولن أتكاسل عن العمل على إفسادهم وإضلالهم .
والإغواء : خلق الغى بمعنى الضلال . وأصل الغى الفساد ، ومنه غوى الفصيل - كرضى - غوى ، إذا بشم من اللبن ففسدت معدته ، أو منع الرضاع فهزل وكاد يهلك ، ثم استعمل في الضلال ، يقال : غوى يغوى غياً وغواية فهو غاو ، وغوى إذا ضل ، وأغواه غيره : أضله .
وهنا يعلن إبليس في تبجح خبيث - وقد حصل على قضاء بالبقاء الطويل - أنه سيرد على تقدير الله له الغواية وإنزالها به ، بسبب معصيته وتبجحه ؛ بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله ، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده ! ويجسم هذا الإغواء بقوله الذي حكاه القرآن عنه :
( لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) . .
إنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم ، يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه - والطريق إلى الله لا يمكن أن يكون حساً ، فالله سبحانه جل عن التحيز ، فهو إذن طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضى الله –
{ قال فبما أغويتني } أي بعد أن أمهلتني لاجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني بسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية ، أو حملا على الغي ، أو تكليفا بما غويت لأجله والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا بأقعدن فإن اللام تصد عنه وقيل الباء للقسم : { لأقعدن لهم } ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة . { صراطك المستقيم } طريق الإسلام ونصبه على الظرف كقوله :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال فبما أغويتني} قال: أما إذ أضللتني. {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} يعني لأصدنهم عن دينك المستقيم، يعني الإسلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: قال إبليس لربه:"فَبِما أغْوَيْتَنِي" يقول: فبما أضللتني... وكان بعضهم يتأوّل قوله: "فَبِما أغْوَيْتَنِي": بما أهلكتني، من قولهم: غَوِيَ الفصيل يَغْوَى غَوًى، وذلك إذا فقد اللبن فمات... وأصل الإغواء في كلام العرب: تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسنه عنده غارّا له... وكان بعضهم يتأوّل ذلك أنه بمعنى القسم، كأن معناه عنده: فبإغوائك إياي لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم، كما يقال: بالله لأفعلن كذا. وكان بعضهم يتأوّل ذلك بمعنى المجازاة، كأن معناه عنده: فلأنك أغويتني، أو فبأنك أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم...
وأما قوله: "لأَقْعُدَنّ لَهُمْ صرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ "فإنه يقول: لأجلسنّ لبني آدم "صراطك المستقيم"، يعني: طريقك القويم، وذلك دين الله الحقّ، وهو الإسلام وشرائعه.
وإنما معنى الكلام: لأصدنّ بني آدم عن عبادتك وطاعتك، ولأغوينهم كما أغويتني، ولأُضِلّنهم كما أضَللْتَني. وذلك كما رُوي عن سَبْرة بن الفاكه أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشّيْطانَ قَعَد لاِبْنِ آدَمَ بأطْرَقَةٍ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإسْلام، فَقالَ: أتُسْلَمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدينَ آبائِك؟ فَعَصَاهُ فَأسْلَم. ثُمّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيق الهجْرَةِ، فَقالَ: أتهاجِرُ وَتَذَرُ أرْضَكَ وَسَماءَكَ، وإنمَا مَثَلُ المُهاجرِ كالفَرَسِ فِي الطّوَلِ؟ فَعَصَاه وَهاجَرَ. ثُمّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الجِهادِ، وَهُوَ جَهْدُ النّفْسِ والمَالِ، فقالَ: أتُقاتلُ فتُقْتَلَ فَتُنْكَحُ المَرأةُ ويُقَسّمُ المَالُ؟ قالَ: فَعَصَاهُ فَجاهَدَ»...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {لأقعدنّ لهم} ليس على حقيقة القعود، ولكن على المنع عن السلوك في الطريق، أو على التلبيس عليهم الطريق المستقيم والستر عليهم؛ لأن من قعد في الطريق منع الناس عن السلوك فيه.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{لأقعدن لهم صراطك المستقيم} على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة بأن أزين لهم الباطل...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{لأقعدن لهم صراطك المستقيم} قيل: هو طريق الشكر.
الإغواء إيقاع الغي في القلب، والغي هو الاعتقاد الباطل.
قوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} فيه أبحاث. البحث الأول: المراد منه أنه يواظب على الإفساد مواظبة لا يفتر عنها، ولهذا المعنى ذكر القعود لأن من أراد أن يبالغ في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود. ومواظبته على الإفساد هي مواظبته على الوسوسة حتى لا يفتر عنها.
والبحث الثاني: إن هذه الآية تدل على أنه كان عالما بالدين الحق والمنهج الصحيح، لأنه قال: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} وصراط الله المستقيم هو دينه الحق.
البحث الثالث: الآية تدل على أن إبليس كان عالما بأن الذي هو عليه من المذهب والاعتقاد هو محض الغواية والضلال، لأنه لو لم يكن كذلك لما قال: {فبما أغويتني}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قد حكم عليه بالشقاء، قابل نعمة الإمهال وإطالة العمر بالتمادي في الكفر وأخبر عن نفسه بذلك بأن {قال} مسبباً عن إيقاعه في المعصية بسبب نوع الآدميين {فبما أغويتني} أي فبسبب إغوائك لي، وهو إيجاد الغي و اعتقاد الباطل في قلبي من أجلهم، والله {لأقعدن لهم} أي أفعل في قطعهم عن الخير فعل المتمكن المقبل بكليته المتأني الذي لا شغل له غير ما أقبل عليه في مدة إمهالك لي بقطعهم عنك بمنعهم من فعل ما أمرتهم به، وحملهم على فعل ما نهيتهم عنه، كما يقعد قاطع الطريق على السابلة للخطف {صراطك} أي في جميع صراطك، بما دل عليه نزع الخافض {المستقيم} وهو الإسلام بجميع شعبه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الإغواء: الإيقاع في الغواية وهي ضد الرشاد لأنها في أصل اللغة بمعنى الفساد المردي، وصراط الله المستقيم هو الطريق الذي يصل سالكه إلى السعادة التي أعدها سبحانه لمن تتزكى نفسه بهداية الدين الحق وتكميل الفطرة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا الكلام يدلّ على أنّ إبليس عَلِم أنّ الله خلق البشر للصّلاح والنّفعِ، وأنّه أودع فيهم معرفة الكمال، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد، فلذلك سُمِّيت أعمال الخير، في حكاية كلام إبليس، صراطاً مستقيماً، وأضافه إلى ضمير الجلالة، لأنّ الله دعا إليه وأراد من النّاس سلوكه، ولذلك أيضاً ألزم {لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم}. وبهذا الاعتبار كان إبليس عدواً لبني آدم، لأنّه يطلب منهم ما لم يُخلقوا لأجله وما هو منافٍ للفطرة التي فطر الله عليها البشر، فالعداوة متأصّلة وجبليّة بين طبع الشّيطان وفطرة الإنسان السّالمة من التّغيير، وذلك ما أفصح عنه الجَعل الإلهي المشار إليه بقوله: {بعضكم لبعض عدو} [البقرة: 36]، وبه سيتّضح كيف انقلبت العداوة ولاية بين الشّياطين وبين البشر الذين استحبُّوا الضّلال والكفر على الإيمان والصّلاح.