قوله تعالى : { فمن حاجك فيه } أي جادلك في أمر عيسى وفي الحق .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءك من العلم } بأن عيسى عبد الله ورسوله .
قوله تعالى : { فقل تعالوا } أصله تعاليوا ، تفاعلوا ، من العلو ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ، قال الفراء : بمعنى تعال ، كأنه يقول : ارتفع .
قوله تعالى : { ندع } جزم لجواب الأمر ، وعلامة الجزم سقوط الواو .
قوله تعالى : { أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } . قيل : أبناءنا ، أراد الحسن والحسين ونساءنا فاطمة ، وأنفسنا عنى نفسه وعلياً رضي الله عنه ، والعرب تسمى ابن عم الرجل نفسه ، كما قال الله تعالى : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) . يريد إخوانكم ، وقيل : هو على العموم لجماعة أهل الدين .
قوله تعالى : { ثم نبتهل } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي نتضرع في الدعاء ، وقال الكلبي : نجتهد ونبالغ في الدعاء ، وقال الكسائي وأبو عبيدة : نبتهل ، والابتهال الالتعان يقال : عليه بهلة الله أي لعنته .
قوله تعالى : { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } منا ومنكم في أمر عيسى ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً ، فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم ، يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال : والله لقد عرفتكم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، والله مالا عن قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم . ولئن فعلتم ذلك لنهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً للحسين ، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض منكم نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن أبيتم المباهلة فأسلموا ؟ يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، فأبوا فقال : فإني أنابذكم فقالوا : مالنا بحرب العرب طاقة ، ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ، ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألفاً في صفر ، وألفاً في رجب ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال : " والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا " .
أي : { فمن } جادلك { وحاجك } في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية ، بل رفعه فوق منزلته { من بعد ما جاءك من العلم } بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه ، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني ، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو ، لأن الحق قد تبين ، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله ، قصده اتباع هواه ، لا اتباع ما أنزل الله ، فهذا ليس فيه حيلة ، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته ، فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين ، هو وأحب الناس إليه من الأولاد والأبناء والنساء ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا ، وعلموا أنهم إن لاعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا بالعقوبة ، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه ، وهذا غاية الفساد والعناد ، فلهذا قال تعالى { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة .
لقد لقن الله تعالى ، نبيه صلى الله عليه وسلم ، الجواب الذى يقطع لسان المجادلين بالباطل فى شأن عيسى عليه السلام ، فقال تعالى { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } . . . إلخ .
قال الفخر الرازى : اعمل أنه " سبحانه " بين أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد وأتبعهما بذكر الجواب على جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم أن يكون ابنا لله فكذلك لا يلزم من عدم الأب البشرى لعيسى أن يكون ابنا لله . ولما لم يبعد خلق آدم من التراب لم يبعد أيضاً خلق عيسى من الدم الذى كان يجتمع فى رحم أم عيسى . ومن أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى - فعند ذلك - قال سبحانه - { فَمَنْ حَآجَّكَ } بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند ، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة .
والفاء في قوله { فَمَنْ حَآجَّكَ } للتفريع على قوله - تعالى - { الحق مِن رَّبِّكَ } . . وقوله { مِن } الراجح فيها أنها شرطية . وقوله { حَآجَّكَ } من المحاجة وهى تبادل الحجة والمجادلة بين شخص وآخر .
والمعنى : فمن جادلك وخاصمك " يا محمد " من أهل الكتاب " فيه " أى فى شأن عيسى - عليه السلام - بأن زعموا أنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة أو غير ذلك من الأقاويل الكاذبة في شأنه .
وقوله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } أى فمن جادلك فى شأن عيسى من بعد الذى أنزلناه إليك وقصصناه عليك فى أمره ، فلا تبادله المجادلة ، فإنه معاند لا يقعنه الدليل مهما كان واضحا ، ولكن قل له ولأمثاله من الضالين :
{ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } .
وقوله { تَعَالَوْاْ } اسم فعل أمر لطلب القدوم . وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى " كترامى يترامى " إذا قصد العلو . فكأنهم أرادوا به فى الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور .
وقوله { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أى نتباهل ونتلاعن . فالافتعال هنا بمعنى الفاعلة أى بأن نقول : بهلة الله على الكاذب منا ومنكم . والبهلة بفتح الباء وضمها : اللعنة . يقال بهله الله يبهله بهلا لعنه الله وأبعده من رحمته ثم شاعت فى كل دعاء مجتهد فيه وإن لم يكن التعانا .
والمعنى : فإن جادلك أهل الكتاب فى شأن عيسى من بعد أن أخبرك ربك بما هو الحق من أمره فقل لهم { تَعَالَوْاْ } أى أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه الحق من الباطل ، وهو أن ندعو نحن وأنتم الأبناء والنساء ثم نجتمع جميعا في مكان واحد ، ثم نتضرع إلى الله ونبتهل إليه بأن يجعل لعنته على الكاذبين فى دعواهم المنحرفين عن الحق فى اعتقادهم .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد لقنت النبى صلى الله عليه وسلم الجواب الحاسم الذى يخرس ألسنة المجادلين في عيسى ، ويتحداهم - إن كانوا صادقين - أن يقبلوا هذه المباهلة ، ولكنهم نكصوا على أعقابهم فثبت كذبهم وضلالهم .
وهذه الآية الكريمة تسمى بآية المباهلة ، وقد ذكر العلماء أنها نزلت للرد على نصارى نجران الذين جادلوا النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن عيسى - عليه السلام - .
قال ابن كثير ما ملخصه . وكان نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا فى وفد نصارى نجران حين قدموا المدينة فجعلوا يحاجون فى عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والألوهية فأنزل صدر هذه السورة رداً عليهم . . وكانوا ستين راكبا منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم وهم : العاقب أميرهم واسمه عبد المسيح ، والسيد صاحب رحلهم واسمه الأبهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفى القصة أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله تعالى ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم . دعاهم إلى المباهلة فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر فى أمرنا . . . ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم ان محمدا لنبى مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط ، فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم .
. فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم . فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا ، فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم وأقرهم لعى خراج يؤدونه إليه .
وروى الحافظ ابن مردويه عن جابر قال : قدم على النبى صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده على وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج .
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى بعثنى بالحق لو لاعنا لأمطر عليهم الوادى ناراً " .
ثم قال : وروى البخارى عن حذيفة قال : " جاء العاقب والسيد صاحب نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، ثم قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا . . فقال : " لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " . فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : " قم يا أبا عبيدة بن الجراح " . فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا أمين هذه الأمة " " .
وقال صاحب الكشاف : إن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ؛ وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟
قلت : ذلك آكد فى الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له . وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن فى الحروب لتمنعهم من الهرب . . . وفى الآية دليل واضح على صحة نبوة النبى صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك ؟ .
وهنا - وقد وضحت القضية وظهر الحق جليا - يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى أن ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق البين وأن يدعوهم إلى المباهلة كما هي مبينة في الآية التالية :
( فمن حاجك فيه - من بعد ما جاءك من العلم - فقل : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم . ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) . .
وقد دعا الرسول [ ص ] من كانوا يناظرونه في هذه القضية إلى هذا الاجتماع الحاشد ، ليبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين . فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة . وتبين الحق واضحا . ولكنهم فيما ورد من الروايات لم يسلموا احتفاظا بمكانتهم من قومهم ، وبما كان يتمتع به رجال الكنيسة من سلطان وجاه ومصالح ونعيم ! ! ! وما كانت البينة هي التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين إنما هي المصالح والمطامع والهوى يصد الناس عن الحق الواضح الذي لا خفاء فيه .
ثم قال تعالى - آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيانِ : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } أي : نحضرهم في حال المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } أي : نلتعن { فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } أي : منا أو منكم .
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران ، أن النصارى حين قدموا فجعلوا يُحَاجّون في عيسى ، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صَدْرَ هذه السورة رَدا عليهم ، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار وغيره .
قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره : وقَدم{[5095]} على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نَجْران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عَشرَ رجلا من أشرافهم يؤول إليهم أمرهم ، وهم : العاقب ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، وهو الأيْهَم ، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، وأويس الحارث{[5096]} وزيد ، وقيس ، ويزيد ، ونبيه ، وخويلد ، وعمرو ، وخالد ، وعبد الله ، وَيُحَنَّس .
وأمْرُ هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم ، وهم : العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، والسيد وكان عالمهم وصاحب رَحْلهم ومُجتمعهم ، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسْقُفهم وحَبْرَهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ، ولكنه تَنَصَّر ، فعظمته الروم وملوكها وشرفوه ، وبنوا له الكنائس وَمَوَّلُوه وأخْدَموه ، لما يعلمونه من صلابته في دينهم . وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأنه وصفته بما علمه من الكتب المتقدمة جيدا ، ولكن احتمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى [ من ]{[5097]} تعظيمه فيها ووجاهته عند أهلها .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه مَسْجِدَه حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرَات : جُبَب وأرْدية ، في جَمَال رجال بني الحارث بن كعب . قال : يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم . وقد حانت صلاتهم ، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دَعُوهم فصلّوا إلى المشرق .
قال : فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، أو السيّد الأيهم ، وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف أمرهم ، يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة . تعالى الله [ عن ذلك علوًا كبيرا ]{[5098]} وكذلك قول النصرانية ، فهم يحتجون في قولهم : " هو الله " بأنه كان يحيي الموتى ، ويُبْرئُ الأسقامَ ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا{[5099]} وذلك كله بأمر الله ، وليجعله آية للناس .
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله ، يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله .
ويحتجون في{[5100]} قولهم بأنه ثالث ثلاثة ، بقول الله تعالى : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ؛ فيقولون : لو كان واحدًا ما قال إلا فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ ؛ ولكنه هو وعيسى ومَرْيَم وفي كل ذلك من{[5101]} قولهم قد نزل القرآن .
فلما كلمه الحَبْران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسْلِمَا " قالا قد أسلمنا . قال : " إنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فأسْلِما " قالا بلى ، قد أسلمنا قبلك . قال : " كَذَبْتُمَا ، يمْنَعُكُمَا مِنَ الإسْلامِ دُعَاؤكُما{[5102]} لله ولدا ، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وأكْلُكُمَا الخِنزيرَ " . قالا فمن أبوه يا محمد ؟ فَصَمَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم ، صَدْرَ سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها .
ثم تَكَلَّم ابن إسحاق على التفسير{[5103]} إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله ، والفَصْلُ من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إنْ رَدّوا ذلك عليه ، دعاهم إلى ذلك ؛ فقالوا : يا أبا القاسم ، دَعْنَا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل{[5104]} فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خَلَوْا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبدَ المسيح ، ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرَفْتم أن محمدًا لنبيٌّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفَصْل من خَبَر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعَن قوم نبيًا قط فبقي كبيرهم ، ولا نبت صَغيرهم ، وإنه للاستئصال{[5105]} منكم إن فعلتم ، فإن كنتم [ قد ]{[5106]} أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعُوا الرجلَ وانصرفوا إلى بلادكم .
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا ألا نلاعنك ، ونتركك على دينك ، ونرجعَ على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم{[5107]} عندنا رضًا .
قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائْتُونِي الْعَشِيَّة أبعث معكم القوي الأمين " ، فَكان{[5108]} عمر بن الخطاب يقول : ما أحببت الإمارة قَطّ حُبّي إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فَرُحْتُ إلى الظهر مُهَجّرا ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ سلَّم ، ثم نَظَر عن يمينه وعن يساره ، فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يَزَلْ يلتمس ببصره حتى رأى أبا عُبَيدة بن الجَرَّاح ، فدعاه : " اخْرُجْ معهم ، فَاقْضِ بينهم بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ " . قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة ، رضي الله عنه{[5109]} .
وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن{[5110]} قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خُدَيْج : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، إلا أنه قال في الأشراف : كانوا اثني عشر . وذكر بقيته بأطول من هذا السياق ، وزيادات أخَر .
وقال البخاري : حدثنا عباس بن الحسين ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن صِلَة بن زُفَر ، عن حذيفة قال : جاء العاقبُ والسيدُ صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تَفْعَلْ ، فوالله إن{[5111]} كان نبيا فلاعناه لا نفلحُ نحنُ ولا عَقبنا من بعدنا . قالا إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلا أمينًا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : " لأبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلا أمينًا{[5112]} حَقَّ أمِينٍ " ، فاستشرفَ لها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " قُمْ يَا أبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحٍِ " فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هَذَا أمِينُ هذه الأمَّةِ " .
[ و ]{[5113]} رواه البخاري أيضا ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة{[5114]} من طرق عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن صِلَة ، عن حذيفة ، بنحوه .
وقد رواه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجة ، من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن صلَة عن ابن مسعود ، بنحوه{[5115]} .
وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن خالد ، عن أبي قِلابة ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل أُمَّةٍ أمينٌ وأمين هذه الأمَّة أبُو عبيدة بْنُ الْجَرَّاحِ " {[5116]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرَّقِّي أبو يزيد ، حدثنا فُرَات ، عن عبد الكريم ابن مالك الجزَري " عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل : إن رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطَأ على عنقه . قال : فقال : " لو فعلَ لأخَذته الملائكةُ عيانًا ، ولو أن اليهود تمنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرَجَعوا لا يجدون مالا ولا أهلا " {[5117]} .
وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن عبد الكريم ، به . وقال الترمذي : [ حديث ]{[5118]} حسن صحيح{[5119]} .
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصَّة وَفْد نَجْران مطولة جدًا ، ولنذكره فإن فيه فوائدَ كثيرة ، وفيه غرابة وفيه مناسبة لهذا المقام ، قال البيهقي :
حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل ، قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن سلمة بن عبدِ يَسُوع ، عن أبيه ، عن جده قال يونس - وكان نصرانيا فأسلم - : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان : " بِاسْم إلَهِ إِبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ ، مِنْ مُحَمَّدٍ الَّنِبيِّ رَسُولِ اللهِ إلَى أسْقف نَجْرانَ وأهْلِ نَجْرانَ سِلْم{[5120]} أَنْتُم ، فإنِّي أحْمَدُ إلَيْكُمْ إلَهَ إبْرَاهِيمَ وإِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ . أَمَّا بَعْدُ ، فإنِّي أَدْعُوكُم إلَى عِبَادَةِ اللهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ ، وأدْعُوكُمْ إلَى وِلايَةِ اللهِ مِنْ وِلايَةِ الْعِبَادِ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةُ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ{[5121]} آذَنْتُكُمْ بِحَرْبٍ والسَّلامُ " .
فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه فَظعَ به ، وذَعَره ذُعرًا شديدًا ، وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له : شُرَحْبيل بن وَداعة - وكان من هَمْدان ولم يكن أحد يُدْعَى إذا نزلت مُعْضلة قَبْلَه ، لا الأيهم ولا السِّيد ولا العاقب - فدفع الأسْقُفُ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شُرَحْبيل ، فقرأه ، فقال الأسقف : يا أبا مريمَ ، ما رأيك{[5122]} ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة ، فما يُؤْمنُ أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، ولو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي ، وجَهِدتُ لك ، فقال له الأسقف : تَنَحَّ فاجلس . فَتَنَحَّى شرحبيل فجلس ناحية ، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران ، يقال له : عبد الله بن شرحبيل ، وهو من ذي أصبح من حمْير ، فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل ، فقال له الأسقف : فاجلس ، فتَنَحى فجلس ناحية . وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران ، يقال له : جبار بن فيض ، من بني الحارث بن كعب ، أحد بني الحماس ، فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شُرَحبيل وعبد الله ، فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحية .
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعًا ، أمر الأسقف بالناقوس فضُرب به ، ورُفعت النيران والمسوح في الصوامع ، وكذلك كانوا يفعلون إذا فَزعوا بالنهار ، وإذا كان فزعُهم ليلا ضربوا بالناقوس ، ورفعت النيران في الصوامع ، فاجتمعوا{[5123]} حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله - وطولُ الوادي مَسِيرة يوم للراكب السريع ، وفيه ثلاث وسبعون قرية ، وعشرون ومائة ألف مقاتل . فقرأ عليهم كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألهم عن الرأي فيه ، فاجتمع رأيُ أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن ودَاعة الهمداني ، وعبد الله ابن شُرَحبيل الأصبحي ، وجبار بن فيض الحارثي ، فيأتونهم{[5124]} بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ، ولبسوا حُلَلا لهم يجرونها من حبرة ، وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه ، فلم يرد عليهم{[5125]} وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب . فانطلقوا يتبعون عثمان ابن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، وكانا مَعْرفة لهم ، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس ، فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن ، إن نبيكم كتب إلينا بكتاب ، فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما ، أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب - وهو في القوم - : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال عَليّ لعثمان ولعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حُللهم هذه وخواتيمهم ، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه . ففعلوا فسلموا ، فرد سلامهم ، ثم قال : " والَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لَقَدْ أَتَوْنِي الْمرَّةَ الأولَى ، وإنَّ إبْلِيسَ لَمَعَهُم " ثم ساءلهم وساءلوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا : ما تقول في عيسى ، فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ، يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه{[5126]} ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا عِنْدِي فِيهِ شيء يَوْمِي هَذَا ، فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِرَكُمْ بما{[5127]} يقول لي رَبِّي في عيسَى " . فأصبح الغد وقد أنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى ]{[5128]} الْكَاذِبِينَ } فأبوا أن يقروا بذلك ، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر ، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خَمِيل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل لصاحبيه : قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي{[5129]} وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا ، فكنا أول العرب طعن في عينيه{[5130]} ورد عليه أمره ، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة ، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا ، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعَنَّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شَعْر ولا ظُفُر إلا هلك . فقال{[5131]} له صاحباه : يا أبا مريم ، فما الرأي ؟ فقال : أرى{[5132]} أن أحكمه ، فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا . فقالا له : أنت وذاك . قال : فلقي{[5133]} شرحبيلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك . فقال : " وما هو ؟ " فقال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَعَلَّ وَرَاءكَ أحَدًا يَثْرِبُ عَلْيكَ ؟ " فقال شرحبيل : سل صاحبي . فسألهما فقالا ما يرد الوادي ولا يَصْدرُ إلا عن رأي شرحبيل : فَرَجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم ، حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب : " بِسْم الله الرحمنِ الرَّحِيم ، هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِي رَسُولُ اللهِ لِنَجْرَانَ - إنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ - فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَكُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَودَاءَ وَرَقِيقٍ فَاضِلٍ {[5134]} عَلَيْهِمْ ، وتَرْك ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ ، عَلَى أَلْفَي حُلَّةٍ ، فِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ ، وفِي كُلِّ صَفَرٍ ألْفُ حُلَّةٍ " وذكر تمام الشروط وبقية السياق{[5135]} .
والغرض أن وفودهم{[5136]} كان في سنة تسع ؛ لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح ، وهي قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون ]َ{[5137]} } [ التوبة : 29 ] .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن داود المكي ، حدثنا بشر بن مهران ، أخبرنا محمد بن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه{[5138]} الغداة . قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فَأَبَيَا أن يجيئا{[5139]} وأقَرَّا بالخراج ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي بَعَثَني بالْحَقِّ لَوْ قَالا لا لأمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي{[5140]} نارًا " قال جابر : فيهم نزلت { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } قال جابر : { وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب { وَأَبْنَاءَنَا } {[5141]} الحسن والحسين { وَنِسَاءَنَا } فاطمة .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن عيسى ، عن أحمد بن محمد الأزهري{[5142]} عن علي بن حُجْر ، عن علي بن مُسْهِر ، عن داود بن أبي هند ، به بمعناه . ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[5143]} .
هكذا قال : وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن المغيرة {[5144]} عن الشعبي مرسلا وهذا أصح{[5145]} وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .
وقوله تعالى : { فمن حاجك فيه } معناه جادلك ونازعك الحجة ، والضمير في قوله : { فيه } يحتمل أن يعود على { عيسى } ، ويحتمل أن يعود على { الحق } ، والعلم الذي أشير إليه بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة من أمر عيسى وقوله تعالى : { فقل تعالوا } الآية ، استدعاء المباهلة و { تعالوا } تفاعلوا من العلو ، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك و{ نبتهل } معناه نلتعن ، ويقال عليهم بهلة الله معنى اللعنة{[3212]} ، والابتهال : الجد في الدعاء بالبهلة .
وروي في قصص هذه الآية : أنها نزلت بسبب محاجة نصارى نجران في عيسى عليه السلام وقولهم هو الله ، وكانوا يكثرون الجدال وقد روى عبد الله بن الحارث بن جزء السوائي{[3213]} عن النبي عليه السلام أنه قال : { ليت بيني وبين أهل نجران حجاباً فلا أراهم ولا يروني }{[3214]} لشدة ما كانوا يمارون فلما قرأ النبي عليه السلام الآية دعاهم إلى ذلك ، فروى الشعبي وغيره ، أنهم وعدوه بالغد أن يلاعنوه فانطلقوا إلى السيد والعاقب فتابعاهم على أن يلاعنوا فانطلقوا إلى رجل آخر منهم عاقل فذكروا له ما صنعوا فذمهم وقال لهم : إن كان نبياً ثم دعا عليكم هلكتم ، وإن كان ملكاً فظهر لم يبق عليكم ، قالوا فكيف نصنع وقد واعدناه ؟ قال : إذا غدوتم فدعاكم إلى ذلك فاستعيذوا بالله من ذلك فعسى أن يعفيكم فلما كان الغد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً حسيناً آخذاً بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، فدعاهم إلى الميعاد ، فقالوا : نعوذ بالله فأعادوا التعوذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
«فإن أبيتم فأسلموا فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء » ، قالوا : لا طاقة لنا بحرب العرب ولكنا نؤدي الجزية قال : فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة ألفاً في رجب وألفاً في صفر وطلبوا منه رجلاً آميناً يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح{[3215]} وقال عليه السلام : «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة »{[3216]} ، وروى محمد بن جعفر بن الزبير وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم قالوا : دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نفعل فذهبوا إلى العاقب وهو ذو رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : يا معشر النصارى ، والله لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لاعن قوم قط نبياً فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال إن فعلتم ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه ، فأتوا النبي عليه السلام ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال وقالوا له : ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى ، وروى السدي وغيره أن النبي عليه السلام جاء هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين ودعاهم فأبوا وجزعوا وقال لهم أحبارهم : إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً فصالحوا النبي عليه السلام على ثمانين ألف درهم في العام فما عجزت عنه الدراهم ففي العروض ، الحلة بأربعين وعلى أن عليهم ثلاثاً وثلاثين درعاً وثلاثة وثلاثين بعيراً وأربعاً وثلاثين فرساً عارية كل سنة ورسول الله ضامن ذلك حتى يؤديها إليهم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لو لاعنوا لاستؤصلوا من جديد الأرض }{[3217]} ، وقال أيضاً { لو فعلوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً }{[3218]} ، وروى علباء بن احمر اليشكري{[3219]} قال : لما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود{[3220]} ليلاعنهم ، فقال شاب من اليهود : ويحكم ، أليس عهدكم بالأمس بإخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ فلا تلاعنوا فانتهوا ، وفي هذه القصة اختلافات للرواة وعبارات تجري كلها في معنى ما ذكرناه لكنا قصدنا الإيجاز وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة محمد شاهد عظيم على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم ، وما روي من ذلك خير مما روى الشعبي من تقسيم ذلك الرجل العاقل فيهم أمر محمد بأنه إما نبي وإما ملك لأن هذا نظر دنياوي{[3221]} وما روى الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا سائر الكفرة وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم ، ودعاء النساء والأنبياء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي عليه السلام جاءهم بما{[3222]} يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط .
تفريع على قوله : { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } لما فيه من إيماء إلى أنّ وفد نجران ممترون في هذا الذي بَيّن الله لهم في هذه الآيات : أي فإن استمرّوا على محاجتهم إياك مكابرةً في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة . ذلك أنّ تصْميمَهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محْضة بعد ما جاءك من العلم وبينتَ لهم ، فلم يبق أوضحُ مما حاجَجْتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة ، وقلة يقين ، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا .
و { تعالوا } اسم فعل لطلب القدوم ، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قَصد العلوّ ، فكأنّهم أرادوا به في الأصل أمراً بالصعود إلى مكان عالٍ تشريفاً للمدعُو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور ، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني :
أيَا جَارَتَا مَا أنْصَفَ الدهرُ بيننا *** تَعَالِي أقَاسِمْكِ الهُمُومَ تَعَالِي
ومعنى { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره ، والمقصود هو قوله : { ثم نبتهل } إلى آخره .
والابتهال مشتق من البَهْل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقاً لأنّ الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول .
ومعنى { فنجعل لعنت الله } فنَدْعُ بإيقاع اللعنة على الكاذبين . وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاءٌ لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يَكفُوا . روى المفسرون وأهل السيرة أنّ وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب : نلاعنه فوالله لئن كان نبيئاً فلاعننا لا نفلح أبداً ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي .
وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم .
وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء : لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا ، عُلم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب { أرَهْطِيَ أعَزُّ علَيكم من الله } وأنه يخشى سوء العيش ، وفقدان الأهل ، ولا يخشى عذاب الآخرة .
والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارَك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين ، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللاّئي كُنَّ معهم .
والنساء : الأزواج لا محالة ، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا وَرَد غير مضاف ، قال تعالى : { يا نساء النبيء لستُنّ كأحدٍ من النساء } [ الأحزاب : 32 ] وقال : { ونساء المؤمنين } وقال النابغة :
حِذارَا على أنْ لاَ تُنَالَ مَقَادَتِي *** ولاَ نِسْوَتِي حَتى يَمُتْن حَرائرا
والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم ، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم ، ويحتمل أنه يشمل الصبيان ، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة .
والابتهال افتعال من البهل ، وهو اللعن ، يقال : بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بَهلة وبُهلة بالضم والفتح ثم استعمل الابتهال مجازاً مشهوراً في مطلق الدعاء قال الأعشى :
لا تقعدنَّ وقد أكَّلّتَها حطباً . . . تعوذ من شرّها يوماً وتبتهل
وهو المراد هنا بدليل أنّه فرّع عليه قوله : { فنجعل لعنت الله على الكاذبين } .
وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلاّ واثق بأنه على الحق . وهذه المباهلة لم تقع لأنّ نصارى نجران لم يستجيبوا إليها . وقد روى أبو نعيم في الدلائل أنّ النبي هيأ علياً وفاطمةً وحَسَناً وحُسَيناً ليصحبهم معه للمباهلة . ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين .