المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

15- والله سبحانه يجازيهم على استهزائهم ، ويكتب عليهم الهوان الموجب للسخرية والاحتقار ، فيعاملهم بذلك معاملة المستهزئ ، ويمهلهم في ظلمهم الفاحش الذي يجعلهم في عمى عن الحق ، ثم يأخذهم بعذابه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

قوله تعالى : { الله يستهزئ بهم } . أي جزاء استهزائهم سمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته كما قال الله تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) قال ابن عباس : هو أن يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم ، وردوا إلى النار . وقيل هو أن يضرب للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبين المؤمنين كما قال الله تعالى : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) وقال الله تعالى : ( فضرب بينهم بسور له باب ) الآية وقال الحسن معناه : الله يظهر المؤمنين على نفاقهم .

قوله تعالى : { ويمدهم } . يتركهم ويمهلهم . والمد والإمداد واحد ، وأصله الزيادة إلا أن المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير ، قال الله تعالى في المد ( ونمد له من العذاب مداً ) وقال في الإمداد ( وأمددناكم بأموال وبنين ) ( وأمددناهم بفاكهة ) .

قوله تعالى : { في طغيانهم } . أي في ضلالتهم ، وأصله مجاوزة الحد . ومنه ( طغى الماء ) .

قوله تعالى : { يعمهون } . أي يترددون في الضلالة متحيرين .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

قال تعالى : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذا جزاء لهم ، على استهزائهم بعباده ، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة ، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين ، لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم ، ومن استهزائه بهم يوم القيامة ، أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا ، فإذا مشي المؤمنون بنورهم ، طفئ نور المنافقين ، وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين ، فما أعظم اليأس بعد الطمع ، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } الآية .

قوله : { وَيَمُدُّهُمْ } أي : يزيدهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي : فجورهم وكفرهم ، { يَعْمَهُونَ } أي : حائرون مترددون ، وهذا من استهزائه تعالى بهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

ثم بين - سبحانه - موقفه منهم فقال : { الله يَسْتَهْزِىءُ } .

حمل بعض العلماء استهزاء الله بهم على الحقيقة وإن لم يكن من أسمائه المستهزئ ، لأن معناه يحتقرهم على وجه شأنه أن يتعجب منه ، وهذا المعنى غير مستحيل على الله ، فيصح إسناده إليه - تعالى - على وجه الحقيقة .

ويرى جمهور العلماء أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس كأن يظهر المستهزئ استحسان الشيء وهو في الواقع غير حسن ، أو يقر المستهزأ به على أمر غير صواب ، وهذا المعنى لا يليق بجلال الله ، فيجب حمل الاستهزاء المسند إليه تعالى على معنى يليق بجلاله ، فيحمل على ما يلزم على الاستهزاء من الانتقام والعقوبة والجزاء المقابل لاستهزائهم ، وسمى ذلك استهزاء على سبيل المشاكلة كما في قوله تعالى :

{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وهذا دليل على غيرة الله على عباده المؤمنين ، وانتقامه من كل من يستهزئ بهم أو يؤذيهم

. وعبر بالمضارع في قوله { يَسْتَهْزِىءُ } للإِيذان بأن احتقاره لهم ، أو مجازاتهم على استهزائهم يتجدد ويقع المرة بعد الأخرى ؛ ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان غضبه عليهم فقال : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .

المد : الإمهال والمطاولة والزيادة ، من المد بمعنى الإِمهال ، يقال : مده في غيه - من باب رد - أمهله وطول له ، ويقال : مد الجيش وأمده إذا ألحق به ما يقويه ويكثره ويزيده ، وقيل : أكثر ما يستعمل المد في المكروه ، والإِمداد في المحبوب ، والطغيان : مجاوزة الحد ، ومنه طغا الماء ، أي : ارتفع .

ويعمهون : يعمون عن الرشد ، أو يتحيرون ويترددون بين الإِظهار والإِخفاء ، أو بين البقاء على الكفر وتركه إلى الإِيمان . يقال : عمه - كفرح ومنع - عمها ، إذا تردد وتحير ، فهو عمه وعامه ، وهم عمهون وعمه كركع والمعنى : أن الله تعالى يجازي هؤلاء المنافقين على استهزائهم وخداعهم ، ويمكنهم من المعاصي أو يملري لهم ليزدادوا إثماً . حال كونهم يعمون عن الرشد ، فلا يبصرون الحق حقاً ولا الباطل باطلا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

1

وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم ، حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي :

( الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) . .

وما أبأس من يستهزيء به جبار السماوات والأرض وما أشقاه ! ! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب . وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب .

وهو يقرأ : ( الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) . . فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته ، واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته ، كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ ، غافلة عن المقبض المكين . . وهذا هو الاستهزاء الرعيب ، لا كاستهزائهم الهزيل الصغير .

وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها . حقيقة تولي الله - سبحانه - للمعركة التي يراد بها المؤمنون . وما وراء هذا التولي من طمأنينة كاملة لأولياء الله ، ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين ، المتركين في عماهم يخبطون ، المخدوعين بمد الله لهم في طغيانهم ، وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم ، والمصير الرعيب ينتظرهم هنالك ، وهم غافلون يعمهون !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

وقال{[1283]} ابن جرير : أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة ، في قوله : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } الآية [ الحديد : 13 ] ، وقوله تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] . قال : فهذا وما أشبهه ، من استهزاء الله ، تعالى ذكره ، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين ، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ، ومتأول هذا التأويل .

قال : وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه ، والكفر به .

قال : وقال آخرون : هذا وأمثاله على سبيل الجواب ، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به : أنا الذي خدعتك . ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه ، قالوا : وكذلك قوله : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ آل عمران : 54 ] و { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } على الجواب ، والله

لا يكون منه المكر ولا الهزء ، والمعنى : أن المكر والهُزْء حَاق بهم .

وقال آخرون : قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } وقوله { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ، وقوله { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] و { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] وما أشبه ذلك ، إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم{[1284]} جَزَاءَ الاستهزاء ، ويعاقبهم{[1285]} عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] وقوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] ، فالأول ظلم ، والثاني عدل ، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما .

قال : وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك .

قال : وقال آخرون : إن معنى ذلك : أنّ الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم قالوا : إنا معكم على دينكم ، في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما يظهر لهم - من قولنا لهم : صدقنا بمحمد ، عليه السلام ، وما جاء به مستهزئون ؛ فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم ، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا ، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة ، يعني من العذاب والنكال{[1286]} .

ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره ؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله ، عز وجل ، بالإجماع ، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك .

قال : وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان ، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } قال : يسخر بهم للنقمة منهم .

وقوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال السدي : عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن أناس{[1287]} من الصحابة [ قالوا ]{[1288]} يَمدهم : يملي لهم .

وقال مجاهد : يزيدهم .

قال ابن جرير : والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم ، كما قال : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] .

والطغيان : هو المجاوزة في الشيء . كما قال : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } [ الحاقة : 11 ] ، وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في كفرهم يترددون .

وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة ، وبه يقول أبو العالية ، وقتادة ، والرّبيع بن أنس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد : في كفرهم وضلالتهم .

قال ابن جرير : والعَمَه : الضلال ، يقال : عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا : إذا ضل .

قال : وقوله : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في ضلالهم{[1289]} وكفرهم الذي غمرهم دَنَسُه ، وعَلاهم رجْسه ، يترددون [ حيارى ]{[1290]} ضُلالا{[1291]} لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا ؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رُشْدًا ، ولا يهتدون سبيلا .

[ وقال بعضهم : العمى في العين ، والعمه في القلب ، وقد يستعمل العمى في القلب - أيضا - : قال الله تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ويقال : عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه ، وجمعه عمّه ، وذهبت إبله العمهاء : إذا لم يدر أين ذهبت{[1292]} .

/خ20


[1283]:في طـ، ب: "وقال".
[1284]:في طـ، أ، و: "مجازيهم".
[1285]:في طـ، ب، أ، و: "ومعاقبهم".
[1286]:تفسير الطبري (1/303).
[1287]:في جـ، ط، ب: "ناس".
[1288]:زيادة من ب، و.
[1289]:في ب، أ، و: "ضلالتهم".
[1290]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1291]:في جـ: "ضلال".
[1292]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

{ الله يستهزئ بهم } يجازيهم على استهزائهم ، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة ، إما لمقابلة اللفظ باللفظ ، أو لكونه مماثلا له في القدر ، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم أو ينزل بهم ، الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء ، أو الغرض منه ، أو يعاملهم معاملة المستهزئ : أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم ، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان ، وأما في الآخرة : فبأن يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه ، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب ، وذلك قوله تعالى : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى تولى مجازاتهم ، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم ، وأن استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل الله تعالى بهم ولعله لم يقل : الله مستهزئ بهم ليطابق قولهم ، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا ويتجدد حينا بعد حين ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال تعالى : { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } . { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه ، ومنه مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد ، لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له . ويدل عليه قراءة ابن كثير { ويمدهم } . والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا : لما منعهم الله تعالى ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، وسدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة ، تزايد قلوب المؤمنين انشراحا ونورا ، وأمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغيانا ، أسند ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازا ، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة ، ومصداق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي وقال { وإخوانهم يمدونهم في الغي } . أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم ويمد في أعمارهم كي يتنبهوا ويطيعوا ، فما زادوا إلا طغيانا وعمها ، فحذفت اللام وعدي الفعل بنفسه كما في قوله تعالى : { واختار موسى قومه } . أو التقدير يمدهم استصلاحا ، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم . والطغيان بالضم والكسر كلقيان ، والطغيان : تجاوز الحد في العتو : والغلو في الكفر ، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه قال تعالى : { إنا لما طغى الماء حملناكم } . والعمه في البصيرة كالعمى في البصر ، وهو : التحير في الأمر يقال رجل عامه وعمه ، وأرض عمهاء لا منار بها ، قال

أعمى الهدى بالجاهلين العمه *** . . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 15 )

اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء فقال جمهور العلماء : «هي تسمية العقوبة باسم الذنب »( {[256]} ) . والعرب تستعمل ذلك كثيراً ، ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ] .

ألا لا يجهلنْ أحد علينا . . . فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال قوم : إن الله تعالى يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البشر هزو( {[257]} ) حسبما يروى أن النار تجمدت كما تجمد الإهالة( {[258]} ) فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم ، وما يروى أن أبواب النار تفتح لهم فيذهبون إلى الخروج( {[259]} ) ، نحا هذا المنحى( {[260]} ) ابن عباس والحسن ، وقال قوم : استهزاؤه بهم هو استدارجهم من حيث لا يعلمون( {[261]} ) ، وذلك أنهم بدرور نعم الله الدنيوية عليهم يظنون أنه راض عنهم وهو تعالى قد حتم عذابهم ، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء .

{ ويمدهم } معناه يزيدهم في الطغيان . وقال مجاهد : «معناه يملي لهم » ، قال يونس بن حبيب : «يقال مد في الشر وأمد في الخير »( {[262]} ) وقال غيره : «مد الشيء ومده ما كان مثله ومن جنسه( {[263]} ) ، وأمدّه ما كان مغايراً له ، تقول : مدّ النهر ومدّه نهر آخر ، ويقال أمدّه » .

قال اللحياني : «يقال لكل شيء دخل فيه مثله فكثره مده يمده مدّاً ، وفي التنزيل : { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر }( {[264]} ) [ لقمان : 27 ] . ومادة الشيء ما يمده دخلت فيه الهاء للمبالغة » .

قال ابن قتيبة وغيره : «مَدَدْت الدواة وأمَددْتُها بمعنى » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يشبه أن يكون «مددتها » جعلت إلى مدادها آخر ، و «أمددتها » جعلتها ذات مداد ، مثل «قبر ، وأقبر ، وحصر ، وأحصر » ، ومددنا القوم صرنا لهم أنصاراً ، وأمددناهم بغيرنا . وحكى اللحياني أيضاً أمدّ الأمير جنده بالخيل ، وفي التنزيل : { وأمددناكم بأموال وبنين }( {[265]} ) [ الإسراء : 6 ] .

قال بعض اللغويين : { ويمدهم في طغيانهم } يمهلهم ويلجهم( {[266]} ) .

قال القاضي أبو محمد : فتحتمل اللفظة أن تكون من المد الذي هو المطل والتطويل( {[267]} ) ، كما فسر في : { عمد ممددة } [ الهمزة : 9 ] . ويحتمل أن تكون من معنى الزيادة في نفس الطغيان ، والطغيان الغلو وتعدي الحد كما يقال : «طغا الماء وطغت النار » . وروي عن الكسائي إمالة طغيانهم .

و { يعمهون } يترددون ، حيرة ، والعمه الحيرة من جهة النظر ، والعامه الذي كأنه لا يبصر من التحير في ظلام أو فلاة أو هم .


[256]:- أي يجازيهم جزاء الاستهزاء.
[257]:- أي يوم القيامة.
[258]:- الإهالة: ما أذيب من الشحم، أو هي الدسم الجامد.
[259]:- أي فتسد الأبواب في وجوههم، وقد روي هذا عن ابن عباس من طريق أيب صالح.
[260]:- وقوله تعالى: [قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا] يقوي هذا المنحى كما نص عليه صاحب اختصار الطبري رحمه الله.
[261]:- يدل لهذا التأويل حديث: (إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج).
[262]:- الأقوال ثلاثة: قول يونس بن حبيب: مد في الشر، وأمد في الخير، والثاني قول غيره: مد فيما كانت الزيادة من مثل جنسه، وأمد فيما كانت الزيادة من غير جنسه، ومثال هذين القولين قوله تعالى: [ويمدهم في طغيانهم يعمهون] فإنه في الشر وفي مثل جنسه، وقوله تعالى: [يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة] فإنه في الخير، ومن غير جنسه، والثالث قول ابن قتيبة: إنهما بمعنى واحد، وقد تكون (مد) لازمة ومتعدية.
[263]:- (ما كان...) في محل رفع فاعل للفعل (مد) الثانية. وهذا مفهوم من قوله في المثال: (مد النهر –ومده نهر آخر) فـ(نهر) فاعل مد في (مده) وهو مثل النهر الذي وقع عليه المد، ومن جنسه. فأما إن كان الفاعل من غير جنسه قلت: (أمده) بالهمزة. وهذا واضح إيضا من كلام اللحياني بعده. والآية الكريمة بعد ذلك (والبحر يمده) خير مثال.
[264]:- من الآية 28 من سورة لقمان.
[265]:- من الآية 6 من سورة الإسراء.
[266]:- أي يزيدهم في اللجاج والعناد.
[267]:- وفي بعض النسخ: المهل والتطويل.