قوله تعالى : { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً } قرأ ابن عامر وأبو بكر ( عظماً ) ، فكسونا العظم بسكون الظاء على التوحيد فيهما ، وقرأ الآخرون بالجمع لأن الإنسان ذو عظام كثيرة . وقيل : بين كل خلقتين أربعون يوماً { فكسونا العظام لحماً } أي ألبسنا { ثم أنشأناه خلقاً آخر } اختلف المفسرون فيه ، فقال ابن عباس : ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو العالية : هو نفخ الروح فيه . وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر . وروى ابن جريج عن مجاهد : أنه استواء الشباب . وعن الحسن قال : ذكراً أو أنثى . وروى العوفي عن ابن عباس : أن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتضاع ، إلى القعود إلى القيام ، إلى المشي إلى الفطام ، إلى أن يأكل ويشرب ، إلى أن يبلغ الحلم ، ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها . { فتبارك الله } أي : استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال . { أحسن الخالقين } المصورين والمقدرين . والخلق في اللغة : التقدير . وقال مجاهد : يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين ، يقال : رجل خالق أي : صانع . وقال ابن جريج : إنما جمع الخالقين لأن عيسى كان يخلق كما قال : { إني أخلق لكم من الطين } فأخبر الله عن نفسه بأنه أحسن الخالقين .
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ } التي قد استقرت قبل { عَلَقَةً } أي : دما أحمر ، بعد مضي أربعين يوما من النطفة ، { فخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ } بعد أربعين يوما { مُضْغَةً } أي : قطعة لحم صغيرة ، بقدر ما يمضغ من صغرها .
{ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ } اللينة { عِظَامًا } صلبة ، قد تخللت اللحم ، بحسب حاجة البدن إليها ، { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } أي : جعلنا اللحم ، كسوة للعظام ، كما جعلنا العظام ، عمادا للحم ، وذلك في الأربعين الثالثة ، { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } نفخ فيه الروح ، فانتقل من كونه جمادا ، إلى أن صار حيوانا ، { فَتَبَارَكَ اللَّهُ } أي : تعالى وتعاظم وكثر خيره { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } { الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } فخلقه كله حسن ، والإنسان من أحسن مخلوقاته ، بل هو أحسنها على الإطلاق ، كما قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها .
ثم بين - سبحانه - أطواراً أخرى لخلق الإنسان تدل على كمال قدرته - - تعالى - فقال : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } أى : ثم صيرنا النطفة البيضاء ، علقة حمراء إذ العلقة عبارة عن الدم الجامد .
{ فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } أى : جعلنا بقدرتنا هذه العلقة قطعة من اللحم ، تشبه فى صغرها قطعة اللحم التى يمضغها الإنسان فى فمه .
{ فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً } أى : حولنا هذه المضغة من اللحم التى لم تظهر معالمها بعد ، إلى عظم صغير دقيق ، على حب ما اقتضته حكمتنا فى خلقنا .
{ فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } أى : فكسونا هذه المضغة التى تحولت بقدرتنا إلى عظام دقيقة باللحم ، بحيث صار هذا اللحم ساتراً للعظام ومحيطاً بها .
قال بعض العلماء : " وهنا يقف الإنسان مدهوشاً ، أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة فى تكوين الجنين ، لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً ، بعد تقدم علم الأجنة التشريحى " .
وذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم وقد ثبت أن خلايا العظام هى التى تكون أولاً من الجنين ، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا الهيكل العظمى للجنين . وهى التى يسجلها النص القرآنى فى قوله - تعالى - { فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } فسبحانه العليم الخبير .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } بيان لما انتهت إليه أطوار خلق الإنسان .
أى : ثم صيرنا هذا الإنسان بشراً سويًّا ، بعد أن كان نطفة ، فعلقة ، فمضغة ، فعظاماً ، فلحماً يكسو هذه العظام ، وهذا كله يدل على كمال قدرة الله - تعالى - وعلى أنه حق ، إذ قدرته - سبحانه - لا يعجزها شىء .
قال صاحب الكشاف : " قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } ، أى : خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها ، حيث جعله حيواناً بعد أن كان جماداً ، وناطقاً وكان أبكم ، وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره - بل كل عضو من أعضائه بل كل جزء من أجزائه - عجائب فطرته ، وغرائب حكمته ، لا تدرك بوصف الواصف ، ولا تبلغ بشرح الشارح . . . " .
{ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } أى : فكثر خيره - سبحانه - ودام إحسانه وتقدس شأنه ، فهو - عز وجل - أحسن الخالقين على الإطلاق ، فقد أتقن كل شىء خلقه ، وأحكم كل شىء صنعه .
ولفظ " تبارك " فعل ماض لا ينصرف ، والأكثر إسناده إلى غير مؤنث .
وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ، أو بمعنى الثبات والدوام وكل شىء دام وثبت فقد برك .
وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير . . حتى تجيء مرحلة العظام . . ( فخلقنا المضغة عظاما )فمرحلة كسوة العظام باللحم : ( فكسونا العظام لحما ) . . وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي . ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم . وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين . ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام ، وتمام الهيكل العظمي للجنين . وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني : ( فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما ) . . فسبحان العليم الخبير !
( ثم أنشأناه خلقا آخر ) . . هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة . فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية . ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر ، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة ، المستعدة للارتقاء . ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان ، مجردا من خصائص الارتقاء والكمال ، التي يمتاز بها جنين الإنسان .
إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد . وهو ينشأ ( خلقا آخر )في آخر أطواره الجنينية ؛ بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص . ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية ، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا - كما تقول النظريات المادية - فهما نوعان مختلفان . اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانا . واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني ( خلقا آخر ) . إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ؛ ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه . ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيأ له من الكمال . بواسطة خصائص مميزة ، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلى من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان .
( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . . وليس هناك من يخلق سوى الله . فأحسن هنا ليست للتفضيل ، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله .
( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . . الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار ، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف ، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني ، على أدق ما يكون النظام !
وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه " معجزات العلم " حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه ، دون تدخل مباشر من الإنسان . . فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته ، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها ، وتحولات كاملة في ماهيتها ? غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون ، مغلقي القلوب ، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب . . وإن مجرد التفكر في أن الإنسان - هذا الكائن المعقد - كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة ؛ وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقا آخر . فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى . وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة . هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة . . إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب . . .
أي : ثم صَيَّرنا النطفة ، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل - وهو ظهره - وترائب المرأة - وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة - فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة . قال عكرمة : وهي دم .
{ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } : وهي قطعة كالبَضعة من اللحم ، لا شكل فيها ولا تخطيط ، { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } يعني : شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها .
وقرأ آخرون : { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا{[20490]} } .
قال ابن عباس : وهو عظم الصلب .
وفي الصحيح ، من حديث أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذَّنَب ، منه خلق ومنه{[20491]} يركب " {[20492]} .
{ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } أي : وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه ، { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } أي : ثم نفخنا فيه الروح ، فتحرك وصار { خَلْقًا آخَرَ } ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا جعفر بن مُسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا النضر - يعني : ابن كثير ، مولى بني هاشم - حدثنا زيد بن علي ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : إذا أتمت النطفة أربعة أشهر ، بُعِث إليها مَلك فنفخ فيها الروح في
الظلمات الثلاث ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني : نفخنا فيه الروح{[20493]} .
ورُوي عن أبي سعيد الخدري أنه نَفْخُ الروح .
قال ابن عباس : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني به : الروح{[20494]} . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والحسن ، وأبو العالية ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وابنُ زيد ، واختاره ابنُ جرير{[20495]} .
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني : ننقله من حال إلى حال ، إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرًا ، ثم احتلم ، ثم صار شابًّا ، ثم كهلا ثم شيخًا ، ثم هرما .
وعن قتادة ، والضحاك نحو ذلك . ولا منافاة ، فإنه من ابتداء{[20496]} نفخ الروح [ فيه ]{[20497]} شَرَع في هذه التنقلات والأحوال . والله أعلم .
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق : " إن أحدكم ليُجمع خَلقُه في بطن أمه أربعين يومًا ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وهل هو شقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن الرجل{[20498]} ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها " .
أخرجاه من حديث سليمانَ بن مِهْرَان الأعمش{[20499]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن خَيْثَمَة قال : قال عبد الله{[20500]} - يعني : ابن مسعود - إن النطفة إذا وقعت في الرحم ، طارت في كل شعر وظفر ، فتمكث أربعين يوما ، ثم تتحدّر{[20501]} في الرحم فتكون علقة .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا حسين بن الحسن ، حدثنا أبو كُدَيْنة ، عن عطاء بن السائب ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله قال : مَرَّ يهوديّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه ، فقالت قريش : يا يهودي ، إن هذا يَزعمُ أنه نبي . فقال : لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي . قال : فجاءه حتى جلس ، فقال : يا محمد ، مِمَّ يخلق الإنسان ؟ فقال : " يا يهودي ، من كلٍّ
يُخْلَقُ ، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة ، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعَصَب ، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم " فقام اليهودي فقال : هكذا كان يقول من قبلك . {[20502]} وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو ، عن أبي الطُّفَيْل ، حُذَيْفَة بن أُسَيْد الغفاري قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يدخل المَلك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة ، فيقول : يا رب ، ماذا ؟ أشقي أم سعيد ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ، فيكتبان{[20503]} . فيقولان : ماذا ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله عز وجل ، فيكتبان ويُكْتَبُ عمله ، وأثره ، ومصيبته ، ورزقه ، ثم تطوى الصحيفة ، فلا يُزاد على ما فيها ولا ينقص " .
وقد رواه مسلم في صحيحه ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو - وهو ابن دينار - به{[20504]} نحوه . ومن طُرَق أخرَى ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة{[20505]} الغفاري بنحوه ، والله أعلم{[20506]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله وكّل بالرحم مَلكًا فيقول : أي رب ، نطفة . أيْ رب ، علقة{[20507]} أي رب ، مضغة . فإذا أراد الله خلقها قال : يا رب ، ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟ " قال : " فذلك يكتب في بطن أمه " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به{[20508]} .
وقوله : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } يعني : حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال ، وشكل إلى شكل ، حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السَّوِيّ الكامل الخلق ، قال : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا علي بن زيد ، عن أنس ، قال : قال عمر - يعني : ابن الخطاب رضي الله عنه - : وافقت ربي ووافقني في أربع : نزلت هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } الآية ، قلت{[20509]} أنا : فتبارك الله أحسن الخالقين . فنزلت : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شَيْبَان ، عن جابر الجُعْفِي ، عن عامر الشعبي ، عن زيد بن ثابت الأنصاري قال : أملى عليَّ رسولُ الله هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } إلى قوله : { خَلْقًا آخَرَ } ، فقال معاذ : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله ؟ قال : " بها ختمت { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } {[20510]} .
جابر بن يزيد الجُعْفِي ضعيف جدًّا ، وفي خبره هذا نَكَارة شَديدة ، وذلك أن هذه السورة مكية ، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة ، وكذلك{[20511]} إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضًا ، فالله أعلم{[20512]} .
{ ثم خلقنا النطفة علقة } بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء . { فخلقنا العلقة مضغة } فصيرناها قطعة لحم . { فخلقنا المضغة عظاما } بأن صلبناها . { فكسونا العظام لحما } مما بقي من المضغة أو مما أنبتنا عليها مما يصل إليها ، واختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات والجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر على التوحيد فيهما اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ، وقرئ بإفراد أحدهما وجمع الآخر . { ثم أنشأناه خلقا آخر } وهو صورة البدن أو الروح أو القوى بنفخة فيه أو المجموع ، و { ثم } لما بين الخلقين من التفاوت ، واحتج به أبو حنيفة على أن من غصب بيضة أفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر . { فتبارك الله } فتعالى شأنه في قدرته وحكمته . { أحسن الخالقين } المقدرين تقديرا فحذف المميز لدلالة { الخالقين } عليه .
و { العلقة } الدم الغريض ، و { المضغة } بضعة اللحم قدر ما يمضغ ، وقرأ الجمهور { عظاماً } في الموضعين ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «عظماً » بالإفراد في الموضعين ، وقرأ السلمي وقتادة والأعرج والأعمش بالإفراد أولاً وبالجمع في الثاني ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء وإبراهيم بن أَبي بكير بعكس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، «ثم جعلنا المضغة عظاماً وعصباً فكسوناه لحماً » ، واختلف الناس في «الخلق الآخر » ، فقال ابن عباس والشعبي وأَبو العالية والضحاك وابن زيد : هو نفخ الروح فيه ، وقال ابن عباس أيضاً : خروجه إلى الدنيا ، وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره ، وقال مجاهد : كمال شبابه وقال ابن عباس أيضاً : تصرفه في أمور الدنيا .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجوه من النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها { آخر } ، وأول رتبة من كونه { آخر } هي نفخ الروح فيه ، والطرف الآخر من كونه { آخر } تحصيله المعقولات ، و «تبارك » مطاوع بارك فكأنها بمنزلة تعالى وتقدس من معنى البركة ، وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله { آخر } قال { فتبارك الله أَحسن الخالقين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت{[8464]} ، ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه{[8465]} ، ويروى أَن قائل ذلك هو عبد الله بن أَبي سرح وبهذا السبب ارتد ، وقال أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد وفيه نزلت :
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله }{[8466]} [ الأنعام : 93 ] ، الآية وقوله { أحسن الخالقين } معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئاً خلقه ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
ولأنت تفري ما خلقت . . . وبعض القوم يخلق ثم لا يفري{[8467]}
وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس ، فقال ابن جريج : إنما قال { الخالقين } لأَنه تعالى قد أذن لعيسى في أَن يخلق ، واضطرب بعضهم في ذلك{[8468]} ، ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع وإنما هي منفية الاختراع والإيجاد من العدم ، ومن هذه الآية قول ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا الله أعلم ، فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الله خلق السماوات سبعاً ، والأرضين سبعاً ، وخلق ابن آدم من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، فأراها في ليلة سبع وعشرين ، فقال : آعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أَبي شيبة فأراد ابن عباس بقوله خلق ابن آدم من سبع هذه الآية ، وبقوله جعل رزقه في سبع قوله { فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأبّا }{[8469]} [ عبس : 27 ] الآية السبع منها لابن آدم والأب للأنعام والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء هذا قول ، وقيل القضب البقول لأنها تقضب فهي رزق ابن آدم ، وقيل : القضب والأب للأنعام والستة الباقية لابن آدم والسابعة هي الأنعام إذ هي من أعظم رزق ابن آدم .