الآية 14 : وقوله تعالى : { ثم خلقنا النطفة علقة } والنطفة هي المعروفة . والعلقة : الدم{[13301]} والمضغة القطعة من اللحم إلى آخر ما ذكر يخبرهم عن تحويله إياهم وتقليبه من حال إلى حال لوجوه :
أحدها : يخبر عن قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره ، ليعلموا أن من قدر على إنشاء العلقة من النطفة ، ما لو اجتمع الخلائق جميعا على أن يعرفوا سبب خلق هذا مع إحاطة علمهم أن ليس فيها من آثار العلقة شيء ، ما قدروا على ذلك ، وعلى ذلك جميع ما ذكر ( العلقة من النطفة ){[13302]} والمضغة من العلقة ، والعظم من المضغة ، والإنسان من ذلك كله ؛ يخبر{[13303]} أنه قادر بذاته .
فمن قدر على هذا يقدر على إنشائهم من الأصل من لاشيء ، ويقدر على إحيائهم بعد ما صاروا ترابا . والأعجوبة في خلق الإنسان مما ذكر من النطفة والعلقة والمضغة . ليس بدون خلقه إياهم من التراب من الوجه الذي ذكرنا .
والثاني{[13304]} : فيه دلالة علمه الذاتي لأن من قدر على تحويلهم من حال إلى الحال{[13305]} التي ذكر في الظلمات الثلاث دل أنه عالم بذاته ، لا بعلم مستفاد من أحد ، ولا قوة مكتسبة ، ولكنه بالعلم الذاتي والقوة الذاتية ، لأن من علمه يستفاد ، ومن قوته يستفاد ( و يكتسب ، لا يبلغ أحد ){[13306]} ذلك .
والثالث{[13307]} : فيه دلالة تدبيره لخروج الخلق جميعا وتوالدهم من أول أمرهم إلى آخر ما ينتهون على جري واحد وسنن واحد على غير تغيير في التوالد والتناسل الذي جعل فيهم .
وكذلك جميع ما يخرج من الأرض النبات ومن الأشجار الأوراق في كل عام وفي كل سنة ، يخرج على جرية واحدة وسنن واحد ، لا يتغير ، ولا يتفاوت وقت خروجه . بل على تقدير واحد وميزان واحد . دل أنه على تدبير ذات خرج ، لا على الجزاف . وبالله الحول والقوة .
والرابع{[13308]} : في ما ذكر من تحويله إياهم وتقليبهم{[13309]} من حال إلى حال{[13310]} دلالة أنه لم ينشئهم لأنفسهم ، وأن من أنشأ من العالم سواهم إنما أنشأه لهم ، وأنشأ أنفسهم لعاقبة . لأنه لو كان أنشأ إياهم لأنفسهم وللفناء الذي ذكر في قوله { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } ( المؤمنون : 15 ) لكان يتركهم على حال واحدة ، ولا يحولهم من حال إلى حال .
فإذا حولهم وقلبهم من حال إلى حال دل أنه لا للموت الذي ذكر خلقهم خاصة بقوله : { ثم إنكم بعد ذلك/ 354-أ/ لميتون }ولكن لعاقبة تُقصد ، وهي{[13311]} البقاء الدائم ( الذي ) {[13312]} لا فناء فيه ، وهو ( ما ){[13313]} ذكر : { ثم إنكم يوم القيامة تبعثون }( المؤمنون : 16 ) .
وقوله تعالى : { ثم أنشأناه خلقا آخر }أما ( أهل ){[13314]} التأويل فمنهم من قال : نفخ الروح فيه ، وهو قول ابن عباس وغيره . وقال بعضهم : إنبات الشعر ونحوه ، وهو قول قتادة وغيره ( وعن الحسن وغيره ){[13315]} : ذكر أو أنثى .
وجائز أن يكون قوله : { ثم أنشأناه خلقا آخر }غير ما قال هؤلاء ، وهو إظهار الجوارح والأعضاء وتركيبها ما فيه دلالة ( ذلك ){[13316]} لأنه أخبر أنه يقلبه شيئا واحدا مصمتا ، ليس به هذه الجوارح والأعضاء ، إنما يكون فيه آثارها لا أعينها ، فيركب فيه أعين الجوارح والأعضاء حتى يكون إنسانا . فذلك هو إنشاء خلق آخر ، ويكون نفخ الروح ونبت الشعر في تركيب ما ذكرنا ، والله أعلم .
ومن ينكر خلق الشيء لا من شيء ، أو يقول بقدم العالم ، إنما ينكر ذلك لما لم ير في الشاهد صنع شيء لا من شيء ، فيقال له : هل رأيت إنشاء شيء من لا شيء على إتلاف الأصل حتى لا يبقى له أثر . فإذا لم تر هذا في الشاهد ، وقد رأيت في الغائب إنشاء شيء من لا شيء على إتلاف الأول منه ونحو النطفة تصير علقة على إتلاف النطفة فيه ، ونحو العلقة تصير مضغة على إتلاف العلقة فيها إلى آخر ما ذكر . كل ذلك منشأ من آخر . إنما كان بعد إتلاف الأصل . فهلا دل{[13317]} ذلك أن عدم الإنشاء في الشاهد لا من شيء ، لا يدل على عدمه في الغائب أنه حين{[13318]} قدر ( على ){[13319]} هذا يقدر على كله .
وقوله تعالى : { فتبارك الله أحسن الخالقين }من الناس من يستدل على أنه إذا لم يكن سواه خالقا لم يكن لقوله : { أحسن الخالقين } معنى قوله : { وأنت أرحم الراحمين }( الأعراف 151 و . . . ) وقوله{[13320]} : { وأنت أحكم الحاكمين }( هود : 45 )ونحوه . وإنما قال هذا لما يكون سواه رحيما حكيما كريما ، فأخبر أنه{ أحكم الحاكمين }و{ أرحم الراحمين } فعلى ذلك ما قال : { أحسن الخالقين } .
ولكن جائز القول بمثل هذا عند الناس على غير إثبات آخر سواه في ذلك حقيقة . وهو يخرج على وجوه : أحدها : { أحسن الخالقين }مما تنسبون أنتم إليه ، وتجعلونه خالقا عندكم كقوله : { فراغ إلى آلهتهم }( الصافات : 81 ) فإبراهيم {[13321]} لم يُسَمِّ معبودهم الذي{[13322]} عبدوه إلها على جعل الألوهية له . ولكن على ما سموه هم ونسبوا الألوهية إليه . وكذلك قول موسى حين{[13323]} قال : { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا }( طه : 97 ) على ما عندهم ، ليس على تسمية الآلهة له حقيقة .
دل ما ذكرنا على أن التسمية ما ذكر وذكره يجوز ، وإن لم يكن هنالك سواه إلها خالقا . وكذلك قوله : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين }( المدثر : 48 ) ليس على أن لهم شفعاء ، يشفعون لهم ، ولكن لا شفعاء لهم . فعلى ذلك ما ذكرنا .
والثاني : تأويل{ أحسن الخالقين }أي لو جاز أن يكون خالق آخر سواه لكان{[13324]} هو أحسن الخالقين .
ولكن لا يجوز . وهو كقوله : { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء }( الزمر : 4 ) أي لو جاز أن يتخذ ولدا لاصطفى مما ذكر . لكن لا يجوز . وكذلك قوله : { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا }( الأنبياء : 17 ) أي لو جاز أن يكون كذا لكان كذا ليس على أنه يجوز أن يكون . وكذلك قوله : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق }الآية ( المؤمنون : 91 ) أي لو جاز أن يكون معه إله لذهب بما ذكر . لكن لا يجوز . فعلى ذلك قوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين }أي لو جاز أن يكون هنالك خالق غيره لكان هو أحسن الخالقين . ولكن لا يجوز . والله الموفق .
والثالث : ذكر{ أحسن الخالقين }لما أن العرب تسمي كل صانع شيء خالقا . فخرج الذكر لهم على ما يسمونه{[13325]} هم ليس على حقيقة الخلق لمن دونه كقول عيسى حين{[13326]} قال{ إني أخلق لكم من الطين }( آل عمران : 49 ) أو أن ذكر أن العالم ، أصله من أربع طبائع : من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة .
أو يكون كقول{[13327]} بعض الفلاسفة : إن العالم ، أصله من أربع أو من خمس : من الماء والأرض والنار وغيره .
فأخبر أنه ليس كذا ، ولكن هو خالقهم لا من الأشياء التي توهموا هم .
وعلى قول من يقول : إنه ( لو ){[13328]} يكون غيره خالقا لكان الخلق غير دال على الخالق . وقد جعل الله الخلق سببا لمعرفة الخالق . فلو كان غيره خالقا لكان الخلق غير دال على معرفة الخالق لأنه قال : { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم }( الرعد : 16 ) .
أخبر أنه لو كان سواه في ذلك لتشابه الخلق عليهم ، فإذا تشابه لم يكن سببا لمعرفة ما أخبر في إثبات عدد الآلهة كقوله : { وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق }( المؤمنون : 91 ) فإذن بطل هذا ، ولم يجز عدد الآلهة وإثبات الألوهية لغيره . فعلى ذلك في الخلق على الوجوه ( التي ذكرناها ){[13329]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.