قوله : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } وما بعدها ضمن «خَلَق »{[32295]} معنى «جَعَل » التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن «جَعَل » معنى «خَلَق » فيتعدى{[32296]} لواحد نحو { وَجَعَلَ الظلمات والنور }{[32297]} [ الأنعام : 1 ] . والمعنى : حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة ، وهي الدم الجامد{[32298]} { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } أي : جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة ، أي : قطعة لحم ، كأنها مقدار ما يمضع كالغرفة ، وهو ما يغترف .
وسمى التحويل خلقاً ، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها ، ويخلق أعراضاً غيرها ، فسمى خلق الأعراض خلقاً لها ، كأنه{[32299]} سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة{[32300]} .
قوله : { فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً } أي : صيرناها كذلك . وقرأ العامة : «عِظاماً » و«العِظَام » بالجمع فيهما{[32301]} ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «عَظْماً » و«العَظمَ »{[32302]} بالإفراد فيهما ، والسلمي والأعرج ، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني{[32303]} ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وإبراهيم بن أبي بكر{[32304]} بجمع الأول وإفراد الثاني عكس{[32305]} ما قبله{[32306]} .
فالجمع{[32307]} على الأصل ، لأنه مطابق لما يراد به ، والإفراد للجنس كقوله : «وَالمَلَكُ صَفًّا »{[32308]} ، وكقوله : { وَهَنَ العظم مِنِّي »{[32309]} [ مريم : 4 ] .
وقال{[32310]} الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس ، لأنَّ الإنسان ذو عظام كثيرة{[32311]} . قال أبو حيان : وهذا عند سيبويه وأصحابه لا يجوز إلا ( لضرورة ){[32312]} {[32313]} وأنشدوا :
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُم تَعِفُّوا{[32314]} *** . . .
وإن كان معلوماً أن كل واحد له بطن{[32315]} . قال شهاب الدين : ومثله :
لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقَدْ سَبَيْنَا *** فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجَيْنَا{[32316]}
يريد في حلوقكم ومثله قوله الآخر :
بِهَا جِيَفُ الحسْرَى فأَمَّا عِظَامُهَا *** فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ{[32317]}
يريد جلودها ، ومنه «وعَلَى{[32318]} سَمْعِهِمْ »{[32319]} {[32320]} .
قوله : { فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } أي : ألبسنا ، لأنّ اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة ( لها ){[32321]} {[32322]} قيل{[32323]} : بين كل خلقين أربعون يوماً . { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } أي{[32324]} : خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً ، وكان جماداً ، وناطقاً وكان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره بل كل جزء من أجزائه عجائب فطرة ، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين{[32325]} . قال ابن عباس{[32326]} ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية : المراد بالخلق الآخر هو نفخ الروح فيه . وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر ، وروى ابن جريج عن مجاهد : أنه استواء الشباب . وعن الحسن قال : ذكر أو أنثى .
وروى العوفي عن ابن عباس : أنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتفاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ، وخلق الفهم والعقل ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها{[32327]} إلى أنْ يموت .
قالوا : وفي هذه الآية{[32328]} دلالة على بطلان قول النظام أن الإنسان هو الروح لا البدن ، فإنه سبحانه بَيَّن أنَّ الإنسان هو المركب من هذه الأشياء{[32329]} . وفيها دلالة أيضاً على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون : الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم . {[32330]}
وقال{[32331]} : «فَتَبَارَك اللَّهُ » أي : فتعالى الله{[32332]} ، لأنَّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه . ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله .
وقيل : أصله من البروك وهو الثبات ، فكأنه قال : البقاء والدوام والبركات كلها منه ، فهو المستحق للتعظيم والثناء{[32333]} بأنه لم يزل ولا يزال «أَحسَنُ الخَالِقِينَ » المصورين والمقدرين . والخلق في اللغة : التقدير ، قال زهير :
ولأَنْتَ تَفْري مَا خَلقْتَ وَبَعْ *** ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي{[32334]}
قوله : «أَحْسَنُ الخَالِقِينَ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من الجلالة{[32335]} .
الثاني : أنه نعت للجلالة{[32336]} ، وهو أولى مما قبله ، لأنّ البدل بالمشتق يقل .
الثالث : أنْ يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هو أحسن{[32337]} ، والأصل عدم الإضمار .
وقد منع أبو البقاء أن يكون وصفاً ، قال : لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن{[32338]} «من » ، وهكذا{[32339]} جميع أفعل منك{[32340]} .
قال شهاب الدين : وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا ، والصحيح الأول{[32341]} . والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه عليه ، أي : أحسن الخالقين خلقاً المقدرين تقديراً كقوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ{[32342]} } [ الحج : 39 ] أي : في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه{[32343]} .
فصل{[32344]}
قالت المعتزلة : لولا أن يكون{[32345]} غير الله قد يكون خالقاً لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين ، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه : «أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ »{[32346]} و «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »{[32347]} . والخلق في اللغة : هو كل فعل وُجد من فاعله مقدّراً لا على سهو وغفلة ، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه . قال الكعبي{[32348]} : هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد ، كما أنه{[32349]} يجوز أن يقال : رَبُّ الدار ، ولا يجوز أن يقول : رب ، ولا يقول العبد لسيده : هذا ربّي ، ولا يقال : إنما قال الله سبحانه{[32350]} ذلك{[32351]} لأنه وَصفَ عيسى - عليه السلام{[32352]} - بأنه يَخْلُق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر{[32353]} . لأنا نجيب من وجهين :
أحدهما : أن{[32354]} ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه «أَحسَنُ الخَالِقِينَ » الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح .
الثاني{[32355]} : أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه يخلق وصحّ{[32356]} أيضاً وصف غيره من المصورين بأنه يخلق .
وأجيب بأن هذه الآية معارضة بقوله{[32357]} : { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }{[32358]} [ الزمر : 62 ] فوجب حمل هذه الآية على أنه «أَحسَنُ الخَالِقينَ » في اعتقادكم وظنكم كقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ{[32359]} } [ الروم : 27 ] .
وجواب ثان ، وهو أنّ الخالق هو المقدر ، لأن الخلق هو التقدير ، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن المقدرين ، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فتكون الآية من المتشابه .
وجواب ثالث : أنّ الآية تقتضي كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه موحداً .
قالت المعتزلة : الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين ، وإذا كان كذلك وجب أن لا{[32360]} يكون خالقاً للكفر والمعصية ، فوجب أن يكون العبد هو الموجد{[32361]} لهما{[32362]} .
وأجيب بأنّ من الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في{[32363]} التركيب والتأليف ، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله كل الأشياء ، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء{[32364]} .
روى الكلبي عن ابن عباس{[32365]} أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله : «خَلْقاً آخَرَ » عجب من ذلك فقال : فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحَسَنُ الخَالِقِينَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اكتبْ فَهكَذَا نزلت » فشك عبد الله وقال : إن كان محمد صادقاً فيما يقول ، فإنه يُوحَى إليّ كما يُوحَى إليه ، وإن كان كاذباً فلا خير في دينه ، فهرب إلى مكة ، فقيل : إنه مات على الكفر ، وقيل : إنه أسلم يوم الفتح{[32366]} وروى سعيد{[32367]} بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك اللَّهُ أحسن الخالقين . فقال رسول الله : «هكذا أُنزلَ يا عمر » .
وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام ، وضرب الحجاب على النسوة ، وقولي لهنّ : أو ليُبْدِلَهُ اللَّهُ خيراً مِنْكُنّ ، فنزل قوله : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ }{[32368]} [ التحريم : 5 ] ، والرابع قوله : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين }{[32369]} قال العارفون : هذه الواقعة كانت من أسباب السعادة لعمر ، وسبب الشقاوة لعبد الله ، كما قال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً }{[32370]} [ البقرة : 26 ] .
فإن قيل : فعلى كل الروايات فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن ، وذلك يقدح في كونه معجزاً كما ظنّه عبد الله .
فالجواب : هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز ، فسقطت شبهة عبد الله {[32371]} .