قوله عز وجل :{ إنك لا تهدي من أحببت } أي : أحببت هدايته . وقيل : أحببته لقرابته ، { ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } . قال مجاهد ، ومقاتل : لمن قدر له الهدى ، ونزلت في أبي طالب ؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة . قال : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك " . فأنزل الله تعالى هذه الآية .
{ 56 } { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
يخبر تعالى أنك يا محمد -وغيرك من باب أولى- لا تقدر على هداية أحد ؛ ولو كان من أحب الناس إليك ؛ فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق ، وخلق الإيمان في القلب ؛ وإنما ذلك بيد اللّه سبحانه تعالى ؛ يهدي من يشاء ، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه ، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله .
وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فتلك هداية البيان والإرشاد ؛ فالرسول يبين الصراط المستقيم ، ويرغب فيه ، ويبذل جهده في سلوك الخلق له . وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان ، ويوفقهم بالفعل ، فحاشا وكلا . ولهذا ؛ لو كان قادرا عليها لهدى من وصل إليه إحسانه ونصره ومنعه من قومه- عمه أبا طالب- ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة للدين والنصح التام ما هو أعظم مما فعله معه عمه ؛ ولكن الهداية بيد اللّه تعالى .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الهداية منه وحده ، ورد على أقوال المشركين ، وبين سنة من سننه فى خلقه ، كما بين أن ما عنده - سبحانه - أفضل وأبقى من شهوات الدنيا وزينتها ؛ فقال - تعالى - : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي . . . } .
المعنى : { إِنَّكَ } - أيها الرسول الكريم - { لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي : لا تستطيع بقدرتك الخاصة أن تهدى إلى الإيمان من تريد هدايته إليه .
{ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } أي : ولكن الله - تعالى - وحده هو الذى يملك هداية من يشاء هدايته إلى الإيمان ؛ فهو - سبحانه - الخالق لكل شىء ، وقلوب العباد تحت تصرفه - تعالى - يهدى من يشاء منها ويضل من يشاء ؛ على حسب مشيئته وحكمته التي تخفى على الناس .
{ وَهُوَ } - سبحانه - { أَعْلَمُ بالمهتدين } أي : بالقابلين للهداية المستعدين لها .
فبلّغ - أيها الرسول الكريم - ما كلفناك به ؛ ثم اترك بعد ذلك قلوب الناس إلى خالقهم ؛ فهو - سبحانه - الذي يصرفها كيف يشاء .
قال بعض العلماء : وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته ؛ فهذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكافله وحاميه والذائد عنه لا يكتب الله له الإيمان ؛ على شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشدة حب الرسول له أن يؤمن . ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة ؛ ولم يقصد إلى العقيدة . وقد علم الله منه ذلك فلم يقدر له ما كان يحبه له صلى الله عليه وسلم ويرجوه ؛ فأخرج هذا الأمر - أي الهداية - من خاصة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعله خاصا بإرادته - سبحانه - وتقديره . وما على الرسول إلا البلاغ ، وما على الداعين بعده إلا النصيحة . والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد ، واستعدادهم للهدى والضلال .
هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم القرآن . ووراءه من قومه من جهد جهده ليؤمن ؛ ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام . فلم يقدر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه . وما كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ليهدي من يحب . إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان . .
( إنك لا تهدي من أحببت ، ولكن الله يهدي من يشاء . وهو أعلم بالمهتدين ) . .
ورد في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وقد كان يحوطه وينصره ، ويقف دونه في وجه قريش ، ويحميه حتى يبلغ دعوته ، ويحتمل في سبيل ذلك مقاطعة قريش له ولبني هاشم وحصارهم في الشعب . ولكنه إنما يفعل ذلك كله حبا لابن أخيه ، وحمية وإباء ونخوة . فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الإيمان والدخول في الإسلام ، فلم يكتب الله له هذا ، لما يعلمه سبحانه من أمره . .
قال الزهري : حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن المخزومي - رضي الله عنه - قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أمية ابن المغيرة . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عم قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبدالله بن أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ? فلم يزل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال : على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول : لا إله إلا الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله تعالى : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) . وأنزل في أبي طالب : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) . . [ أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ] .
ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال " : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " يا عماه . قل : لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة " فقال : لولا أن تعيرني بها قريش يقولون : ما حمله عليها إلا جزع الموت لأقررت بها عينك . لا أقولها إلا لأقر بها عينك " . ونزل قول الله تعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) .
وروى عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب . وكان آخر ما قاله : هو على ملة عبد المطلب .
وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته . فهذا عم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وكافله وحاميه والذائد عنه ، لا يكتب الله له الإيمان ، على شدة حبه لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وشدة حب رسول الله له أن يؤمن . ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة ، ولم يقصد إلى العقيدة . وقد علم الله هذا منه ، فلم يقدر له ما كان يحبه له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويرجوه . فأخرج هذا الأمر - أمر الهداية - من حصة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وجعله خاصا بإرادته سبحانه وتقديره . وما على الرسول إلا البلاغ . وما على الداعين بعده إلا النصيحة . والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن ، والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو للضلال .
يقول تعالى لرسوله- صلوات الله وسلامه عليه- : إنك يا محمد { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي : ليس إليك ذلك ؛ إنما عليك البلاغ ، والله يهدي من يشاء ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ؛ كما قال تعالى : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } [ البقرة : 272 ] ، وقال : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] .
وهذه الآية أخص من هذا كله ؛ فإنه قال : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي : هو أعلم بِمَنْ يستحق الهداية بِمَنْ يستحق الغِوَاية . وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد كان يَحوطُه وينصره ، ويقوم في صفه ، ويحبه حبًّا [ شديدا ]{[22361]} طبعيًّا لا شرعيًّا . فلما حضرته الوفاة وحان أجله ، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام ، فسبق القدر فيه ، واختطف من يده ، فاستمر على ما كان عليه من الكفر . ولله الحكمة{[22362]} التامة .
قال الزهري : حدثني سعيد بن المسَيَّب عن أبيه - وهو المسيب بن حَزْن المخزومي رضي الله عنه - قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عم ؛ قل : لا إله إلا الله ؛ كلمة أشهد لك بها عند الله " . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ؛ أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، ويعودان له بتلك المقالة ، حتى قال آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول : لا إله إلا الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " . فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [ التوبة : 113 ] ، وأنزل في أبي طالب : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } .
أخرجاه{[22363]} من حديث الزهري{[22364]} . وهكذا رواه{[22365]} مسلم في صحيحه ، والترمذي ، من حديث يزيد بن كَيْسَان ، عن أبي حازم ، عن أبي هُرَيْرَةَ قال : لما حَضَرَتْ وفاةُ أبي طالب أتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عماه ؛ قل : لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة " . فقال : لولا أن تُعَيّرني{[22366]} بها قريش ، يقولون : ما حمله عليه إلا جَزَع الموت ، لأقرَرْتُ بها عينَك ؛ لا أقولها إلا لأقرَّ بها عينك . فأنزل الله : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } . وقال الترمذي : حسن غريب{[22367]} ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان{[22368]} .
ورواه الإمام أحمد ، عن يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن يزيد بن كيسان ، حدثني أبو حازم ، عن أبي هريرة ، فذكره بنحوه{[22369]} .
وهكذا قال ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين عَرَضَ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : " لا إله إلا الله " فأبى عليه ذلك ، وقال :{[22370]} أيْ ابن أخي ، ملةَ الأشياخ . وكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب .
وقال{[22371]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم{[22372]} ، عن سعيد بن أبي راشد قال : كان رسول قيصر جاء{[22373]} إليَّ قال : كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا ، فأتيته فدفعت الكتاب ، فوضعه في حجره ، ثم قال : " مِمَّنْ الرجل ؟ " قلت : من تنوخ{[22374]} . قال : " هل لك في دين أبيك إبراهيم ؛ الحنيفية ؟ " قلت : إني رسول قوم ، وعلى دينهم حتى أرجع إليهم . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى أصحابه وقال{[22375]} : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }{[22376]} .
{ إنك لا تهدي من أحببت } لا تقدر على أن تدخلهم في الإسلام . { ولكن الله يهدي من يشاء } فيدخله في الإسلام . { وهو أعلم بالمهتدين } بالمستعدين لذلك .
والجمهور على أنها نزلت في أبي طالب ؛ فإنه لما احتضر جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا عم ؛ قل لا إله إلا الله ؛ كلمة أحاج لك بها عند الله . قال : يا ابن أخي ؛ قد علمت إنك لصادق ؛ ولكن أكره أن يقال خرع عند الموت .
أجمع جل المفسرين على أن قوله تعالى { إنك لا تهدي من أحببت } إنما نزلت في شأن أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو هريرة وابن المسيب وغيرهما : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وهو يجود بنفسه فقال له : «أي عم ؛ قل لا إله إلا الله ؛ كلمة أشهد لك بها عند الله » . وكان بحضرته عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام ؛ فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب يا أبا طالب ! فقال أبو طالب : يا محمد ؛ لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك . ثم قال أبو طالب : أنا على ملة عبد المطلب والأشياخ . فتفجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عنه ؛ فمات أبو طالب على كفره ؛ فنزلت هذه الآية . قال أبو روق : قوله تعالى : { ولكن الله يهدي من يشاء } ، إشارة إلى العباس{[9157]} .