السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ} (56)

ونزل في حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه أبي طالب { إنك لا تهدي من أحببت } أي : نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه . روى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ؛ فقال : « أي عمّ ؛ قل لا إله إلا الله ؛ كلمة أحاجّ لك بها عند الله » . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ! فلم يزل صلى الله عليه وسلم يعرضها ويصدانه بتلك الكلمة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك » . فأنزل الله تعالى : { ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } ( التوبة : 113 ) . وأنزل الله تعالى في أبي طالب ؛ فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { إنك لا تهدي من أحببت } الآية .

وفي مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالتوحيد ؛ فقال له : لولا أن تعيرني قريش - تقول إنما حمله على ذلك الجزع - لأقررت بها عينك . فأنزل الله تعالى الآية . وروي أنّ أبا طالب قال عند موته : يا معشر بني هاشم ؛ أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا ؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يا عمّ ؛ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك ! » . قال : فما تريد يا ابن أخي ؟ قال : « أريد منك كلمة واحدة ؛ فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا ؛ تقول لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله » . قال : يا ابن أخي ؛ قد علمت أنك صادق ؛ ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت . ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة وسبة بعدي لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ : عبد المطلب وعبد مناف . فإن قيل قال الله تعالى في هذه الآية : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } ، وقال تعالى في آية أخرى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } ( الشورى : 52 ) ، أجيب : بأنه لا تنافي بينهما ؛ فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة ، والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدور ؛ وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب ؛ كما قال تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } ( الأنعام : 122 ) . { وهو أعلم } أي : عالم { بالمهتدين } أي : الذين قد هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أم من العرب أقارب كانوا أم أباعد .