40- وهذا مثل آخر لأعمال الكفار ، فمثلها كمثل ظلمات البحر الواسع العميق ، الذي تتلاطم أمواجه عند هياجه ، ويعلو بعضها فوق بعض ، ويغطيها سحاب كثيف قاتم يحجب النور عنها ، فهذه ظلمات متراكمة ، لا يستطيع راكب البحر معها أن يرى يده ولو أدناها إلي بصره ، فوقف حائراً مبهوتاً ، وكيف يرى شيئاً ويخلص من هذه الحيرة بدون نور يهديه في مسيره ويقيه الارتطام والهلاك ؟ وكذلك الكافرون لا يفيدون من أعمالهم ، ولا يخرجون من عمايتهم وضلالهم ، ولا ينجون بأنفسهم إلا بنور الإيمان ، ومن لم يوفقه الله لنور الإيمان ، فليس له نور يهديه إلي الخير ويدله علي الطريق المستقيم ، فيكون من الهالكين{[150]} .
قوله تعالى : { أو كظلمات } وهذا مثل آخر ضربه الله لأعمال الكفار ، يقول : مثل أعمالهم من فسادها وجهالتهم فيها كظلمات ، { في بحر لجي } وهو العميق الكثير الماء ، ولجة البحر : معظمه ، { يغشاه } يعلوه ، { موج من فوقه موج } متراكم ، { من فوقه سحاب } قرأ ابن كثير برواية القواس : سحاب بالرفع والتنوين ، { ظلمات } بالجر على البدل من قوله أو كظلمات . وروى أبو الحسن البري عنه : ( سحاب ظلمات ) بالإضافة ، وقرأ الآخرون سحاب ظلمات ، كلاهما بالرفع والتنوين ، فيكون تمام الكلام عند قوله سحاب ثم ابتدأ فقال : { ظلمات بعضها فوق بعض } ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر ، بعضها فوق بعض ، أي : ظلمة الموج على ظلمة البحر ، وظلمة الموج فوق الموج ، وظلمة السحاب على ظلمة الموج ، وأراد بالظلمات أعمال الكافر وبالبحر اللجي قلبه ، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة ، وبالسحاب الختم والطبع على قلبه . قال أبي بن كعب : في هذه الآية الكافر يتقلب في خمسة من الظلم : فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار . { إذا أخرج } يعني : الناظر ، { يده لم يكد يراها } يعني لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمة . وقال الفراء : ( يكد ) صلة ، أي : لم يرها ، قال المبرد : يعني لم يرها إلا بعد الجهد ، كما يقول القائل : ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ، ولكن بعد يأس وشدة . وقيل : معناه قرب من رؤيتها ولم يرها ، كما يقال : كاد النعام يطير . { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } قال ابن عباس : من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له . وقيل : من لم يهده الله فلا إيمان له ولا يهديه أحد . وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة كان يلتمس الدين في الجاهلية ويلبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر . والأكثرون على أنه عام في جميع الكفار .
والمثل الثاني ، لبطلان أعمال الكفار { كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } بعيد قعره ، طويل مداه { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } ظلمة البحر اللجي ، ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة ، ثم فوق ذلك ، ظلمة السحب المدلهمة ، ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم ، فاشتدت الظلمة جدا ، بحيث أن الكائن في تلك الحال { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } مع قربها إليه ، فكيف بغيرها ، كذلك الكفار ، تراكمت على قلوبهم الظلمات ، ظلمة الطبيعة ، التي لا خير فيها ، وفوقها ظلمة الكفر ، وفوق ذلك ، ظلمة الجهل ، وفوق ذلك ، ظلمة الأعمال الصادرة عما ذكر ، فبقوا في الظلمة متحيرين ، وفي غمرتهم يعمهون ، وعن الصراط المستقيم مدبرين ، وفي طرق الغي والضلال يترددون ، وهذا لأن الله تعالى خذلهم ، فلم يعطهم من نوره ، { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } لأن نفسه ظالمة جاهلة ، فليس فيها من الخير والنور ، إلا ما أعطاها مولاها ، ومنحها ربها . يحتمل أن هذين المثالين ، لأعمال جميع الكفار ، كل منهما ، منطبق عليها ، وعددهما لتعدد الأوصاف ، ويحتمل أن كل مثال ، لطائفة وفرقة . فالأول ، للمتبوعين ، والثاني ، للتابعين ، والله أعلم .
وقوله - تعالى - : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } مثال آخر لأعمال الكافرين التى لا ينتفعون بها مع أنهم يعتقدون أنها ستنفعهم .
فحرف " أو " للتقسيم ، وما بعدها معطوف على قوله - سبحانه - قبل ذلك ، " كسراب بقيعة " .
والمعنى : أو أن الأعمال الحسنة فى الدنيا لهؤلاء الكافرين ، مثلها - من حيث خلوها عن نور الحق وعن النفع - كمثل " ظلمات " كثيفة " فى بحر لجى " أى : عميق الماء كثيره ، من اللج وهو معظم ماء البحر .
" يغشاه موج " أى : هذا البحر اللجى . يغطيه ويستره ويعلوه موج عظيم " من فوقه موج " آخر أشد منه " من فوقه سحاب " أى : من فوق تلك الأمواج الهائلة الشديدة ، سحاب كثيف متراكم قائم .
" ظلمات بعضها فوق بعض " أى : هذه الأمواج المتلاطمة ، وتحتها البحر العميق المظلم ، وفوقها السحب الفاتحة الداكنة ، هى ظلمات بعضها فوق بعض ، " إذا أخرج يده لم يكد يراها " أى : إذا أخرج الواقع فى تلك الظلمات يده التى هى جزء منه ، لم يكد يراها من شدة تراكم الظلمات .
قال الآلوسى : " إذا أخرج " أى : من ابتلى بهذه الظلمات " يده " وجعلها بمرأى منه ، قريبة من عينيه لينظر إليها " لم يكد يراها " أى : لم يقرب من رؤيتها ، وهى أقرب شىء إليه ، فضلا عن أن يراها . . .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان سنة من سننه التى لا تتخلف فقال : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } .
والمعنى : وأى إنسان لم يشأ الله - تعالى - أن يجعل له نورا يهديه إلى الصراط المستقيم فما لهذا الإنسان من نور يهديه إلى الحق والخير ، من أى مخلوق كائنا من كان ، إذ أن الذى يملك منح النور الهادى إنما هو الله - تعالى - وحده .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه : هذان مثلان ضربهما الله - تعالى - لنوعى الكفار ، فأما المثال الأول ، فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم ، الذين يحسبون أنهم على شىء من الأعمال والاعتقادات وليسوا فى نفس الأمر على شىء " فمثلهم فى ذلك كالسراب الذى يرى فى القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام .
وهذا المثال مثال لذوى الجهل المركب - أى الذين يعتقدون الباطل ويزعمون أنه الحق - والمثال الثانى لأصحاب الجهل البسيط ، وهم الأغشام والمقلدون لأئمة الكفر فمثلهم كما قال - تعالى : " أو كظلمات فى بحر لجى . . . " .
وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب ؛ ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي . موج من فوقه موج . من فوقه سحاب . وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض ، حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام !
إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون . وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى . ومخافة لا أمن فيها ولا قرار . . ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) . . ونور الله هدى في القلب ؛ وتفتح في البصيرة ؛ واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض ؛ والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض . فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها ، وفي مخالفة لا أمن فيها ، وفي ضلال لا رجعة منه . ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب ؛ لأنه لا عمل بغير عقيدة ، ولا صلاح بغير إيمان . إن هدى الله هو الهدى . وإن نور الله هو النور .
قال قتادة : وهو العميق . { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } أي : لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام ، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يدري أين يذهب ، ولا [ هو ]{[21282]} يعرف حال من يقوده ، بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال : معهم . قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري .
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } يعني بذلك : الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر ، وهي كقوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] ، وكقوله{[21283]} : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ الجاثية : 23 ] .
وقال أُبيّ بن كعب في قوله : { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } فهو يتقلب في خمسة من الظلم : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات ، إلى النار .
وقال الربيع بن أنس ، والسُّدِّي نحو ذلك أيضًا .
وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } أي : من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر ، كما قال تعالى : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] وهذا [ في ]{[21284]}
مُقابلة ما قال في مثل المؤمنين : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورًا ، وعن أيماننا نورًا ، وعن شمائلنا نورًا ، وأن يعظم لنا نورًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَآءً حَتّىَ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .
وهذا مَثَل ضربه الله لأعمال أهل الكفر به ، فقال : والذين جحدوا توحيد ربهم وكذّبوا بهذا القرآن وبمن جاء به ، مَثَل أعمالهم التي عملوها كسراب يقول : مثلُ سَراب ، والسراب : ما لَصِق بالأرض ، وذلك يكون نصف النهار وحين يشتدّ الحرّ . والاَل ما كان كالماء بين السماء والأرض ، وذلك يكون أوّل النهار ، يرفع كلّ شيء ضُحًى . وقوله : بقيَعَةٍ وهي جمع قاع ، كالجِيرة جمع جار ، والقاع : ما انبسط من الأرض واتسع ، وفيه يكون السراب . وقوله : يَحْسَبُهُ الظّمآنُ ماءٌ يقول : يظن العطشان من الناس السراب ، ماء . حتى إذا جاءه والهاء من ذكر السّراب ، والمعنى : حتى إذا جاء الظمآن السراب ملتمسا ماء يستغيث به من عطشه لم يَجِدْهُ شَيْئا يقول : لم يجد السراب شيئا ، فكذلك الكافرون بالله من أعمالهم التي عملوها في غُرور يحسبون أَنها منجيتهم عند الله من عذابه ، كما حسب الظمآن الذي رأى السراب فظنه ماء يُرْويه من ظمئه حتى إذا هلك وصار إلى الحاجة إلى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله ، لم يجده ينفعه شيئا لأنه كان عمله على كفر بالله ، ووجد الله هذا الكافر عند هلاكه بالمِرصاد ، فوفّاه يوم القيامة حساب أعماله التي عملها في الدنيا وجازاه بها جزاءه الذي يستحقه عليه منه .
فإن قال قائل : وكيف قيل : حتى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا فإن لم يكن السراب شيئا ، فعلام أدخلت الهاء في قوله : حتى إذَا جاءَهُ ؟ قيل : إنه شيء يُرَى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد والهباء ، فإذا قرب منه المرء رقّ وصار كالهواء . وقد يحتمل أن يكون معناه : حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب من ذكر موضعه . وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يقول : والله سريع حسابه لأنه تعالى ذكره لا يحتاج إلى عقد أصابع ولا حفظ بقلب ، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد ومن بعد ما عمله .
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : ثم ضرب مثلاً آخر ، فقال : وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرابٍ بقِيعَةٍ قال : وكذلك الكافر يجيء يوم القيامة وهو يَحْسِب أن عند الله خيرا ، فلا يجد ، فيُدخله النار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب بنحوه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : أعمالُهُمْ كَسَرابٍ بقِيعَةٍ يقول : الأرض المستوية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ . . . إلى قوله : وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِساب قال : هو مَثَل ضربه الله لرجل عطش فاشتدّ عطشه ، فرأى سرابا فحسبه ماء ، فطلبه وظنّ أنه قد قدر عليه ، حتى أتاه ، فلما أتاه لم يجده شيئا ، وقُبض عند ذلك . يقول : الكافر كذلك ، يحسب أن عمله مُغْنٍ عنه أو نافعه شيئا ، ولا يكون آتيا على شيء حتى يأتيه الموت ، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولم ينفعه إلا كما نفع العطشانَ المشتدّ إلى السّراب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ قال : بقاعٍ من الأرض ، والسراب : عَمَلُه . زاد الحارث في حديثه عن الحسن : والسراب عمل الكافر . إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا . إتيانه إياه : موته وفراقه الدنيا . وَوَجَد اللّهَ عند فراقه الدنيا ، فَوَفّاهُ حِسَابَهُ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ قال : بقِيعة من الأرض . يَحْسَبُهُ الظّمانُ ماءً : هو مثل ضربه الله لعمل الكافر ، يقول : يحسب أنه في شيء كما يحسب هذا السراب ماء . حتى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجدْهُ شَيْئا ، وكذلك الكافر إذا مات لم يجد عمله شيئا وَوَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا . . . إلى قوله : وَوَجَدَ اللّهُ عِنْدَهُ قال : هذا مَثَل ضربه الله للذين كفروا أعمْالُهُمْ كَسَراب بِقِيعَةٍ قد رأى السراب ، ووثق بنفسه أنه ماء ، فلما جاءه لم يجده شيئا . قال : وهؤلاء ظنوا أن أعمالهم صالحة ، وأنهم سَيَرْجعون منها إلى خير ، فلم يرجعوا منها إلا كما رجع صاحب السراب فهذا مَثَلٌ ضربه الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه . القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } .
وهذا مَثَل آخر ضربه الله لأعمال الكفار ، يقول تعالى ذكره : ومَثَل أعمال هؤلاء الكفار في أنها عُمِلت على خطأ وفساد وضلالة وحيرة من عمالها فيها وعلى غير هدى ، مَثَل ظلمات في بحر لُجّىّ . ونسب البحر إلى اللّجة ، وصفا له بأنه عميق كثير الماء . ولجُة البحر : معظمه . يَغْشاهُ مَوْج يقول : يغشى البحر موج ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ : يقول : من فوق الموج موج آخر يغشاه ، مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ : يقول : من فوق الموج الثاني الذي يغشى الموج الأوّل سحاب . فجعل الظلمات مثلاً لأعمالهم ، والبحر اللجىّ مثلاً لقلب الكافر ، يقول : عَمِل بنية قلب قد غَمَره الجهل وتغشّته الضلال والحَيرة كما يغشى هذا البحر اللّجيّ موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، فكذلك قلب هذا الكافر الذي مَثَل عمله مَثَل هذه الظلمات ، يغشاه الجهل بالله ، بأن الله ختم عليه فلا يعقل عن الله ، وعلى سمعه فلا يسمع مواعظ الله ، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله ، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ . . . إلى قوله : مِنْ نُورٍ قال : يعني بالظلمات : الأعمال ، وبالبحر اللّجيّ : قلب الإنسان . قال : يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، قال : ظلمات بعضها فوق بعض يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر .
وهو كقوله : خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ . . . الآية ، وكقوله : أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ . . . إلى قوله : أفَلا تَذَكّرُونَ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : أوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرِ لجّيّ عميق ، وهو مثل ضربه الله للكافر يعمل في ضلالة وحيرة ، قال : ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْض . ورُوِيِ عن أُبيّ بن كعب ، ما :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : أوْ كُظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجّىَ يَغْشاهُ مَوْجٌ . . . الآية ، قال : ضرب مثلاً آخر للكافر ، فقال : أوْ كُظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ . . . الآية ، قال : فهو يتقلب في خمس من الظّلَم : فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومَدخله ظلمة ، ومَخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن أبي الربيع ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، بنحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أو كَظُلُماتٍ فِي بَحْرِ لُجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ . . . إلى قوله : ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ قال : شرّ بعضه فوق بعض .
وقوله : إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها يقول : إذا أخرج الناظر يده في هذه الظلمات ، لم يكد يراها .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : لم يكد يراها ، مع شدّة هذه الظلمة التي وصف ، وقد علمت أن قول القائل : لم أكد أرى فلانا ، إنما هو إثبات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة ، ومن دون الظلمات التي وصف في هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فيه ، فكيف فيها ؟ قيل : في ذلك أقوال نذكرها ، ثم نخبر بالصواب من ذلك . أحدها : أن يكون معنى الكلام : إذا أخرج يده رائيا لها لم يكد يراها أي لم يعرف من أين يراها . والثاني : أن يكون معناه : إذا أخرج يده لم يرها ، ويكون قوله : لَمْ يَكَدْ في دخوله في الكلام ، نظير دخول الظنّ فيما هو يقين من الكلام ، كقوله : وَظَنّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ونحو ذلك . والثالث : أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد ، كما يقول القائل لاَخر : ما كدت أراك من الظلمة ، وقد رآه ، ولكن بعد إياس وشدة . وهذا القول الثالث أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب «أكاد » في كلامها . والقول الاَخر الذي قلنا إنه يتوجه إلى أنه بمعنى لم يرها ، قول أوضح من جهة التفسير ، وهو أخفى معانيه . وإنما حسُنَ ذلك في هذا الموضع ، أعني أن يقول : لم يكد يراها مع شدة الظلمة التي ذكر لأن ذلك مَثَل لا خبر عن كائن كان . وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورا يقول : من من لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة ومعرفة بكتابه ، فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ يقول : فما له من إيمان وهدى ومعرفة بكتابه .
وقوله تعالى : { أو كظلمات } عطف على قوله { كسراب } ، وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا ، أي إنهم من الضلال ونحوه في مثل هذه الظلمة المجتمعة من هذه الأشياء ، وذهب بعض الناس إلى أن في هذا المثال أجزاء تقابل أجزاء من الممثل فقال «الظلمات » الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة ، و «البحر اللجي » صدر الكافر وقلبه ، و «اللجي » معناه ذو اللجة ، وهي معظم الماء وغمره واجتماع ما به أشد لظلمته ، و «الموج » هو الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة ، و «السحاب » هو شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان وما رين به على قلبه .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا التأويل سائغ وإن لا يقدر هذا التقابل سائغ ، وقرأ سفيان بن حسين{[8734]} «أوَ كظلمات » بفتح الواو ، وقرأ جمهور السبعة «سحابٌ » بالرفع والتنوين «ظلمات » بالرفع ، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل «سحابٌ » بالرفع والتنوين «ظلمات » بالخفض على البدل من «ظلمات » الأول ، وقرأ ابن أبي بزة عن ابن كثير «سحابُ » بغير تنوين على الإضافة على الظلماتٍ ، وقوله { إذا أخرج يده لم يكد يراها } لفظ يقتضي مبالغة الظلمة ، واختلف الناس في هذه اللفظ هل يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال وأخرج يده رأى يده ولم يرها البتة ، فقالت فرقة لم يرها جملة وذلك أن «كاد » معناها قارب فكأنه قال { إذا أخرج يده } لم يقارب رؤيتها ، وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة ، وقالت فرقة بل رآها بعد عسر وشدة وكان أن لا يراها ووجه ذلك أن «كاد » إذا صحبها حرف النفي وجب الفعل الذي بعدها وإذا لم يصحبها انتفى الفعل .
قال أبو محمد رحمه الله : وهذا لازم متى كان حرف النفي بعد «كاد » داخلاً على الفعل الذي بعدها ، تقول : كاد زيد يقوم ، فالقيام منفي فإذا قلت كاد زيد أن لا يقوم فالقيام واجب واقع ، وتقول كاد النعام يطير ، فهذا يقتضي نفي الطيران عنه ، فإذا قلت كاد النعام أن يطير وجب الطيران له ، فإذ كان حرف النفي مع «كاد » فالأمر محتمل مرة يوجب الفعل ومرة ينفيه ، تقول المفلوج لا يكاد يسكن فهذا كلام صحيح تضمن نفي السكون ، وتقول رجل متكلم{[8735]} لا يكاد يسكن ، فهذا كلام صحيح يتضمن إيجاب السكون بعد جهد ونادراً ومنه قوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون }{[8736]} [ البقرة : 71 ] نفي مع كاد تضمن وجوب الذبح ، وقوله في هذه الآية { لم يكد يراها } نفي مع كاد يتضمن في أحد التأويلين ، نفي الرؤية ، ولهذا ونحوه قال سيبويه رحمه الله إن أفعال المقاربة لها نحو آخر بمعنى أنها دقيقة التصرف{[8737]} ، وقوله تعالى : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } قالت فرقة يريد في الدنيا ، أي من لم يهده الله لم يهتد ، وقالت فرقة أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله وينور حاله بالعفو والرحمة فلا رحمة له ، والأول أبين وأليق بلفظ الآية ، وأيضاً فذلك لازم نور الآخرة إنما هو لمن نور قلبه في الدنيا وهدى ، وقد قررت الشريعة أن من مر لآخرته على كفره فهو غير مرحوم ولا مغفور له .