المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

72- إنا عرضنا التكاليف على السماوات والأرض والجبال فأبين حملها وخفْن منها ، وحملها الإنسان إنه كان شديد الظلم لنفسه ، جهولا بما يطيق حمله .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

قوله تعالى :{ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال } الآية . أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده ، عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، وهذا قول ابن عباس . وقال ابن مسعود : الأمانة : أداء الصلوات ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، وصدق الحديث ، وقضاء الدين ، والعدل في المكيال والميزان ، وأشد من هذا كله الودائع . وقال مجاهد : الأمانة : الفرائض ، وحدود الدين . وقال أبو العالية : ما أمروا به ونهوا عنه . وقال زيد بن أسلم : هو الصوم ، والغسل من الجنابة ، وما يخفى من الشرائع . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة استودعكها ، فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له . وقال بعضهم : هي أمانات الناس ، والوفاء بالعهود ، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال ، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف ، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها ؟ قلن : وما فيها ؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن ، فقلن : لا يا رب ، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً ، وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لدين الله أن لا يقمن بها لا معصية ولا مخالفة ، وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها ، والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسموات والأرض : { ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } وقال للحجارة : { وإن منها لما يهبط من خشية الله } وقال تعالى : { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } الآية . وقال بعض أهل العلم : ركب الله عز وجل فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن . وقال بعضهم : المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض ، عرضها على من فيها من الملائكة . وقيل : على أهلها كلها دون أعيانها ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } أي : أهل القرية . والأول أصح ، وهو قول العلماء . { فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فليحقهن العقاب ، { وحملها الإنسان } يعني : آدم عليه السلام ، فقال الله لآدم : إني عرضت الأمانة السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها ؟ قال : يا رب وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فتحملها آدم ، وقال : بين أذني وعاتقي ، قال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك ، أجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى مالا يحل لك فأرخ عليه حجابه ، واجعل للسانك لحيين وغلاقاً ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك . قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر . وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال : مثلت الأمانة كصخرة ملقاة ، ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها ، وقالوا : لا نطيق حملها ، وجاء آدم من غير أن دعي ، وحرك الصخرة ، وقال : لو أمرت بحملها لحملتها ، فقيل له : احملها ، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها ، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقيل له : احملها فحملها إلى حقوه ، ثم وضعها ، وقال : والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له : أحمل فحملها حتى وضعها على عاتقه ، فأراد أن يضعها فقال الله : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة { إنه كان ظلوماً جهولاً } قال ابن عباس : ظلوماً لنفسه جهولاً لأمر الله وما احتمل من الأمانة . وقال الكلبي : ظلوماً حين عصى ربه ، جهولاً لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة . وقال مقاتل : ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل . وذكر الزجاج : وغيره من أهل المعاني ، في قوله وحملها الإنسان قولا ، فقالوا : إن الله ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء ، فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض ، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له . وقيل : قوله : { فأبين أن يحملنها } أي : أدين الأمانة ، يقال : فلان لم يتحمل الأمانة أي : لم يخن فيها وحملها الإنسان أي : خان فيها ، يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة . قال الله تعالى : وليحملن أثقالهم{ إنه كان ظلوماً جهولاً } . حكى عن الحسن على هذا التأويل : أنه قال ( وحملها الإنسان ) يعني الكافر والمنافق ، حملا الأمانة أي : خانا . وقول السلف ما ذكرنا .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

{ 72 - 73 } { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

يعظم تعالى شأن الأمانة ، التي ائتمن اللّه عليها المكلفين ، التي هي امتثال الأوامر ، واجتناب المحارم ، في حال السر والخفية ، كحال العلانية ، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة ، السماوات والأرض والجبال ، عرض تخيير لا تحتيم ، وأنك إن قمت بها وأدَّيتِهَا على وجهها ، فلك الثواب ، وإن لم تقومي بها ، [ ولم تؤديها ] فعليك العقاب .

{ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أي : خوفًا أن لا يقمن بما حُمِّلْنَ ، لا عصيانًا لربهن ، ولا زهدًا في ثوابه ، وعرضها اللّه على الإنسان ، على ذلك الشرط المذكور ، فقبلها ، وحملها مع ظلمه وجهله ، وحمل هذا الحمل الثقيل . فانقسم الناس -بحسب قيامهم بها وعدمه- إلى ثلاثة أقسام :

منافقون ، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا ، ومشركون ، تركوها ظاهرًا وباطنًا ، ومؤمنون ، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

ثم بين - سبحانه - ضخامة التبعة التى حملها الإِنسان فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان . . } .

وأرجح الأقوال وأجمعها فى المراد بالأمانة هنا : أنها التكاليف والفرائض الشرعية التى كلف الله - تعالى - بها عباده ، من إخلاص فى العبادة ، ومن أداء للطاعات ، ومن محافظة على آداب هذا الدين وشعائره وسننه .

وسمى - سبحانه - ما كلفنا به أمانة ، لأن هذه التكاليف حقوق أمرنا - سبحانه - بها ، وائتمننا عليها ، وأوجب علينا مراعاتها والمحافظة عليها ، وأداءها بدون إخلال بشئ منها .

والمراد بالإِنسان : آدم - عليه السلام - أو جنس الإِنسان .

والمراد بحمله إياها : تقبله لحمل هذه التكاليف والأوامر والنواهى مع ثقلتها وضخامتها .

وللعلماء فى تفسير هذه الآية اتجاهات ، فمنهم من يرى أن الكلام على حقيقته ، وأن الله - تعالى - قد عرض هذه التكاليف الشرعية المعبر عنها بالأمانة ، على السماوات والأرض والجبال { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } لثقلها وضخامتها { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أى : وخفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك ما يؤدى بهن إلى عذاب الله وسخطه بسبب التقصير فى أداء ما كلفن بأدائه .

{ وَحَمَلَهَا الإنسان } أى : وقبل الإِنسان حمل هذه الأمانة عند عرضها عليه ، بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حملها ، وأشفقن منها .

{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } أى : إنه كان مفرطا فى ظلمه لنفسه ، ومبالغة فى الجهل ، لأن هذا الجنس من الناس لم يلتزموا جميعا بأداء ما كلفهم الله - تعالى - بأدائه . وإنما منهم من أداها على وجهها - وهم الأقلون - ، ومنهم من لم يؤدها وإنما عصى ما أمره به ربه ، وخان الأمانة التى التزم بأدائها .

فالضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود على بعض أفراد جنس الإِنسان ، وهم الذين لم يؤدوا حقوق هذه الأمانة التى التزموا بحملها .

قال الآلوسى : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } أى : بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، دون من عداهم من الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله ويكفى فى صدق الحكم على الجنس بشئ ، وجوده فى بعض أفراده ، فضلا عن وجوده فى غالبها . .

وقال بعض العلماء : ورجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلى معروف فى اللغة التى نزل بها القرآن .

وقد جاء فعلا فى آية من كتاب الله ، وهى قوله - تعالى - : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ . . . }

لأن الضمير فى قوله : { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلى ، كما هو ظاهر .

وهذه المسألة هى المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندى درهم ونصفه . أى : ونصف درهم آخر .

وأصحاب هذا الاتجاه يقولون : لا مانع إطلاقا من أن يخلق الله - تعالى - إدراكا ونطقا للسموات والأرض والجبال ، ولكن هذا الإِدراك والنطق لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .

ومما يشهد لذلك قوله - تعالى - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } قال الجمل : وكان هذا العرض عليهن - أى على السماوات والأرض والجبال تخييرا لا إلزاما ، ولو ألزمهن لم يمتنعن عن حملها . والجمادات كلها خاضعة لله - تعالى - مطيعة لأمره ، ساجدة له .

قال بعض أهل العلم : ركب الله - تعالى - فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة ، حتى عقلن الخطاب ، وأجبن بما أجبن .

ويرى بعضهم أن العرض فى الآية الكريمة من قبيل ضرب المثل ، أو من قبيل المجاز .

قال الإِمام القرطبى ما ملخصه : لما بين - تعالى - فى هذه السورة من الأكحام ما بين ، أم بالتزام أوامره ، والأمانة تعم جميع وظائف الدين ، على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور . .

ويصح أن يكون عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال على سبيل الحقيقة .

وقال القفال وغيره : العرض فى هذه الآية ضرب مثل ، أى : أن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها ، لو كانت بحيث يجوز تكليفها ، لثقل عليها تقلد الشرائع ، لما فيها من الثواب والعقاب .

أى : أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال ، وقد حمله الإِنسان وهو ظلوم جهول لو عقل . وهذا كقوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله . . . } وقال قوم : إن الآية من المجاز : أى : أنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال ، رأينا أنها لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت ، فَعُبِّر عن هذا بعرض الأمانة . كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد : قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه . .

وقيل : { عَرَضْنَا } يعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال ، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة . ورجحت الأمانة بثقلها عليها . . .

ويبدو لنا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى بالقبول ، لأنه ما دام لم يوجد مانع يمنع منه ، فلا داعى لصرفه عن ذلك .

ومما لا شك أن قدرة الله - تعالى - لا يعجزها أن تخلق فى السماوات والأرض ولاجبال إدراكا وتمييزا ونطقا لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

63

ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان ، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه . وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال . والتي أخذها على عاتقه ، وتعهد بحملها وحده ، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات ، وقصور العلم ، وقصر العمر ، وحواجز الزمان والمكان ، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد :

( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ؛ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) . .

إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة ، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا . هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة ، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها ؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة . وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية ؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة .

هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا . وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها ؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها ؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا . .

وهذه الأرض تدور دورتها ، وتخرج زرعها ، وتقوت أبناءها ، وتواري موتاها ، وتتفجر ينابيعها . وفق سنة الله بلا إرادة منها .

وهذا القمر . وهذه النجوم والكواكب ، وهذه الرياح والسحب . وهذا الهواء وهذا الماء . . وهذه الجبال . وهذه الوهاد . . كلها . . كلها . . تمضي لشأنها ، بإذن ربها ، وتعرف بارئها ، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة . . لقد أشفقت من أمانة التبعة . أمانة الإرادة . أمانة المعرفة الذاتية . أمانة المحاولة الخاصة .

( وحملها الإنسان ) . .

الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره . ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره . ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده . ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه ، ومقاومة انحرافاته ونزغاته ، ومجاهدة ميوله وشهواته . . وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد . مدرك . يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق !

إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم ، القليل القوة ، الضعيف الحول ، المحدود العمر ؛ الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع . .

وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة . ومن ثم ( كان ظلوما )لنفسه( جهولا )لطاقته . هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله . فأما حين ينهض بالتبعة . حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه ، والاهتداء المباشر لناموسه ، والطاعة الكاملة لإرادة ربه . المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال . . الخلائق التي تعرف مباشرة ، وتهتدي مباشرة ، وتطيع مباشرة ، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل . ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء . . حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة وهو واع مدرك مريد . فإنه يصل حقا إلى مقام كريم ، ومكان بين خلق الله فريد .

إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة . . هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله . وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى ، وهو يسجد الملائكة لآدم . وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول : ( ولقد كرمنا بني آدم ) . . فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله . ولينهض بالأمانة التي اختارها ؛ والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها . . . !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

قال العوفي ، عن ابن عباس : يعني بالأمانة : الطاعة ، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم ، فلم يطقنها{[24088]} ، فقال لآدم : إني قد عرضتُ الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها{[24089]} ، فهل أنت آخذ بما فيها ؟ قال : يا رب ، وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . فأخذها آدم فتحمَّلها ، فذلك قوله : { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، الأمانة : الفرائض ، عرضها الله على السموات والأرض والجبال ، إن أدوها أثابهم . وإن ضيعوها عذبهم{[24090]} ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيمًا لدين الله ألا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها ، وهو{[24091]} قوله : { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } يعني : غرًا بأمر الله .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن أبي بشر{[24092]} ، عن سعيد بن جبير ، عن{[24093]} ابن عباس أنه قال في هذه الآية : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } قال : عرضت على آدم فقال : خذها بما فيها ، فإن أطعت غَفَرت لك ، وإن عَصَيت عذبتك . قال : قبلت ، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم ، حتى أصاب الخطيئة .

وقد روى الضحاك ، عن ابن عباس ، قريبا من هذا . وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه ، والله أعلم . وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والحسن البصري ، وغير واحد :

[ ألا ]{[24094]} إن الأمانة هي الفرائض .

وقال آخرون : هي الطاعة .

وقال الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق [ قال ]{[24095]} : قال أبي بن كعب : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها .

وقال قتادة : الأمانة : الدين والفرائض والحدود .

وقال بعضهم : الغسل من الجنابة .

وقال مالك ، عن زيد بن أسلم قال : الأمانة ثلاثة : الصلاة ، والصوم ، والاغتسال من الجنابة .

وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها ، بل هي{[24096]} متفقة وراجعة إلى أنها التكليف ، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها ، وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عُوقِبَ ، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه ، إلا مَنْ وفق اللَّهُ ، وبالله المستعان .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة [ البصري ]{[24097]} ، حدثنا حماد بن واقد - يعني : أبا عمر الصفار - سمعت أبا معمر{[24098]} - يعني : عون بن معمر - يحدث عن الحسن - يعني : البصري{[24099]} - أنه تلا هذه الآية : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ } قال : عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم ، وحملة العرش العظيم ، فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جُزِيت ، وإن أسأت عوقبت . قالت : لا . ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد ، التي شدت بالأوتاد ، وذللت بالمهاد ، قال : فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . قالت : لا . ثم عرضها على الجبال الشم {[24100]} الشوامخ الصعاب الصلاب ، قال : قيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . قالت : لا .

وقال مقاتل بن حيان : إن الله حين خلق خلقه ، جمع بين الإنس والجن ، والسموات والأرض والجبال ، فبدأ بالسموات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة ، فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة ، ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة . . . ؟ فقلن : يا رب ، إنا لا نستطيع هذا الأمر ، وليست بنا قوة ، ولكنا لك مطيعين . ثم عرض الأمانة على الأرضين ، فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني ، وأعطيكن الفضل والكرامة{[24101]} ؟ فقلن : لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق ، ولكنا لك سامعين مطيعين ، لا نعصيك في شيء تأمرنا به . ثم قرب آدم فقال له : أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها ؟ فقال عند ذلك آدم : ما لي عندك ؟ قال : يا آدم ، إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة ، فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة . وإن عصيت ولم ترْعَها حق رعايتها وأسأت ، فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار . قال : رضيت [ يا ]{[24102]} رب . وتَحمَّلها{[24103]} ، فقال الله عز وجل : قد حَمَّلْتُكَهَا . فذلك قوله : { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ } . رواه ابن أبي حاتم .

وعن{[24104]} مجاهد أنه قال : عرضها على السموات فقالت : يا رب ، حملتني الكواكب وسكان السماء وما ذكر ، وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة . قال : وعرضها على الأرض فقالت : يا رب ، غرست فيّ الأشجار ، وأجريت فيّ الأنهار وسكان الأرض وما ذكر ، وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة . وقالت الجبال مثل ذلك ، قال الله تعالى : { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } في عاقبة أمره . وهكذا قال ابن جُرَيْج .

وعن ابن أشوع أنه قال : لما عرض الله عليهن حمل الأمانة ، ضَجَجْنَ إلى الله ثلاثة أيام ولياليهن ، وقلن : ربنا . لا طاقة لنا بالعمل ، ولا نريد الثواب .

ثم قال{[24105]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الموصلي ، حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم في هذه الآية : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ } [ الآية ]{[24106]} ، فقال الإنسان : بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى{[24107]} : إني مُعينك عليها ، أي : معينك على عينيك بطبقتين ، فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق . ومعينك على لسانك بطبقتين ، فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق . ومعينك على فرجك بلباس ، فلا تكشفه إلى ما أكره .

ثم روي عن أبي حازم نحو هذا .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله ، عز وجل : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } قال : إن الله عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين ، ويجعل لهن ثوابا وعقابا ، ويستأمنهن على الدين . فقلن : لا نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا . قال{[24108]} : وعرضها الله على آدم فقال : بين أذني وعاتقي . قال ابن زيد : فقال الله تعالى له : أما إذْ تحملت هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه حجابه ، واجعل للسانك بابا وغلقا ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك .

وقال ابن جرير : حدثني سعيد{[24109]} بن عمرو السَّكُوني ، حدثنا بقِيَّة ، حدثنا عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن{[24110]} الحكم بن عمير - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء ، فأرسلوا به ، فمنهم رسول الله ، ومنهم نبي ، ومنهم نبي رسول ، ونزل القرآن وهو كلام الله ، ونزلت العربية والعجمية ، فعلموا أمر القرآن وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع الله شيئا من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم ، إلا بينه لهم . فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح ، ثم الأمانة أول شيء يرفع ويبقى أثرها في جذور{[24111]} قلوب الناس ، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى الكتب{[24112]} ، فعالم يعمل ، وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها ، حتى وصل إليّ وإلى أمتي ، ولا يهلك على الله إلا هالك ، ولا يغفله إلا تارك . فالحذر أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ، فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا{[24113]} » .

هذا حديث غريب جدا ، وله شواهد من وجوه أخرى .

ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا عبد الله بن عبد المجيد الحنفي ، أخبرنا أبو العوام القطان ، حدثنا قتادة ، وأبان بن أبي عياش{[24114]} ، عن خُليَد العَصَري{[24115]} ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - وكان يقول ، وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن - [ وصام رمضان ، وحج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا ]{[24116]} ، وأدى الأمانة " . قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره .

وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحمن العنبري ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد{[24117]} الحنفي ، عن أبي العوام عمران بن دَاور{[24118]} القطان ، به{[24119]} .

وقال ابن جرير{[24120]} أيضا : حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن عبد الله{[24121]} بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها - أو قال : يكفر كل شيء - إلا الأمانة ، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أدِّ أمانتك . فيقول : أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له : أدِّ أمانتك . فيقول : أنى يا رب ، وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له : أدِّ أمانتك . فيقول : أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول : اذهبوا به إلى أمه الهاوية . فيذهب به إلى الهاوية ، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها ، فيجدها هنالك كهيئتها ، فيحملها فيضعها على عاتقه ، فيصعد بها إلى شفير جهنم ، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلَّت فهوى في أثرها أبد الآبدين " . وقال : والأمانة في الصوم ، والأمانة في الوضوء ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع . فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال : صدق .

قال شريك : وحدثنا عياش{[24122]} العامري ، عن زاذان ، عن{[24123]} عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . ولم يذكر : " الأمانة في الصلاة وفي كل شيء " {[24124]} . إسناده جيد ، ولم يخرجوه .

ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد{[24125]} :

حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا " أن الأمانة نزلت في جذر{[24126]} قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة " . ثم حدثنا عن رفع الأمانة ، فقال : " ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر [ الوكت ، فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر ]{[24127]} المجل كجمر دحرجته [ على رجلك ، تراه مُنتبرا وليس فيه شيء " . قال : ثم أخذ حصى{[24128]} فدحرجه ]{[24129]} على رجله ، قال : " فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، حتى يقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ، حتى يقال للرجل : ما أجلده وأظرفه وأعقله . وما في قلبه حبة من خردل من إيمان . ولقد أتى عَلَيَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت ، إن كان مسلما ليردنه على دينه ، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه عليّ ساعيه ، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا " .

وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، به{[24130]} .

وقال{[24131]} الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن الحارث بن يزيد{[24132]} الحضرمي ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أربع إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حِفْظ أمانة ، وصِدْق حديث ، وحُسْن خليقة ، وعِفَّة طُعمة " .

هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص {[24133]} .

وقد قال الطبراني في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب : حدثني يحيى بن أيوب العلاف المصري{[24134]} ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن ابن حُجَيرة ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة طعمة " . فزاد في الإسناد : " ابن حُجَيرة " ، وجعله من{[24135]} مسند ابن عمر{[24136]} .

وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة ، قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد{[24137]} : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن خُنَاس بن سُحَيم - أو قال : جَبَلَة بن سُحَيم - قال : أقبلت مع زياد بن حُدَيْر من الجابية فقلتُ في كلامي : لا والأمانة . فجعل زياد يبكي ويبكي ، فظننت أني أتيتُ أمرا عظيما ، فقلت له : أكان يكره هذا ؟ قال : نعم . كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي{[24138]} .

وقد ورد في ذلك حديث مرفوع ، قال{[24139]} أبو داود : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف بالأمانة فليس منا " ، تفرد به أبو داود ، رحمه الله{[24140]} .


[24088]:- في ت: "يطقها" وفي أ: "يطعنها".
[24089]:- في أ: "يطعنها".
[24090]:- في ت ، أ: "عذبهم الله".
[24091]:- في أ: "وهي".
[24092]:- في أ: "حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر".
[24093]:- في ت: "وروى ابن جرير بسنده إلى".
[24094]:- زيادة من أ.
[24095]:- زيادة من أ.
[24096]:- في ت: "وهي".
[24097]:- زيادة من أ.
[24098]:- في أ: "أبا عمر".
[24099]:- في ت: "وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري".
[24100]:- في أ: "الصم".
[24101]:- في أ: "والكرامة في الدنيا"
[24102]:- زيادة من أ.
[24103]:- في أ: "وتحملتها".
[24104]:- في ت: "وقال".
[24105]:- في ت: "ثم روى".
[24106]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[24107]:- في ت ، ف: "عز وجل".
[24108]:- في أ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[24109]:- في أ: "سعد".
[24110]:- في ت: "وروى ابن جرير بإسناده إلى"
[24111]:- في أ: "صدور".
[24112]:- في ت: "الكسب".
[24113]:- تفسير الطبري (22/39) وله شاهد من حديث حذيفة أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6497) وسيأتي.
[24114]:- في أ: "أبي عباس".
[24115]:- في ت: "ثم روى ابن جرير بإسناده".
[24116]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، وتفسير الطبري.
[24117]:- في أ: "عبد الحميد".
[24118]:- في أ: "داود".
[24119]:- تفسير الطبري (22/39) وسنن أبي داود برقم (429).
[24120]:- في ت: "وروى ابن أبي جرير".
[24121]:- في أ: "عبيد الله".
[24122]:- في أ: "عباس"
[24123]:- في ت: "وعن".
[24124]:- تفسير الطبري (22/40).
[24125]:- في ت: "الذي في الصحيحين".
[24126]:- في أ: "صدر".
[24127]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
[24128]:- في ت ، أ: "حصاة".
[24129]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
[24130]:- المسند (5/283) وصحيح البخاري برقم (6497) وصحيح مسلم برقم (143).
[24131]:- في ت: "وروى".
[24132]:- في أ: "زيد".
[24133]:- المسند (2/177).
[24134]:- في ف ، أ: "المقري".
[24135]:- في أ: "في".
[24136]:- مجمع الزوائد (4/145) وقال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني في الكبير ، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
[24137]:- في ت: "فروى ابن المبارك بإسناد".
[24138]:- الزهد برقم (213).
[24139]:- في ت: "رواه".
[24140]:- سنن أبي داود برقم (3253) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1318) "موارد" من طريق وكيع عن الوليد بن ثعلبة ، به.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } .

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إن الله عرض طاعته وفرائضه على السموات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت ، وإن ضيعت عوقبت ، فأبت حملها شفقا منها أن لا تقوم بالواجب عليها ، وحملها آدم إنّهُ كانَ ظَلُوما لنفسه جَهُولاً بالذي فيه الحظّ له . ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها قال : الأمانة : الفرائض التي افترضها الله على العباد .

قال : ثنا هشيم ، عن العوّام ، عن الضحاك بن مزاحم ، عن ابن عباس ، في قوله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها قال : الأمانة : الفرائض التي افترضها الله على عباده .

قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب وجويبر ، كلاهما عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ . . . إلى قوله جَهُولاً قال : الأمانة : الفرائض . قال جويبر في حديثه : فلما عرضت على آدم ، قال : أي ربّ وما الأمانة ؟ قال : قيل : إن أدّيتها جزيت ، وإن ضيعتها عوقبت ، قال : أي ربّ حملتها بما فيها ، قال : فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية ، فأُخرج منها .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الاَية إنّا عَرَضْنا الأَمانَةَ قال : عرضت على آدم ، فقال : خذها بما فيها ، فإن أطعت غفرت لك ، وإن عصيت عذّبتك ، قال : قد قبلت ، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ إن أدّوها أثابهم ، وإن ضيّعوها عذّبهم ، فكرهوا ذلك ، وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم ، فقبلها بما فيها ، وهو قوله : وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً غرّا بأمر الله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ : الطاعة عرضها عليها قبل أن يعرضها على آدم ، فلم تطقها ، فقال لاَدم : يا آدم إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال ، فلم تطقها ، فهل أنت آخذها بما فيها ؟ فقال : يا ربّ : وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جُزِيت ، وإن أسأت عُوقبت ، فأخذها آدم فتحملها ، فذلك قوله : وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قال آدم : قيل له : خذها بحقها ، قال : وما حقها ؟ قيل : إن أحسنت جُزيت ، وإن أسأت عُوقبت ، فما لبث ما بين الظهر والعصر حتى أخرج منها .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فلم يطقن حمَلها ، فهل أنت يا آدم آخذها بما فيها قال آدم : وما فيها يا ربّ ؟ قال : إن أحسنت جُزِيت ، وإن أسأت عوقبت ، فقال : تحمّلتُها ، فقال الله تبارك وتعالى : قد حملتكها فما مكث آدم إلا مقدار ما بين الأولى إلى العصر حتى أخرجه إبليس لعنه الله من الجنة والأمانة : الطاعة .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية ، قال : ثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمرو ، وكان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ الأمانَةَ والوَفاءَ نَزَلا على ابْنِ آدَمَ مَعَ الأنْبِياءِ ، فأُرْسِلُوا بِهِ ، فَمِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ ، ومِنْهُمْ نَبِيّ ، وَمِنْهُمْ نَبِيّ رَسُولٌ . نزل القرآن وهو كلام الله ، ونزلت العربية والعجمية ، فعلموا أمر القرآن ، وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع الله شيئا من أمره مما يأتون ومما يجتنبون ، وهي الحجج عليهم ، إلا بَيّنَةُ لهم ، فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن من القبيح . ثم الأمانة أوّل شيء يُرْفع ، ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس ، ثم يُرْفع الوفاء والعهد والذمم ، وتبقى الكتب ، فعالم يعمل ، وجاهل يعرفها وينكرها حتى وصل إليّ وإلى أمتي ، فلا يَهْلِك على الله إلا هالك ، ولا يُغْفِله إلا تارك ، والحذرَ أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ، وإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا » .

حدثني محمد بن خلف العَسْقلاني ، قال : حدثنا عبيد بن عبد المجيد الحنفيّ ، قال : حدثنا العوّام العطار ، قال : حدثنا قتادة ، وأبان بن أبي عياش ، عن خَلِيد العَصْري ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خَمْسٌ مَنْ جاءَ بِهِنّ يَوْمَ القِيامَةِ مَعَ إيمانٍ دَخَلَ الجَنّةَ : مَن حافَظَ على الصّلَوَاتِ الخَمْسِ ، على وُضُوئهِنّ وَرُكُوعِهِنّ وَسُجُودِهِنّ وَمَوَاقِيتِهِنّ ، وأعْطَى الزّكاةَ مِنْ مالِهِ طَيّبَ النّفْسِ بِها » وكانَ يَقُولُ : «وَايْمُ اللّهِ لا يفْعَلُ ذلكَ إلاّ مُؤْمِنٌ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، وَحَجّ البَيْتَ إنِ اسْتَطاعَ إلى ذِلك سَبِيلاً ، وأدّى الأمانَةَ » قالوا : يا أبا الدرداء : وما الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها .

حدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها قال : إن الله عرض عليهنّ الأمانة أن يفترض عليهنّ الدين ، ويجعل لهنّ ثوابا وعقابا ، ويستأمنهنّ على الدين ، فقلن : لا ، نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَعَرَضَها اللّهُ على آدَمَ ، فقالَ : بين أُذُنِي وَعاتِقي » قال ابن زيد ، فقال الله له : أما إذ تحملت هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحلّ لك ، فأرْخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك بابا وغلقا ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسا ، فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ يعني به : الدين والفرائض والحدود فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها قيل لهنّ : احملنها تؤَدّين حقها ، فقلن : لا نطيق ذلك وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قيل له : أتحملها ؟ قال : نعم ، قيل : أتؤدّي حقها ؟ قال : نعم ، قال الله : إنه كان ظلوما جهولاً عن حقها .

وقال آخرون : بل عنى بالأمانة في هذا الموضع : أمانات الناس . ذكر من قال ذلك :

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «القَتْلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُكَفّرُ الذّنُوبَ كُلّها أو قال : يُكَفّرُ كُلّ شَيْءٍ إلاّ الأمانَةَ يُؤْتَى بصَاحِبِ الأمانَةِ ، فَيُقالُ لَهُ : أدّ أمانَتَكَ ، فَيَقُولُ : أي ربّ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدّنْيا ، ثَلاثا فَيُقالُ : اذْهَبُوا بِهِ إلى الهَاوِيَةِ فَيُذْهَبُ بِهِ إلَيْها ، فَيَهْوِي فِيها حتى يَنْتَهِي إلى قَعْرِها ، فَيَجِدُها هُناكَ كَهِيْئَتِها ، فَيَحْملُها ، فَيَضَعَها على عاتِقِهِ ، فَيَصْعَدُ بِها إلى شَفِيرِ جَهَنّمَ ، حتى إذَا رأى أنّهُ قَدْ خَرَجَ زَلّتْ ، فَهَوَى فِي أثَرِها أبَدَ الاَبِدِينَ » . قالوا : والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ، والأمانة في الحديث وأشدّ ذلك الودائع ، فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال : صدق .

قال : شريك ، وثني عياش العامري عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ولم يذكر الأمانة في الصلاة ، وفي كلّ شيء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن ابن أبي هلال ، عن أبي حازم ، قال : إن الله عرض الأمانة على سماء الدنيا ، فأبت ثم التي تليها ، حتى فرغ منها ، ثم الأرضين ثم الجبال ، ثم عرضها على آدم ، فقال : نعم ، بين أذني وعاتقي . فثلاث آمرك بهنّ ، فإنهنّ لك عون : إني جعلت لك لسانا بين لحسيين ، فكفه عن كلّ شيء نهيتك عنه وجعلت لك فرجا وواريته ، فلا تكشفه إلى ما حرّمت عليك .

وقال آخرون : بل ذلك إنما عنى به ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده ، وخيانة قابيل أباه في قتله أخاه . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : كان لا يولد لاَدم مولود إلا وُلد معه جارية ، فكان يزوّج غلامَ هذا البطن جارية هذا البطن الاَخر ، ويزوّج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الاَخر ، حتى وُلد له اثنان ، يقال لهما قابيل ، وهابيل وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل ، وإن هابيل طلب أن يَنْكِح أخت قابيل ، فأبى عليه وقال : هي أختي وُلدتْ معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحقّ أن أتزوّجها ، فأمره أبوه أن يزوّجها هابيل فأبى ، وإنهما قرّبا قربانا إلى الله أيهما أحقّ بالجارية ، وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما ، أي بمكة ينظر إليها ، قال الله لاَدم : يا آدم هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ؟ قال : اللهمّ لا ، قال : إن لي بيتا بمكة فأته ، فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ، فأبت وقال للأرض ، فأبت فقال للجبال ، فأبت فقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرّك فلما انطلق آدم وقرّبا قربانا ، وكان قابيل يفخر عليه فيقول : أنا أحقّ بها منك ، هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصيّ والدي فلما قرّبا ، قرّب هابيل جَذَعة سمينة ، وقرّب هابيل حُزْمة سُنْبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ، ففركها فأكلها ، فنزلت النار فأكلت قُربان هابيل ، وتركت قُربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي ، فقال هابيل إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إليّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أنا بِباسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنّي أخافُ اللّهَ رَبّ العالَمِينَ . . . إلى قوله : فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ فطلبه ليقتله ، فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال وأتاه يوما من الأيام ، وهو يرْعَى غنمه في جبل ، وهو نائم ، فرفع صخرة ، فشدخ بها رأسه ، فمات ، وتركه بالعَراء ، ولا يعلم كيف يُدْفَن ، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ، ثم حثا عليه فلما رآه قال : يا وَيُلَتا أعَجَزْتَ أنْ أكونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أخي ، فهو قول الله تبارك وتعالى : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوأَةَ أخِيهِ فرجع آدم فوجد ابنه قد قَتل أخاه ، فذلك حين يقول : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ . . . إلى آخر الاَية .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا : إنه عُنِي بالأمانة في هذا الموضع : جميع معاني الأمانات في الدين ، وأمانات الناس ، وذلك أن الله لم يخصّ بقوله : عَرَضنا الأمانَةَ بعضَ معاني الأمانات لما وصفنا .

وبنحو قولنا قال أهل التأويل في معنى قول الله : إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً يعني قابيل حين حمل أمانة آدم لم يحفظ له أهله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيريّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك ، في قوله : وَحَملَها الإنسان قال آدم إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قال : ظلوما لنفسه ، جهولاً فيما احتمل فيما بينه وبين ربه .

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً غَرّ بأمر الله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قال : ظلوما لها ، يعني للأمانة ، جهولاً عن حقها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

اختلف الناس في { الأمانة } فقال ابن مسعود هي أمانات المال كالودائع ونحوها ، وروي عنه أنه في كل الفرائض وأشدها أمانة المال ، وذهبت فرقة ، هي الجمهور ، إلى أنه كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا ، فالشرع كله أمانة ، قال أبيّ بن كعب من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها ، وقال أبو الدرداء غسل الجنابة أمانة ، ومعنى الآية { إنا عرضنا } على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي وتقتضي الثواب إن أحسنت والعقاب إن أساءت فأبت هذه المخلوقات وأشفقت ، ويحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها ، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة ، ويروى أنها قالت «رب ذرني مسخرة لما شئت أتيت طائعة فيه ولا تكلني إلى نظري وعملي ولا أريد ثواباً » ، وحمل الإنسان الأمانة أي التزم القيام بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه ، وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير ، وقال الحسن { حملها } معناه خان فيها والآية في الكافر والمنافق .

قال الفقيه الإمام القاضي : والعصاة على قدرهم ، وقال ابن عباس والضحاك وغيره { الإنسان } آدم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة ، وروي أن الله تعالى قال له : «يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فتحملها أنت بما فيها . قال : وما فيها ؟ قال : إن أحسنت أجرت وإن أسأت عوقبت » ، قال نعم قد حملتها ، قال ابن عباس فما بقي له قدر ما بين الأولى إلى العصر حتى عصى ربه ، وقال ابن عباس وابن مسعود { الإنسان } ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه وكان قد تحمل الأمانة لأبيه أن يحفظ الأهل بعده ، وكان آدم سافر إلى مكة في حديث طويل ذكره الطبري وغيره ، وقال بعضهم { الإنسان } النوع كله وهذا حسن مع عموم الأمانة ، وقال الزجاج معنى الآية { إنا عرضنا الأمانة } في نواهينا وأوامرنا على هذه المخلوقات فقمن بأمرنا وأطعن فيما كلفناها وتأبين من حمل المذمة في معصيتنا ، وحمل الإنسان المذمة فيما كلفناه من أوامرنا وشرعنا .

قال الفقيه الإمام القاضي : و { الإنسان } على تأويله الكافر والعاصي ، وتستقيم هذه الآية مع قوله تعالى : { أتينا طائعين }{[9589]} [ فصلت : 11 ] فعلى التأويل الأول الذي حكيناه عن الجمهور يكون قوله تعالى : { أتينا طائعين } [ فصت : 11 ] إجابة لأمر أمرت به ، وتكون هذه الآية إباية وإشفاقاً من أمر عرض عليها وخيرت فيه ، وروي أن الله تعالى عرض الأمانة على هذه المخلوقات فأبت ، فلما عرضها الله تعالى على آدم قال : أنا أحملها بين أذني وعاتقي ، فقال الله تعالى له : إني سأعينك قد جعلت لبصرك حجاباً فأغلقه عما لا يحل لك ولفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك .

قال الفقيه الإمام القاضي : وفي هذا المعنى أشياء تركتها اختصاراً لعدم صحتها ، وقال قوم : إن الآية من المجاز ، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال رأينا أنها لا تطيقها وأنها لو تكلمت لأبتها وأشفقت فعبر عن هذا المعنى بقوله { إنا عرضنا } الآية ، وهذا كما تقول عرضت الحمل على البعير فأباه وأنت تريد بذلك قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه .


[9589]:من الآية(11) من سورة (فصلت).