في هذه السورة دعوة إلى القراءة والتعلم ، وأن من قدر على خلق الإنسان من أصل ضعيف قادر على أن يعلمه الكتبة ، يضبط بها العلوم ويتم بها التفاهم ، ويعلمه ما لم يعلم فهو سبحانه مفيض العلم على الإنسان ، وتنبه السورة إلى أن الثراء والقوة قد يدفعان النفوس إلى مجاوزة حدود الله ، ولكن مصير الكل إلى الله في النهاية ، وتوجه الحديث لكل من يصلح للخطاب منذرة الطغاة الصادين عن الخير . مهددة لهم بأخذهم بالنواصي إلى النار ، فلا تنفعهم الأنصار ، وتختم السورة بدعوة الممتثلين إلى مخالفة المعاندين المكذبين والتقرب بالطاعة إلى رب العالمين .
1- اقرأ - يا محمد - ما يوحى إليك مفتتحاً باسم ربك الذي له - وحده - القدرة على الخلق .
{ اقرأ باسم ربك الذي خلق } أكثر المفسرين : على أن هذه السورة أول سورة نزلت من القرآن ، وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله : { ما لم يعلم } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى جاء الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقرأ ( اقرأ ) فقال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى أرسلني ، فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } . فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة : مالي ؟ وأخبرها الخبر ، وقال : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلا ، والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرأً تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أومخرجي هم ؟ قال : نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم يلبث ورقة أن توفي ، وفتر الوحي " . وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث في موضع آخر من كتابه ، عن يحيى بن بكير بهذا الإسناد ، وقال : حدثني عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر قال الزهري ، فأخبرني عروة عن عائشة وذكر الحديث ، قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } حتى بلغ { ما لم يعلم } وزاد في آخره فقال : وفتر الوحي فترةً حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً حتى يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقاً ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك " .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد الوراق أنبأنا مكي بن عبدان ، أنبأنا عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا سفيان عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري عن عروة عن " عائشة قالت : أول سورة نزلت قوله عز وجل : { اقرأ باسم ربك } " .
قوله عز وجل : { اقرأ باسم ربك } قال أبو عبيدة : مجازه : اقرأ اسم ربك ، يعني أن الباء زائدة ، والمعنى : اذكر اسمه ، أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تأديباً . { الذي خلق } قال الكلبي : يعني الخلائق .
{ 1 - 19 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }
هذه السورة أول السور القرآنية نزولًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة ، إذ كان لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بالرسالة ، وأمره أن يقرأ ، فامتنع ، وقال : { ما أنا بقارئ } فلم يزل به حتى قرأ . فأنزل الله عليه : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } عموم الخلق .
1- هذه السورة الكريمة تسمى سورة " العلق " ، وتسمى سورة " اقرأ " وعدد آياتها تسع عشرة آية في المصحف الكوفي ، وفي الشامي ثماني عشرة آية ، وفي الحجازي عشرون آية .
وصدر هذه السورة الكريمة يعتبر أول ما نزل من قرآن على النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن أغراضها : التنويه بشأن القراءة والكتابة ، والعلم والتعلم ، والتهديد لكل من يقف في وجه دعوة الإسلام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه –عز وجل- وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله –تعالى- مطلع على ما يبيته له أعداؤه من مكر وحقد ، وأنه –سبحانه- قامعهم وناصره عليهم ، وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يمضي في طريقه ، دون أن يلتفت إلى مكرهم أو سفاهاتهم .
وقد أجمع المحققون من العلماء على أن هذه الآيات الكريمة أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من قرآن على الإطلاق ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم . فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث - أى : فيتعبد - فيه الليالى ذوات العدد ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لذلك ، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء . فجاءه الملك فقال له : { اقرأ } قال : ما أنا بقارئ ، قال صلى الله عليه وسلم فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : { اقرأ } فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : { اقرأ } فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ . خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ . . } .
وما ورد من أحاديث تفيد أن أول سورة نزلت هى " سورة الفاتحة " فمحمول على أن أول سورة نزلت كاملة هى سورة الفاتحة .
كذلك ما ورد من أحاديث فى أن أول ما نزل سورة المدثر ، محمول على أن أول ما نزل بعد فترة الوحي . أما صدر سورة العلق فكان نزوله قبل ذلك .
قال الآلوسي - بعد أن ساق الأحاديث التى وردت فى ذلك - : " وبالجملة فالصحيح - كما قال بعض وهو الذى أختاره - أن صدر هذه السورة الكريمة هو أول ما نزل من القرآن على الإِطلاق . وفى شرح مسلم : الصواب أن أول ما نزل " اقرأ " أى : مطلقاً ، وأول ما نزل بعد فترة الوحى " يأيها المدثر " ، وأما قول من قال من المفسرين : أول ما نزل الفاتحة ، فبطلانه أظهر من أن يذكر " .
والذى نرجحه ونميل إليه أن أول قرآن على الإطلاق هو صدر هذه السورة الكريمة إلى قوله { مَا لَمْ يَعْلَمْ } ، لورود الأحاديث الصحيحة بذلك . أما بقيتها فكان نزوله متأخراً .
قال الأستاذ الإِمام : " أما بقية السورة فهو متأخر النزول قطعاً ، وما فيه من ذكر أحوال المكذبين يدل على أنه إنما نزل بعد شيوع خبر البعثة ، وظهور أمر النبوة ، وتحرش قريش لإيذائه صلى الله عليه وسلم " .
وقد افتتحت السورة الكريمة بطلب القراءة من النبى صلى الله عليه وسلم مع أنه كان أميا لتهيئة ذهنه لما سيلقى عليه صلى الله عليه وسلم من وحى . . فقال - سبحانه - : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ } . أى : اقرأ - أيها الرسول الكريم - ما سنوحيه إليك من القرآن الكريم- ولتكن قراءتك ملتبسة باسم ربك ، وبقدرته وإرادته ، لا باسم غيره ، فهو - سبحانه - الذى خلق الأشياء جميعها ، والذى لا يعجزه أن يجعلك قارئاً ، بعد كونك لم تكن كذلك .
وقال - سبحانه - ذاته بقوله : { الذي خَلَقَ } للتذكير بهذه النعمة ، لأن الخلق هو أعظم النعم ، وعليه تترتب جميعها .
سورة العلق مكية وآيتها تسع عشرة
مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق . والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :
" أول ما بدئ به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء . وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود إلى ذلك . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها . حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة ، ثم قال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . فرجع بها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال " زملوني زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال : يا خديجة مالي ? وأخبرها الخبر . وقال : " قد خشيت على نفسي " فقالت له : كلا . أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا . إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها . وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية . كان يكتب الكتاب العربي ، وكتب العبرانية من الإنجيل - ما شاء الله أن يكتب - وكان شيخا كبيرا قد عمي . فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ، ما ترى ? فأخبره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بما رأى . فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى . ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " أو مخرجي هم ? " فقال ورقة : نعم . لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي . . . الخ " . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري . .
وروى الطبري - بإسناده - عن عبد الله بن الزبير . قال :
" قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : فجاءني - وأنا نائم - بنمط من ديباج فيه كتاب . فقال : اقرأ . فقلت : ما اقرأ . فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ماذا أقرأ ? وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إلي بمثل ما صنع بي . قال : اقرأ باسم ربك الذي خلق . . . إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم قال : فقرأته . ثم انتهى ، ثم انصرف عني . وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتابا . قال : ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون . كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت : إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون ! لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن ! قال : فخرجت أريد ذلك . حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد . أنت رسول الله وأنا جبريل . قال فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر إليه ، وشغلني ذلك عما أردت ، فما أتقدم وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في أفاق السماء ، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ، ولا أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني . . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي . . . " . .
وقد رواه ابن إسحاق مطولا عن وهب بن كيسان عن عبيد أيضا . .
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه !
إنه حادث ضخم . ضخم جدا . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا !
إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل .
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة ?
حقيقته أن الله جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرم هذه الخلقية باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة .
وهذه حقيقة كبيرة . كبيرة إلى غير حد . تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان - قدر طاقته - حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية . ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية . ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني ؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور ؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال . . وهو يتصور كلمات الله ، تتجاوب بها جنبات الوجود كله ، منزلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة !
دلالته - في جانب الله سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع ، والرحمة السابغة ، الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة ، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .
ودلالته - في جانب الإنسان - أن الله - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها ، ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا . . هذه . . أن يذكره الله ، ويلتفت إليه ، ويصله به ، ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال .
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى . بدأت في تحويل خط التاريخ ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني . . منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه . . إنها ليست الأرض وليس الهوى . . إنما هي السماء والوحي الإلهي .
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة . . في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة . عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم . كبيره وصغيره . يحسون ويتحركون تحت عين الله . ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة . تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب . . وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك !
ولقد كانت فترة عجيبة حقا . فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية ، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى . فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها . وأحسوها . وشهدوا بدأها ونهايتها . وذاقوا حلاوة هذا الاتصال . وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق . ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا . . وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض . مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر ، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم ! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء . بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي بين الجاهلية والإسلام . بين البشرية والربانية ، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام !
وكانوا يعرفون مذاقها . ويدركون حلاوتها . ويشعرون بقيمتها ، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انطلق بنا إلى أم أيمن - رضي الله عنها - نزورها كما كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يزورها . فلما أتيا إليها بكت . فقالا لها : ما يبكيك ? أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قالت : بلى ، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء . فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها . . . [ أخرجه مسلم ] . . .
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض ، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط ، وكما لم يتحول من بعد أيضا . وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق . وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان ، ولا تطمسها الأحداث . وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة ، ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا ، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية . ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض ! وتبينت خطوطه ومعالمه . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) . . لا غموض ولا إبهام . إنما هو الضلال عن علم ، والانحراف عن عمد ، والالتواء عن قصد !
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة . الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد . والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل . والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به ، وسجله الضمير الإنساني . وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها . وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان . . .
ذلك شأن المقطع الأول من السورة . فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد . فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة ، بعد تكليف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إبلاغ الدعوة ، والجهر بالعبادة ، وقيام المشركين بالمعارضة . وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة : ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ? ) . . . الخ
ولكن هناك تناسقا كاملا بين أجزاء السورة ، وتسلسلا في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم . يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة . .
( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . .
إنها السورة الأولى من هذا القرآن ، فهي تبدأ باسم الله . وتوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أول ما توجه ، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى ، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها . . توجهه إلى أن يقرأ باسم الله : ( اقرأ باسم ربك ) . .
وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء : ( الذي خلق ) .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح . ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد{[30233]} لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ " . قال : " فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره{[30234]} حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت علي " . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل{[30235]} ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى{[30236]} ليتني{[30237]} فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجيَّ هُم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به{[30238]} إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا . [ ثم ] {[30239]} لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رؤوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا . فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري{[30240]} وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة .
فأول شيء [ نزل ]{[30241]} من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات{[30242]} وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم . وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة{[30243]} . وفيه أيضا : " من عمل بما علم رزقه{[30244]} الله علم ما لم يكن [ يعلم ]{[30245]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ * أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ * إِنّ إِلَىَ رَبّكَ الرّجْعَىَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : اقْرأْ باسِمِ رَبّكَ محمدا صلى الله عليه وسلم يقول : اقرأ يا محمد بذكر ربك الّذِي خَلَقَ ، ثم بين الذي خلق فقال : خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَقٍ يعني : من الدم ، وقال : من علق والمراد به من علقة ، لأنه ذهب إلى الجمع ، كما يقال : شجرة وشجر ، وقصَبة وقَصَب ، وكذلك علقة وعَلَق . وإنما قال : من علق والإنسان في لفظ واحد ، لأنه في معنى جمع ، وإن كان في لفظ واحد ، فلذلك قيل : من عَلَق .
تفسير سورة القلم{[1]}
بسم الله الرحمن الرحيم سورة العلق وهي مكية بإجماع ، وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى ، نزل صدرها في غار حراء حسب ما ثبت في صحيح البخاري وغيره ، وروي من طريق جابر بن عبد الله أن أول ما نزل { يا أيها المدثر }{[2]} وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل{[3]} : إن أول ما نزل فاتحة الكتاب . والقول الأول أصح ، والترتيب في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك
في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها ، قال : أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه التحنث{[11900]} في غار حراء ، فكان يخلو فيه فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء ، فقال له : { اقرأ } ، فقال : ما أنا بقارىء ، قال : فأخذني فغطني{[11901]} ثم كذلك ثلاث مرات ، فقال له في الثالثة : { اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق } إلى قوله { ما لم يعلم } ، قال : فرجع بها رسول ترجف بوادره{[11902]} الحديث بطوله ، ومعنى هذه الآية : { اقرأ } هذا القرآن { باسم ربك } ، أي ابدأ فعلك بذكر اسم ربك ، كما قال : { اركبوا فيها بسم الله }{[11903]} [ هود : 41 ] هذا وجه . ووجه آخر في كتاب الثعلبي أن المعنى : { اقرأ } في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ، ووجه آخر أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو { باسم ربك الذي خلق } ، كأنه قال له : { اقرأ } هذا اللفظ ، ولما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أرباباً جاءه بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها ، وهي قوله تعالى : { الذي خلق } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{ اقرأ باسم ربك الذي خلق } أكثر المفسرين : على أن هذه السورة أول سورة نزلت من القرآن ، وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله : { ما لم يعلم } . ... أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى جاء الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقرأ ( اقرأ ) فقال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى أرسلني ، فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } . فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة : مالي ؟ وأخبرها الخبر ، وقال : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلا ، والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرأً تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أومخرجي هم ؟ قال : نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم يلبث ورقة أن توفي ، وفتر الوحي " .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سورة القلم ... وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى ، نزل صدرها في غار حراء حسب ما ثبت في صحيح البخاري وغيره ...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وتسمى : سورة القلم ، وسورة اقرأ ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق . والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :
" أول ما بدئ به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء . وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود إلى ذلك . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها . حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة ، ثم قال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . فرجع بها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال " زملوني زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال : يا خديجة مالي ? وأخبرها الخبر . وقال : " قد خشيت على نفسي " فقالت له : كلا . أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا . إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها . وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية . كان يكتب الكتاب العربي ، وكتب العبرانية من الإنجيل - ما شاء الله أن يكتب - وكان شيخا كبيرا قد عمي . فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ، ما ترى ? فأخبره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بما رأى . فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى . ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " أو مخرجي هم ? " فقال ورقة : نعم . لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي . . . الخ " . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ...
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه !
إنه حادث ضخم . ضخم جدا . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا !
إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل .
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة ?
حقيقته أن الله جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرم هذه الخلقية باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة .
وهذه حقيقة كبيرة . كبيرة إلى غير حد . تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان - قدر طاقته - حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية . ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية . ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني ؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور ؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال . . وهو يتصور كلمات الله ، تتجاوب بها جنبات الوجود كله ، منزلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة !
دلالته - في جانب الله سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع ، والرحمة السابغة ، الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة ، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .
ودلالته - في جانب الإنسان - أن الله - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها ، ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا . . هذه . . أن يذكره الله ، ويلتفت إليه ، ويصله به ، ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال .
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى . بدأت في تحويل خط التاريخ ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني . . منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه . . إنها ليست الأرض وليس الهوى . . إنما هي السماء والوحي الإلهي .
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة . . في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة . عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم . كبيره وصغيره . يحسون ويتحركون تحت عين الله . ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة . تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب . . وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم ، ويفصل في مشكلاتهم ، ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك !
ولقد كانت فترة عجيبة حقا . فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية ، التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى . فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها . وأحسوها . وشهدوا بدأها ونهايتها . وذاقوا حلاوة هذا الاتصال . وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق . ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا . . وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض . مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر ، ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم ! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء . بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي بين الجاهلية والإسلام . بين البشرية والربانية ، وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام !
وكانوا يعرفون مذاقها . ويدركون حلاوتها . ويشعرون بقيمتها ، ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الرفيق الأعلى ، وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - بعد وفاة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انطلق بنا إلى أم أيمن - رضي الله عنها - نزورها كما كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يزورها . فلما أتيا إليها بكت . فقالا لها : ما يبكيك ? أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قالت : بلى ، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء . فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها . . . [ أخرجه مسلم ] . . .
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض ، واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط ، وكما لم يتحول من بعد أيضا . وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق . وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان ، ولا تطمسها الأحداث . وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة ، ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا ، مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية . ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض ! وتبينت خطوطه ومعالمه . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) . . لا غموض ولا إبهام . إنما هو الضلال عن علم ، والانحراف عن عمد ، والالتواء عن قصد !
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة . الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد . والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل . والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به ، وسجله الضمير الإنساني . وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها . وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان . . .
ذلك شأن المقطع الأول من السورة . فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد . فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة ، بعد تكليف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إبلاغ الدعوة ، والجهر بالعبادة ، وقيام المشركين بالمعارضة . وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة : ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ? ) . . . الخ
ولكن هناك تناسقا كاملا بين أجزاء السورة ، وتسلسلا في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم . يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اشتهرت تسمية هذه السورة في عهد الصحابة والتابعين باسم سورة اقرأ باسم ربك فأخبرت عن السورة ب "اقرأ باسم ربك" . وروي ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي رجاء العطاردي ومجاهد والزهري ، وبذلك عنونها الترمذي .
وسميت في المصاحف ومعظم التفاسير سورة العلق لوقوع لفظ { العلق } في أوائلها ، وكذلك سميت في بعض كتب التفسير .
وعنونها البخاري { اقرأ باسم ربك الذي خلق } .
وتسمى سورة اقرأ ، وسماها الكواشي في التخليص سورة اقرأ والعلق .
وعنونها ابن عطية وأبو بكر بن العربي سورة القلم، وهذا اسم سميت به سورة ن والقلم، ولكن الذين جعلوا اسم هذه السورة سورة القلم يسمون الأخرى سورة ن ...
وهي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة ، ونزل أولها بغار حراء على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مجاور فيه في رمضان ليلة سبعة عشرة منه من سنة أربعين بعد الفيل إلى قوله { علم الإنسان ما لم يعلم } . ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن عائشة . وفيه حديث عن أبي موسى الأشعري وهو الذي قاله أكثر المفسرين من السلف والخلف .
وعن جابر أول سورة المدثر ، وتؤول بأن كلامه نص أن سورة المدثر أول سورة نزلت بعد فترة الوحي كما في الإتقان كما أن سورة الضحى نزلت بعد فترة الوحي الثانية ...
تلقين محمد صلى الله عليه وسلم الكلام القرآني وتلاوته إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل .
والإيماء إلى أن علمه بذلك ميسر لأن الله الذي ألهم البشر العلم بالكتابة قادر على تعليم من يشاء ابتداء .
وإيماء إلى أن أمته ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم .
وتوجيهه إلى النظر في خلق الله الموجودات وخاصة خلقه الإنسان خلقا عجيبا مستخرجا من علقة فذلك مبدأ النظر .
وتهديد من كذب النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض ليصده عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى .
وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عالم بأمر من يناوونه وأنه قامعهم وناصر رسوله .
وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحق والصلاة والتقرب إلى الله .
وأن لا يعبأ بقوة أعداءه لأن قوة الله تقهرهم .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وفي الآيات الخمس الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة وتنويه لما ألهم الله الإنسان من العلم . وفي بقية الآيات حملة على باغ مغتر بماله وجاهه تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت للنبي في دعوته وموقفه وعدم المبالاة به . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تحضّ هذه السورة المكية على القراءة باعتبارها السبيل إلى المعرفة ، لكن ليس مطلق قراءة ، إنما القراءة المسؤولة ....تتحرك باسم الله الذي { خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } حتى حوّله إلى خلقٍ سويٍّ عاقلٍ منفتحٍ على الحياة كلها ، باسم الربّ الأكرم الذي يمنح عباده بكرمه كل خيرٍ وبركة ، ويقودهم إلى المعرفة بواسطة القلم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه السّورة تبدأ بأن تأمر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالقراءة . ثمّ تتحدث عن خلقة الإنسان بكل عظمته من قطعة دم تافهة . وفي المرحلة التالية تتحدث السّورة عن تكامل الإنسان في ظل لطف اللّه وكرمه ، وعن تعليمه وتمكينه من القلم . ثمّ تتطرق إلى طغيان الإنسان رغم كلّ ما توفرت له من هبات إلهية واكرام ربّاني . وتشير بعد ذلك إلى ما ينتظر اُولئك الصادين عن طريق الهداية والمانعين لأعمال الخير من عقاب . وفي ختام السّورة أمر بالسجود والاقتراب من ربّ العالمين . ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله : "اقْرأْ باسِمِ رَبّكَ" محمدا صلى الله عليه وسلم، يقول : اقرأ يا محمد بذكر ربك الّذِي خَلَقَ ، ثم بين الذي خلق فقال : "خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَقٍ" يعني : من الدم ، وقال : من علق والمراد به من علقة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى : { باسم ربك الذي خلق } يحتمل وجوها :
أحدها : أن يريد به أن افتتح القراءة باسم ربك على ما جعل افتتاح كل شيء باسم الرب لينال بركة ذلك فيه .
والثاني : أن يكون ما ذكر على إثر اسم ربه ، هو تفسير اسم ربه حين قال : { الذي خلق } { خلق الإنسان من علق } ( الآية : 2 ) فيكون هذا تفسيرا لما ذكر من اسم ربه .
والثالث : أن يكون قوله : { باسم ربك } كما يقال : أسألك باسمك الذي إذا دعيت به أجبت ، وإذا سئلت به أعطيت ، وذلك الاسم مكتوم بين أسمائه .
ثم قوله تعالى : { باسم ربك } تخرج إضافته إليه مخرج التعظيم لرسول الله وخصوصيته له على ما ذكرنا أن إضافة خاصية الأشياء إلى الله تعالى تخرج مخرج تعظيم ذلك الخاص ، من ذلك قوله تعالى : { أن طهرا بيتي } ( البقرة : 125 ) وقوله: { ناقة الله } ( الأعراف : 73و . . . . } ( وقوله : ) { وأن المساجد لله } ( الجن : 18 ) ونحو ذلك من إضافة خاصية الأشياء إليه .
وإضافة كلية الأشياء إلى الله تعالى تخرج ( مخرج ) تعظيم الرب والمحمدة له نحو قوله : { له ملك السماوات والأرض } ( البقرة : 107و . . . ) ( وقوله ): { وهو رب كل شيء } ( الأنعام : 164 ) .
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا أمر من الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يقرأ باسم ربه الذي خلق الخلق ، وأن يدعوه بأسمائه الحسنى . وفى تعظيم الاسم تعظيم المسمى ، لأن الاسم وصف ليذكر به المسمى بما لا سبيل إلى تعظيمه إلا بمعناه ، فلهذا لا يعظم اسم الله حق تعظيمه إلا من هو عارف به ومعتقد العبادة ربه ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...أي : اقرأ مفتتحاً باسم ربك ، قل : بسم الله ، ثم اقرأ . فإن قلت : كيف قال : { خَلَقَ } فلم يذكر له مفعولاً ، ثم قال : { خَلَقَ الإنسان } ؟ قلت : هو على وجهين : إما أن لا يقدّر له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه . وإما أن يقدّر ويراد خلق كل شيء ، فيتناول كل مخلوق ، لأنه مطلق ، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض . ...
قوله : { باسم ربك } .... المعنى: اقرأ القرآن مستعينا باسم ربك كأنه يجعل الاسم آلة فيما يحاوله من أمر الدين والدنيا ، نظيره كتبت بالقلم ، وتحقيقه أنه لما قال له : { اقرأ } فقال له : لست بقارئ ، فقال : { اقرأ باسم ربك } أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك ....
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ اقرأ } وحذف مفعوله إشارة إلى أنه لا قراءة إلا بما أمره به ، وهي الجمع الأعظم ، فالمعنى : أوجد القراءة لما لا مقروء غيره ، وهو القرآن الجامع لكل خير ، وأفصح له بأنه لا يقدر على ذلك إلا بمعونة الله الذي أدبه فأحسن تأديبه ، ورباه فأحسن تربيته ، فقال ما أرشد المعنى إلى أن تقديره : حال كونك مفتتحاً القراءة { باسم ربك } أي بأن تبسمل ، أو مستعيناً بالمحسن إليك لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى بما خصك به في { ألم نشرح } أو بذكر اسمه ....
{ الذي خلق } وحذف مفعوله إشارة إلى أنه له هذا الوصف وهو التقدير والإيجاد على وفق التقدير الآن وفيما كان وفيما يكون ، فكل شيء يدخل في الوجود فهو من صنعه ومتردد بين إذنه ومنعه وضره ونفعه .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها السورة الأولى من هذا القرآن ، فهي تبدأ باسم الله . وتوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أول ما توجه ، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى ، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها . . توجهه إلى أن يقرأ باسم الله : ( اقرأ باسم ربك ) . . وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء : ( الذي خلق ) . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم لِما ثبت عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سيأتي قريباً .
وافتتاح السورة بكلمة { اقرأ } إيذان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون قارئاً ، أي تالياً كتاباً بعد أن لم يكن قد تلا كتاباً قال تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب } [ العنكبوت : 48 ] ، أي من قبل نزول القرآن ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له اقرأ : " ما أنا بقارئ " .
وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن .
وقوله تعالى : { اقرأ } أمر بالقراءة ، والقراءة نطق بكلام معيَّن مكتوبٍ أو محفوظٍ على ظهر قلب .
وتقدم في قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم } في سورة النحل ( 98 ) .
والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال ، فالمطلوب بقوله : { اقرأ } أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال ، أي أن يقول مَا سَيُمْلَى عليه ، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته ، ولا سُلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها ، فهو كما يقول المُعلم للتلميذ : اكتب ، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه .
وفي حديث « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها قولها فيه : « حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : فقلت : ما أنا بقارىء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرْسَلَني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطّني الثانيةَ حتى بلغ مني الجَهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد ، ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى { ما لم يعلم } .
فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولها قال : " فقلت : ما أنا بقارئ " . وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة وقد قالت فيه : « فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فُؤاده » أي فرجع بالآيات التي أُمليَتْ عليه ، أي رجع متلبساً بها ، أي بوعيها .
وهو يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى ما أوحي إليه . وقرأه حينئذٍ ويزيد ذلك إيضاحاً قولها في الحديث : « فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك » ، أي اسمع القول الذي أوحي إليه وهذا ينبئ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قيل له بعد الغطة الثالثة : { اقرأ باسم ربك } الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذٍ كما أمره الله ورجع من غار حراء إلى بيته يقرأها وعلى هذا الوجه يكون قول المَلك له في المرات الثلاث { اقرأ } إعادة للفّظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل .
ولم يُذكر لِفعل { اقرأ } مفعول ، إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة ، وإما لظهور المقروء من المقام ، وتقديره : اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن .
أولها : أن يكون افتتاح كلام بعد جملة { اقرأ } وهو أول المقروء ، أي قل : باسم الله ، فتكون الباء للاستعانة فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره : ابتدئ ويجوز أن يتعلق ب { اقرأ } الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله . ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة ، وإقحامُ كلمة ( اسم ) لأن الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة ، وهذا الوجه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { باسم الله } حين تلقَّى هذه الجملة .
الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير { اقرأ } الثاني مقدَّماً على عامله للاختصاص ، أي اقرأ ما سيوحَى إليك مصاحباً قراءتَك ( اسمَ ربك ) . فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله ، ويكون هذا إثباتاً لوحدانية الله بالإلهية وإبطالاً للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون : باسم اللاتِ ، باسم العزى ، كما تقدم في البسملة . فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوَحي .
الثالث : أن تكون الباء بمعنى ( على ) كقوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } [ آل عمران : 75 ] ، أي على قنطار . والمعنى : اقرأ على اسم ربك ، أي على إذنه ، أي أن المَلَك جاءك على اسم ربك ، أي مرسلاً من ربك ، فذكر ( اسْم ) على هذا متعين .
وعدل عن اسم الله العَلم إلى صفة { ربك } لما يؤذن وصف الرب من الرأفة بالمربوب والعناية به ، مع ما يتأتى بذكره من إضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة مؤذنة بأنه المنفرد بربوبيته عنده رداً على الذين جعلوا لأنفسهم أرباباً من دون الله فكانت هذه الآية أصلاً للتوحيد في الإسلام .
وجيء في وصف الربّ بطريق الموصول { الذي خلق } ولأن في ذلك استدلالاً على انفراد الله بالإلهية لأن هذا القرآن سيُتلى على المشركين لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى علة الخبر ، وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالق دل ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق ، فالمشركون كانوا يقبلون على اسم اللات واسم العزى ، وكونُ الله هو الخالق يعترفون به قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] فلما كان المقام مقام ابتداء كتاب الإسلام دين التوحيد كان مقتضياً لذكر أدلّ الأوصاف على وحدانيته .
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{ اقرأ باسم ربك } ، توجيه من الله لرسوله إلى أن " القراءة " هي شعار الإسلام البارز ، المميز له من بين الأديان ، وتنبيه إلى أن دعوته تقوم على أساسها ، وتنتشر بقدر انتشارها ، فهي دعوة هداية ونور ، لا دعوة ضلال وظلام . وذكر " اسم الله " هنا تعريف بأن الله وحده هو منبع الهداية والنور ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
القراءة مبتدأ المعرفة: { اقْرَأْ } لأن القراءة هي مبتدأ معرفتك بالرسالة . . كما هي الدعوة إلى أن يكون هذا الدين انطلاقةً في آفاق العلم الذي ينطلق من القراءة الواسعة في كتاب الله المفتوح الذي ينطق بالأسرار المخزونة في الأعماق ، أو المعلّقة في السماء ، أو المنفتحة على عالم الإنسان ...