قوله تعالى : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } .
قال ابن عباس : علم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه ، فأمره أن يقر فيقول : إني آدمي مثلكم ، إلا أني خصصت بالوحي وأكرمني الله به ، يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد لا شريك له . { فمن كان يرجو لقاء ربه } ، أي يخاف المصير إليه . وقيل : يأمل رؤية ربه ، فالرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعاً ، قال الشاعر :
فلا كل ما ترجو من الخير كائن *** ولا كل ما ترجو من الشر واقع
فجمع بين المعنيين . { فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } أي : لا يرائي بعمله .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنبأنا أبو نعيم ، أنا سفيان عن سلمة ، هو ابن كهيل ، قال : سمعت جندباً يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من سمع سمع الله به ، ومن يرائي يرائي الله به " . وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، ثنا أبي ، ثنا شعيب قال : ثنا الليث عن أبي الهاد ، عن عمرو ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : " إن الله تبارك وتعالى يقول : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء ، هو للذي عمله " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، ثنا حميد بن زنجويه ، ثنا حفص بن عمر ، ثنا همام عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد الغطفاني ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، ثنا أبو جعفر الرياني ، ثنا حميد ابن زنجويه ، ثنا أبو الأسود ، ثنا ابن لهيعة عن زياد عن سهل - هو ابن معاذ - عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ أول سورة الكهف وأخرها كانت له نوراً من قدميه إلى رأسه ، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء " .
{ 110 ْ } { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ْ }
أي : { قُلْ ْ } يا محمد للكفار وغيرهم : { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ْ } أي : لست بإله ، ولا لي شركة في الملك ، ولا علم بالغيب ، ولا عندي خزائن الله ، { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ْ } عبد من عبيد ربي ، { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ْ } أي : فضلت عليكم بالوحي ، الذي يوحيه الله إلي ، الذي أجله الإخبار لكم : أنما إلهكم إله واحد ، أي : لا شريك له ، ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة غيره ، وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه ، وينيلكم ثوابه ، ويدفع عنكم عقابه . ولهذا قال : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ْ } وهو الموافق لشرع الله ، من واجب ومستحب ، { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ْ } أي : لا يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى ، فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة ، هو الذي ينال ما يرجو ويطلب ، وأما من عدا ذلك ، فإنه خاسر في دنياه وأخراه ، وقد فاته القرب من مولاه ، ونيل رضاه .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بأمر آخر منه - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس ، مبيناً لهم حقيقة أمرك ، بعد أن بينت لهم عدم تناهى كلمات ربك .
قل لهم : إنما أنا بشر مثلكم أوجدنى الله - تعالى - بقدرته من أب وأم كما أوجدكم . وينتهى نسبى ونسبكم إلى آدم الذى خلقه الله - تعالى - من تراب .
ولكن الله - عز وجل - اختصنى بوحيه وبرسالته - وهو أعلم حيث يجعل رسالته - وأمرنى أن أبلغكم أن إلهكم وخالقكم ورازقكم ومميتكم ، هو إله واحد لا شريك له لا فى ذاته ، ولا فى أسمائه ، ولا فى صفاته .
فعليكم أن تخلصوا له العبادة والطاعة ، وأن تستجيبوا لما آمركم به ، ولما أنهاكم عنه ، فإنى مبلغ عنه ما كلفنى به .
فالآية الكريمة وإن كانت تثبت للرسول صلى الله عليه وسلم صفة البشرية وتنفى عنه أن يكون ملكا أو غير بشر . . إلا أنها تثبت له - أيضا - أن الله - تعالى - قد فضله على غيره من البشر بالوحى إليه ، وبتكليفه بتبليغ ما أمره الله - تعالى - بتبليغه للعالمين . كما قال - سبحانه - { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وكما قال - عز وجل - : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتلك الجملة الجامعة لكل خير فقال : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس : إنما أنا واحد مثلكم فى البشرية إلا أن الله - تعالى - قد خصنى واصطفانى عليكم برسالته ووحيه ، وأمرنى أن أبلغكم أن إلهكم إله واحد . فمن كان منكم يرجو لقاء الله - تعالى - ويأمل فى ثوابه ورؤية وجهه الكريم ، والظفر بجنته ورضاه ، فليعمل عملا صالحا ، بأن يكون هذا العمل خالصاً لوجه الله - تعالى - ومطابقاً لما جئت به من عنده - عز وجل - ولا يشرك بعبادة ربه أحدا من خلقه سواء أكان هذا المخلوق نبياً أم ملكا أم غير ذلك من خلقه - تعالى - .
وقد حمل بعض العلماء الشرك هنا على الرياء فى العمل ، فيكون المعنى : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ، ولا يرائى الناس فى عمله ، لأن العمل الذى يصاحبه الرياء هو نوع من أنواع الشرك بالله تعالى " .
والذى يبدو لنا أن حمل الشرك هنا على ظاهره أولى ، بحيث يشمل الإِشراك الجلى كعبادة غير الله - تعالى - والإِشراك الخفى كالرياء وما يشبهه .
أى : ولا يعبد ربه رياء وسمعة ، ولا يصرف شيئا من حقوق خالقه لأحد من خلقه ، لأنه - سبحانه - يقول : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً }
وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث عند تفسيره لقوله - تعالى - { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } .
ومن هذه الأحاديث ما رواه ابن أبى حاتم ، من حديث معمر ، عن عبد الكريم الجزرى ، عن طاووس قال : قال رجل يا رسول الله ، إنى أقف المواقف أريد وجه الله ، وأحب أن يرى موطنى ، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزلت هذه الآية : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } .
وفي ظل هذا المشهد الذي يتضاءل فيه علم الإنسان ينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة ، فيرسم أعلى أفق للبشرية - وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة . فإذا هو قريب محدود بالقياس إلى الأفق الأعلى الذي تتقاصر دونه الأبصار ، وتنحسر دونه الأنظار :
( قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد . فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) . .
إنه أفق الإلوهية الأسمى . . فأين هنا آفاق النبوة ، وهي - على كل حال - آفاق بشريته ?
( قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي . . . ) . . بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى . بشر يستمد من ذلك المعين الذي لا ينضب . بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه . بشر يتعلم فيعلم فيعلم . . فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى ، فلينتفع بما يتعلم من الرسول الذي يتلقى ، وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها :
( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) . .
هذا هو جواز المرور إلى ذلك اللقاء الأثير .
وهكذا تختم السورة - التي بدأت بذكر الوحي والتوحيد - بتلك الإيقاعات المتدرجة في العمق والشمول ، حتى تصل إلى نهايتها فيكون هذا الإيقاع الشامل العميق ، الذي ترتكز عليه سائر الأنغام في لحن العقيدة الكبير . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } .
يقول تعالى ذكره : قل لهؤلاء المشركين يا محمد : إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم لا علم لي إلا ما علمني الله وإن الله يوحي إليّ أن معبودكم الذي يجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، معبود واحد لا ثاني له ، ولا شريك فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّهِ يقول : فمن يخاف ربه يوم لقائه ، ويراقبه على معاصيه ، ويرجوا ثوابه على طاعته فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا يقول : فليخلص له العبادة ، وليفرد له الربوبية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الربيع بن أبي راشد ، عن سعيد بن جبير فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّهِ قال : ثواب ربه .
وقوله : وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا يقول : ولا يجعل له شريكا في عبادته إياه ، وإنما يكون جاعلاً له شريكا بعبادته إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه لله وهو مريد به غيره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمرو بن عبيد ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا قال : لا يرائي .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن طاوس ، قال : جاء رجل ، فقال : يا نبيّ الله إني أحبّ الجهاد في سبيل الله ، وأحبّ أن يرى موطني ويرى مكاني ، فأنزل الله عزّ وجل : فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ومسلم بن خالد الزنجي عن صدقة بن يسار ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه ، وزاد فيه : وإني أعمل العمل وأتصدّق وأحبّ أن يراه الناس وسائر الحديث نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، قال : حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم ، عن شهر بن حوشب ، قال : جاء رجل إلى عُبادة بن الصامت ، فسأله فقال : أنبئني عما أسألك عنه ، أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد ، فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله عزّ وجلّ يقول : أنا خير شريك ، فمن كان له معي شريك فهو له كله ، لا حاجة لي فيه .
حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السّكوني ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا ابن عياش ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الكندي ، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الاَية : فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا وقال : إنها آخر آية أنزلت من القرآن .
استئناف ثان ، انتقل به من التنويه بسعة علم الله تعالى وأنه لا يعجزه أن يوحي إلى رسوله بعلم كل ما يُسأل عن الإخبار به ، إلى إعلامهم بأن الرسول لم يبعث للإخبار عن الحوادث الماضية والقرون الخالية ، ولا أن من مقتضى الرسالة أن يحيط علم الرسول بالأشياء فيتصدى للإجابة عن أسئلة تُلقَى إليه ، ولكنه بشَر عِلمه كعلم البشر أوحَى الله إليه بما شاء إبلاغه عبادهُ من التوْحيد والشريعة ، ولا علم له إلاّ ما علّمه ربّه كما قال تعالى : { قل إنما أتبع ما يُوحى إليّ من ربّي } [ الأعراف : 203 ] .
فالحصر في قوله { إنما أنا بشر مثلكم } قصر الموصوف على الصفة وهو إضافي للقلب ، أي ما أنا إلاّ بشر لاَ أتجاوز البشرية إلى العلم بالمغيّبات .
وأدمج في هذا أهم ما يوحي إليه وما بعث لأجله وهو توحيد الله والسعي لما فيه السلامة عند لقاء الله تعالى . وهذا من ردّ العجز على الصدر من قوله في أوّل السورة { لينذر بأساً شديداً من لدنه } إلى قوله { إن يقولون إلا كذباً } [ الكهف : 2 5 ] .
وجملة { يوحى إلي } مستأنفة ، أو صفة ثانية ل { بشر } .
و { أنما } مفتوحة الهمزة أخت ( إنما ) المكسورة الهمزة وهي مركبة من ( أَنّ ) المفتوحة الهمزة و ( ما ) الكَافة كما ركبت ( إنما ) المكسورة الهمزة فتفيد ما تفيده ( أَنّ ) المفتوحة من المصدرية ، وما تفيده ( إنما ) من الحصر ، والحصر المستفاد منها هنا قصر إضافي للقلب . والمعنى : يوحي الله إليّ توحيد الإله وانحصار وصفه في صفة الوحدانية دون المشاركة .
وتفريع { فمن كان يرجو لقاء ربه } هو من جملة الموحى به إليه ، أي يوحَى إليّ بوحدانية الإله وبإثبات البعث وبالأعمال الصالحة .
فجاء النظم بطريقة بديعة في إفادة الأصول الثلاثة ، إذ جعل التوحيد أصلاً لها وفرع عليه الأصلان الآخران ، وأكد الإخبار بالوحدانية بالنّهي عن الإشراك بعبادة الله تعالى ، وحصل مع ذلك ردّ العجز على الصدر وهو أسلوب بديع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ لَا عِلْمَ لِي إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ يُوحِي إِلَيَّ أَنَّ مَعْبُودَكُمُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، مَعْبُودٌ وَاحِدٌ لَا ثَانِيَ لَهُ، وَلَا شَرِيكَ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} يَقُولُ: فَمَنْ يَخَافُ رَبَّهُ يَوْمَ لِقَائِهِ، وَيُرَاقِبُهُ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَيَرْجُو ثَوَابَهُ عَلَى طَاعَتِهِ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} يَقُولُ: فَلْيُخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلْيُفْرِدْ لَهُ الرُّبُوبِيَّةَ... وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} يَقُولُ: وَلَا يَجْعَلْ لَهُ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ جَاعِلًا لَهُ شَرِيكًا بِعِبَادَتِهِ إِذَا رَاءَى بِعَمَلِهِ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُرِيدٌ بِهِ غَيْرَهُ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قُلْ إِنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّما إِلَهُكُم إِلهٌ واحدٌ} أَمَرَه أن يُخبرَهم أنه بَشَرٌ مِثْلُهم. ثم يكون لذلك الأمرِ وإخبارِه إيّاهم أنه بَشَرٌ مِثلُهم وُجوهٌ من المعنى:
أحدهما: أنّهم كانوا يَسألونه آياتٍ خارجةً عن وَسْعِ البَشَرِ وطَوْقِهم، فأَمَره أن يُخبرهم أنه بشرٌ مِثلُهم لا يَقْدِرُ على ما يَسألونه من الآيات التي تَخْرُج عن وسْع البشرِ وطوْقِهم. وليس لأحدٍ التحكّمُ على الله والتخيُّرُ عليه في شيءٍ. إنما ذلك إلى الله؛ إن شاء أَنْزَلَ، وإن شاء لم يُنْزِل، وأنا لا أَمْلِكُ شيئا مِن ذلك.
والثاني: ذَكَرَ هذا لِيَعْرِفوا أنه إذا جاء من الآيات التي لا يَحتمِل وُسْعُ البشرِ أنْ يَأْتُوا بمِثْلِها، أنه إنما أتى بذلك من عند الله لا من ذات نفسِه... وأنه رسولٌ على ما يقول. والثالث: أمَرَه أن يقول لهم هذا: إنه بَشَرٌ مِثْلُهم لئلا يَحْمِلَهم فَرْطُ حُبِّهم إيّاه اتِّخاذَه إلهاً ربّاً على ما اتَّخَذ قومُ عيسى عيسى إلهاً رَبّاً لِفَرْطِ حُبِّهم إياه...
{فمَنْ كان يَرْجُو لِقاءَ رَبِّه} فإن كانت الآيةُ في مُشرِكي العربِ فهم يُنكِرون البعثَ، ولا يَرْجونَه. لكنّه يكون ذَكَرَ لِقاءَ ربِّه لهم لأنهم عَرَفوا في أنفُسِهم قديمَ إحسانِ اللهِ إليهم ونِعَمِه عليهم. فأُمِروا أن يَعْمَلوا العملَ الصّالحَ ليَسْتديمُوا بذلك الإحسانَ الذي كان مِن الله إليهم، فيَحْمِلَهم العملُ على التوحيد بالله والإقْرارِ بالبعث. وإن كانت الآيةُ في المؤمنين فيكون تأويلُه {فمَن كان يَرْجُو لِقاءَ ربِّه... فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} لِيُثابَ عليه؛ إذ الثوابُ إنما يكون للعمل الصالح دونَ غيرِه. وفيه ما ذَكَرْنا أن المقصود مِن العِلمِ العملُ الصّالحُ، والعِلمُ مما ليس له نهايةٌ، فالأمْرُ بِطَلَبِ ما لا نهايةَ له ليس لِنفسِه، ولكنْ للعمل به، والله أعلم...
{ولا يُشْرِكْ بِعِبادةِ ربِّه أَحداً} يَحتمِل حقيقةَ الإشراكِ في العبادة والأُلوهيّةِ على ما أَشْرَكَ أولئك: أَشْرَكوا الأصنامَ والأوثانَ التي عَبَدوها في عبادتِه وألوهيّتِه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَخْبِرْ أَنَّكَ لهم من حيث الصورةُ والجنسيّةُ مُشاكِلٌ، والفَرْقُ بينكَ وبينَهم تخصيصُ اللهِ -سبحانه- إيّاكَ بالرسالة... ويقال: قُل اختصاصي بما لي مِن الاِصْطِفاءِ، وإنْ كُنّا -أنا وأنتم- في الصورة أَكْفَاءً...
قولُه جَلَّ ذِكْرُه: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَّبِهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}. حَمْلُ الرجاءِ في هذه الآية على خَوْفِ العُقوبةِ ورجاءِ المَثُوبَةِ حَسَنٌ، ولكنَّ تَرْكَ هذا على ظاهرِه أَوْلَى؛ فالمؤمنون قاطبةً يَرْجُونَ لقاءَ الله. والعارفُ بالله -سبحانه- يرجو لقاءَ الله والنظرَ إليه. والعملُ الصالحُ الذي بوجوده يَصِلُ إلى لقائه هو... أَنْ يُخْلِصَ في عمله.
{وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَاَدةِ رَبِّهِ}: أي لا يُلاحِظُ عَمَلَه، ولا يَسْتَكْثِرُ طاعتَه، ويَتَبَرَّأُ مِن حَوْلِه وقُوَّتِه...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
675- إن الإنسان عند الشركة أبدا في خطر، فإنه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده فربما يكون عليه وبالا، ولذلك قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحد}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} فمن كان يؤمل حسن لقاء ربه، وأن يلقاه لقاء رضا وقبول... أو: فمن كان يخاف سوء لقائه. والمراد بالنهي عن الإشراك بالعبادة: أن لا يرائي بعمله، وأن لا يبتغي به إلاّ وجه ربه خالصاً لا يخلط به غيره...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إنما أنا بشر} ينتهي علمي إلى حيث {يوحى إلي} ومهم ما يوحى إلي، أنما إلهكم إله واحد، وكان كفرهم بعبادة الأصنام فلذلك خصص هذا الفصل مما أوحي إليه، ثم أخذ في الموعظة، والوصاة البينة الرشد، و {يرجو} على بابها، وقالت فرقة: {يرجو} بمعنى يخاف، وقد تقدم القول في هذا المقصد، فمن كان يؤمن بلقاء ربه وكل موقن بلقاء ربه، فلا محالة أنه بحالتي خوف ورجاء، فلو عبر بالخوف لكان المعنى تاماً على جهة التخويف والتحذير، وإذا عبر بالرجاء فعلى جهة الإطماع وبسط النفوس إلى إحسان الله تعالى، أي {فمن كان يرجو} النعيم المؤبد من ربه {فليعمل} وباقي الآية بين في الشرك بالله تعالى...
ثم قال: {فمن كان يرجو لقاء ربه} والرجاء هو ظن المنافع الواصلة إليه والخوف ظن المضار الواصلة إليه...
ثم قال: {فليعمل عملا صالحا} أي من حصل له رجاء لقاء الله فليشتغل بالعمل الصالح... ولما كان العمل الصالح قد يؤتى به لله وقد يؤتى به للرياء والسمعة لا جرم اعتُبِر فيه قيدان: أن يؤتى به لله، وأن يكون مبرأ عن جهات الشرك، فقال: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا ربما قالوا: ما لك لا تحدثنا من هذه الكلمات بكل ما نسألك عنه حيثما سألناك؟ وكانوا قد استنكروا كون النبي بشراً، وجوزوا كون الإله حجراً، وغيوا إيمانهم به بأمور سألوه في الإتيان بها كما تقدم بعد أول مسائلهم، وهي الروح آخر سبحان، وكان قد ثبت بإجابتهم عن المسائل على هذا الوجه أنه رسول، أمره سبحانه أن يجيبهم عن ذلك كله بما يرد عليهم غلطهم، ويفضح شبههم، إرشاداً لهم إلى أهم ما يعنيهم من الحرف الذي النزاع كله دائر عليه وهو التوحيد فقال: {قل إنما أنا} أي في الاستمداد بالقدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالمغيب {بشر مثلكم} أي لا أمر لي ولا قدرة إلا على ما يقدرني عليه ربي، ولا استبعاد لرسالتي من الله فإن ذلك سنته فيمن قبلي {يوحى إليّ} أي من الله الذي خصني بالرسالة كما أوحى إلى الرسل قبلي ما لا غنى لأحد عن علمه واعتقاده {أنما إلهكم} وأشار إلى أن إلهيته بالإطلاق لا بالنظر إلى جعل جاعل ولا غير ذلك فقال: {إله واحد} أي لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها، قادر على ما يريد، لا منازع له، لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا جهل ولا هوان بي عليه -هذا هو الذي يعني كلَ أحد علمه، وأما ما سألتم عنه من أمر الروح والقصتين تعنتاً فأمر لو جهلتموه ما ضركم جهله، وإن اتبعتموني علمتموه الآن وما دل عليه من أمر الساعة إيماناً بالغيب علم اليقين، وعلمتموه بعد الموت بالمشاهدة عين اليقين، وبالمباشرة حق اليقين، وإن لم تتبعوني لم ينفعكم علمه {فمن} أي فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من {كان يرجوا} أي يؤمن بمجازاته له على أعماله في الآخرة برؤيته وغيرها، وإنما قال: {لقاء ربه} تنبيهاً على أنه هو المحسن إلى كل أحد بالتفرد بخلقه ورزقه، لا شريك له في شيء من ذلك على قياس ما نعلمه من أنه لا مالك إلا وهو قاهر لمملوكه على لقائه، مصرف له في أوامره في صباحه ومسائه. ولما كان الجزاء من جنس العمل، كان الواجب على العبد الإخلاص في عمله، كما كان عمل ربه في تربيته بالإيجاد وما بعده، فقال: {فليعمل} وأكده للإعلام بأنه لا بد مع التصديق من الإقرار فقال: {عملاً} أي ولو كان قليلاً {صالحاً} وهو ما يأمره به من أصول الدين وفروعه من التوحيد وغيره من أعمال القلب والبدن والمال ليسلم من عذابه {ولا يشرك} أي وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء {بعبادة ربه أحداً} فإذا عمل ذلك فاز فحاز علوم الدنيا والآخرة، وقد انطبق آخر السورة على أولها بوصف كلمات الله ثم ما يوحى إليه، وكل منهما أعم من الكتاب بالأقومية للدعاء إلى الحال الأسلم، في الطريق الأقوم، وهو التوحيد عن الشريك الأعم من الولد وغيره، والإحسان في العمل، مع البشارة لمن آمن، والنذارة لمن أعرض عن الآيات والذكر، فبان بذلك أن لله تعالى- بوحدانيته وتمام علمه وشمول قدرته صفات -الكمال، فصح أنه المستحق لجميع الحمد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل هذا المشهد الذي يتضاءل فيه علم الإنسان ينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة، فيرسم أعلى أفق للبشرية -وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة. فإذا هو قريب محدود بالقياس إلى الأفق الأعلى الذي تتقاصر دونه الأبصار، وتنحسر دونه الأنظار:
(قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد. فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)..
إنه أفق الألوهية الأسمى.. فأين هنا آفاق النبوة، وهي- على كل حال -آفاق بشريته؟
(قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي...).. بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى. بشر يستمد من ذلك المعين الذي لا ينضب. بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه. بشر يتعلم فيعلم فيعلم.. فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى، فلينتفع بما يتعلم من الرسول الذي يتلقى، وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها:
(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)..
هذا هو جواز المرور إلى ذلك اللقاء الأثير.
وهكذا تختم السورة- التي بدأت بذكر الوحي والتوحيد -بتلك الإيقاعات المتدرجة في العمق والشمول، حتى تصل إلى نهايتها فيكون هذا الإيقاع الشامل العميق، الذي ترتكز عليه سائر الأنغام في لحن العقيدة الكبير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اِستِئنافٌ ثانٍ، انتَقَل به مِن التّنْويه بسَعَةِ عِلمِ اللهِ تعالى وأنه لا يُعْجِزُه أنِ يُوحِيَ إلى رسوله بعِلمِ كلِّ ما يُسأل عن الإخبار به، إلى إعلامهم بأن الرسول لم يُبْعَثْ للإخبار عن الحوادث الماضية والقرونِ الخالية، ولا أنّ مِن مُقتَضَى الرسالةِ أن يُحِيط علمُ الرّسولِ بالأشياء فيَتَصدَّى للإجابة عن أسئلةٍ تُلقَى إليه، ولكنه بَشَرٌ عِلمُه كعِلم البشرِ أوحَى اللهُ إليه بما شاء إبلاغَه عِبادَه مِن التوْحيد والشريعةِ... أهمُّ ما يوحى إليه وما بُعِثَ لأجْلِه... توحيدُ الله والسَّعْيُ لِما فيه السَّلامةُ عند لقاء الله تعالى. وهذا مِن رَدّ العَجُزِ على الصَّدْرِ مِن قولِه في أوّل السورةِ {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} إلى قولِه {إِنْ يَقُولُونَ إِلّا كَذِباً} [الكهف: 2 5]...
وتفريعُ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} هو مِن جُمْلةِ المُوحَى به إليه، أي يُوحَى إليّ بوحدانية الإلهِ وبإثبات البعثِ وبالأعمال الصّالحةِ. فجاء النَّظْمُ بطريقةٍ بديعةٍ في إفادة الأصولِ الثلاثةِ، إذ جُعل التوحيدُ أصلاً لها وفُرِّعَ عليه الأصلان الآخَران، وأُكِّد الإخبارُ بالوحدانية بالنّهي عن الإشراك بعبادة الله تعالى، وحَصَلَ مع ذلك رَدُّ العَجُزِ على الصَّدْرِ وهو أسلوبٌ بَديعٌ...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
ويُفْهَم مِن مَفهوم مُخالَفةِ الآيةِ الكريمةِ: أنّ الذي يُشرِك أحداً بعبادة ربِّه، ولا يَعْمَلُ صالحاً أنه لا يَرجو لِقاءَ ربِّه، والذي لا يرجو لقاءَ ربِّه لا خيرَ له عند الله يومَ القيامةِ...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإنّ الناسَ في تَلقّي هذه الرّسالةِ من عند الله تعالى قسمان:
القسمُ الأول: يؤمِن بالغيب، ولا يَأْسِرُه الحِسُّ وتَسْتغْرِقُه المادّةُ.
والقسمَ الثاني: استَغْرَقَتْه المادّةُ، حتى لا يؤمِن إلا بما هو مادّيٌّ حِسِّيٌّ، والأول هو الذي يرجو لقاءَ ربِّه وهو الذي ينادي بفعل الخيرِ، والإيمانِ بالحقّ، ولذا قال تعالى: {فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبادةِ ربِّه أَحَداً}...
{فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّهِ}، أي يَسْتَيْقِنُ بلِقاء ربِّه، وعَبَّر بالرّجاء بدلَ اليقينِ، لأنه يفيد اليقينَ مع تمنِّي اللقاءِ والرغبةِ فيه وطَلَبِه بالعمل...
وقال: {فمَنْ كان يَرْجُو لِقاءَ رَبِّه}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وكما نَوَّهَتْ سورةُ الكهفِ في مَطْلَعِها بالمؤمنين الذين يَعْمَلون الصّالحاتِ وزَفَّتْ إليهم البُشْرَى فقال تعالى: {ويُبَشِّرَ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الآية: 2]، أَكَّدَتْ في خِتامِها بصورةٍ قاطعةٍ أهمِّيَّةَ الإيمانِ بالله والعملِ الصّالحِ، مُبَيِّنةً أن ذلك هو الوسيلةُ الوحيدةُ إلى الله، لِمَن ابْتَغَى قَبولَه ورِضاه {فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبادةِ ربِّه أَحَداً}...
{قل} أي: يا محمد، وهذا كلام جديد {قل إنما أنا بشر مثلكم} يعني: خذوني أسوة، فأنا لست ملكاً إنما أنا بشر مثلكم، وحملت نفسي على المنهج الذي أطالبكم به، فأنا لا آمركم بشيء وأنا عنه بنجوى. بل بالعكس كان صلى الله عليه وسلم أقل الناس حظاً من متع الحياة وزينتها. فكان في المؤمنين به الأغنياء الذين يتمتعون بأطايب الطعام ويرتدون أغلى الثياب في حين كان صلى الله عليه وسلم يمر عليه الشهر والشهران دون أن يوقد في بيته نار لطعام، وكان يرتدي المرقع من الثياب، كما أن أولاده لا يرثونه، كما يرث باقي الناس، ولا تحل لهم الزكاة كغيرهم، فحرموا من حق تمتع به الآخرون. لذلك كان صلى الله عليه وسلم أدنى الأسوات أي: أقل الموجودين في متع الحياة وزخرفها، وهذا يلفتنا إلى أن الرسالة لم تجر لمحمد نفعاً دنيوياً، ولم تميزه عن غيره في زهرة الدنيا الفانية، إنما ميزته في القيم والفضائل... والآية هنا لا تميزه صلى الله عليه وسلم عن البشر إلا في أنه: {يوحى إلي} فما زاد محمد عن البشر إلا أنه يوحى إليه. ثم يقول تعالى: {أنما إلهكم إله واحد} أنما: أداة قصر {إلهكم إله واحد} أي: لا إله غيره، وهذه قمة المسائل، فلا تلتفتوا إلى إله غيره، ومن أعظم نعم الله على الإنسان أن يكون له إله واحد، وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً ليوضح لنا هذه المسألة فقال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلاً.. "29 "} (سورة الزمر) فلا يستوي عبد مملوك لعدة أسياد يتجاذبونه؛ لأنهم متشاكسون مختلفون يحار فيما بينهم، إن أرضى هذا سخط ذاك. هل يستوي وعبد مملوك لسيد واحد؟ إذن: فمما يحمد الله عليه أنه إله واحد. {فمن كان يرجو لقاء ربه.. "110 "} (سورة الكهف). الناس يعملون الخير لغايات رسمها الله لهم في الجزاء، ومن هذه الغايات الجنة ونعيمها، لكن هذه الآية توضح لنا غاية أسمى من الجنة ونعيمها، هي لقاء الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم، فقوله تعالى: {يرجو لقاء ربه} تصرف النظر عن النعمة إلى المنعم تبارك وتعالى. فمن أراد لقاء ربه لا مجرد جزائه في الآخرة: {فليعمل عملاً صالحاً} فهذه هي الوسيلة إلى لقاء الله؛ لأن العمل الصالح دليل على أنك احترمت أمر الآخر بالعمل، ووثقت من حكمته ومن حبه لك فارتاحت نفسك في ظل طاعته، فإذا بك إذا أويت إلى فراشك تستعرض شريط أعمالك، فلا تجد إلا خيراً تسعد به نفسك، وينشرح له صدرك، ولا تتوجس شراً من أحد، ولا تخاف عاقبة أمر لا تحمد عقباه، فمن الذي أنعم عليك بكل هذه النعم ووفقك لها؟ ثم: {ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} وسبق أن قلنا: إن الجنة (أحد)، فلا تشرك بعبادة الله شيئاً، ولو كان هذا الشيء هو الجنة، فعليك أن تسمو بغاياتك، لا إلى الجنة بل إلى لقاء ربها وخالقها والمنعم بها عليك...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... وتَبقَى الرِّسالةُ تؤكِّد على مبدأ البشرية في شخصيّة الرسولِ، فإن اتِّصالَه بالله وصِلَتَه بالسماء، لا يُعطيه أيّةَ خصوصيّةٍ من خصوصيّات الأُلوهيّةِ، لِيكون في ذاته سِرُّ الألوهة، بل يظل في موقع الإنسان الذي يَتلقَّى الوحيَ من خلال ما يَملِكه من روحِيّة الرسالة في ذاته، ومن آفاقها الفكرية في عقله، ومن أخلاقيتها الساميةِ الرفيعة في أخلاقه... وتلك هي خصوصيّةُ الرسالةِ، فهي لا تعبِّر عن أسرارٍ عميقةٍ غامضةٍ في شخصية الرسول، بل تعبر عن التناسُب بين شخصيته وشخصيةِ الرِّسالة، ليكون التجسيدَ الحيَّ لكل مضمونِها الفكري والعملي والروحي، ولتكون هي التعبير الحي عن كل صفاته وآفاقه وتطلعاته.. لتظهر الصورة في هذه الوحدة بين الرسالة والرسول، الأمر الذي يجعل اتباع الرسول حركةً واقعيةً في الاتصال بالله واللقاءِ برِضوانه، ما يجعل مِن العلاقة به علاقةً برسالته، لا لوناً من ألوان الاستغراق في شخصيته والارتباطِ بذاته، لأن الله لا يريد للناس أن يَلتقوا بالرسول من خلال ذاته، بل من خلال أنّه يُمَثِّل الرمزَ الحيَّ للرسالة، ليبحثوا في ذاته عن عناصر الرسالة في فكره وروحِه وجِهادِه المُتحرِّكِ في أكثرَ من اتجاهٍ، وهذا ما أرادت الآية التالية أن توحي به.
{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} ليحصل على محبته ورضاه، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} من موقع التفاصيل الدقيقة للوحي في تخطيطه لحياة الإنسان في أقواله وأفعاله... وليؤمن بالله الواحد في حركة العقيدة والعبادة، {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}، فهذا هو طريق الخلاص، وسبيل القرب إلى الله، والحصول على جنته في يوم اللقاء الكبير بالله سبحانه في اليوم الآخر. {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولأنَّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال مِن الغلو والمبالغة على طول التأريخ، لذا فإِنَّ الآية تقول: (قل إِنّما أنا بشرٌ مِثلكم يوحى إِليّ). وهذا التعبير القرآني نسف جميع الامتيازات المقرونة بالشرك التي تُخرج الأنبياء مِن صفة البشرية إلى صفة الألوهية...
ثمّ تشير الآية إلى قضية التوحيد مِن بين جميع القضايا الأُخرى في والوحي الالهي حيث تقول: (إِنما إِلهكم إِله واحد). أمّا لماذا تمت الإِشارة إلى هذه القضية؟ فذلك لأنَّ التوحيد هو خلاصة جميع المعتقدات، وغاية كل البرامج الفردية والاجتماعية التي تجلب السعادة للإِنسان. وفي مكان آخر، أشرنا إلى أنَّ التوحيد ليسَ أصلا مِن أصول الدين وحسب، وإِنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإِسلام. لو أردنا على سبيل المثال أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية مِن الأصول والفروع على أنّها قطع مِن الجواهر، عندها نستطيع أن نقول: إِنَّ التوحيد هو السلك والخيط الذي يربط جميع هذه القطع إلى بعضها البعض ليتشكَّل مِن المجموع قلادة جميلة وثمينة...
وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة، هي قوله تعالى: (ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً). بعبارة أُخرى: لا يكون العمل صالحاً ما لم تتجلى فيه حقيقة الإِخلاص...
وقد أشرنا سابقاً إلى أنَّ العمل الصالح لهُ مفهوم واسع للغاية، وهو يشمل أي برنامج مفيد وبنّاء، فردي واجتماعي، وفي أي قضية مِن قضايا الحياة...