11- يأمركم الله في شأن توريث أولادكم وأبويكم - إذا مُتُّم - بما يحقق العدل والإصلاح وذلك بأن يكون للذكر مثل نصيب الأنثيين إذا كان الأولاد ذكوراً وإناثاً . فإن كان جميع الأولاد إناثاً يزيد عددهن على اثنتين فلهن الثلثان من التركة . ويفهم من مضمون الآية أن الاثنتين نصيبهما كنصيب الأكثر من اثنتين . وإن ترك بنتاً واحدة فلها نصف ما ترك . وإن ترك أباً وأماً فلكل منهما السدس إن كان له ولد معهما - ولد ذكر أو أنثى - فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فقط فلأمه الثلث والباقي للأب . فإن كان له إخوة فلأمه السدس والباقي للأب ولا شيء للأخوة . تُعْطَي هذه الأنصبة لمستحقيها بعد أداء ما يكون عليه من دين ، وتنفيذ ما وصَّى به في حدود ما أجازه الشارع . هذا حكم الله فإنه عدل وحكمة ، وأنتم لا تدرون الأقرب لكم نفعاً من الآباء والأبناء ، والخير فيما أمر الله ، فهو العليم بمصالحكم ، الحكيم فيما فرض لكم .
قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } الآية . اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالذكورة والقوة فكانوا يورثون الرجال دون النساء والصبيان ، فأبطل الله ذلك بقوله : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الآية . وكانت أيضاً في الجاهلية وابتداء الإسلام بالمحالفة ، قال الله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } ثم صارت الوراثة بالهجرة ، قال الله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } . فنسخ ذلك كله وصارت الوراثة بأحد الأمور الثلاثة : بالنسب والنكاح والولاء ، والمعنى بالنسب أن القرابة يرث بعضهم من بعض لقوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } والمعنى بالنكاح : أن أحد الزوجين يرث صاحبه ، وبالولاء : أن المعتق وعصباته يرثون المعتق ، فنذكر بعون الله تعالى فصلاً وجيزاً في بيان من يرث من الأقارب ؟ وكيفية توريث الورثة ؟ فنقول : إذا مات ميت وله مال فيبدأ بتجهيزه ، ثم بقضاء ديونه ، ثم بإنفاذ وصاياه ، فما فضل يقسم بين الورثة . على ثلاثة أقسام : منهم من يرث بالفرض ، ومنهم من يرث بالتعصيب ، ومنهم من يرث بهما جميعاً . فمن يرث بالنكاح لا يرث إلا بالفرض ، ومن يرث بالولاء لا يرث إلا بالتعصيب ، أما من يرث بالقرابة فمنهم من يرث بالفرض كالبنات والأخوات والأمهات والجدات وأولاد الأم . ومنهم من يرث بالتعصيب كالبنين ، والإخوة ، وبني الأعمام وبنيهم ، ومنهم من يرث بهما كالأب يرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد ، فإن كان للميت ابن : فيرث الأب بالفرض السدس ، وإن كان للميت بنت فيرث الأب السدس بالفرض ويأخذ الباقي بعد نصيب البنت بالتعصيب ، وكذلك الجد وصاحب التعصيب من يأخذ جميع المال عند الانفراد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض وجملة الورثة سبعة عشر : عشرة من الرجال وسبع من النساء ، فمن الرجال : الابن ، وابن الابن وإن سفل ، والأب ، والجد أبو الأب وإن علا ، والأخ ، سواء كان لأب وأم أو لأب ، أو لأم ، وابن الأخ للأم ، أو للأب ، وإن سفل ، والعم للأب والأم ، أو للأب . وأبناؤهما وإن سفلوا ، والزوج ومولى العتاق . ومن النساء : البنت ، وبنت الابن وإن سفلت ، والجدة أم الأم وأم الأب ، والأخت ، سواء كانت لأب وأم أو لأب أو لأم ، والزوجة ، ومولاة العتاق . وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمات بالغير : الأبوان والولدان ، والزوجان ، لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة . والأسباب التي توجب حرمان الميراث أربعة : اختلاف الدين ، والرق ، والقتل ، وعمى الموت . ونعني باختلاف الدين أن الكافر لا يرث المسلم والمسلم لا يرث الكافر ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب ، أنا عبد العزيز بن احمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الشافعي أنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ) . فأما الكفار فيرث بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم ، لأن الكفر كله ملة واحدة ، لقوله تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } . وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل في الكفر يمنع التوارث حتى لا يرث اليهودي النصراني ولا النصراني المجوسي وإليه ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ) . وتأوله الآخرون على الإسلام مع الكفر . وأما الكفر فكله ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوراث بين أهل ملتين شتى ، والرقيق لا يرث أحداً ولا يرثه أحد لأنه لا ملك له لا فرق فيه بين القن ، والمدبر ، والمكاتب ، وأم الولد . والقتل يمنع الميراث عمداً كان أو خطأ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( القاتل لا يرث ) .
ونعني بعمى الموت أن المتوارثين إذا عمي موتهما بأن غرقاً في ماء ، أو انهدم عليهما بناء ، فلم يدر أيهما سبق موته فلا يورث أحدهما من الآخر بل ميراث كل واحد منهما لمن كانت حياته يقيناً بعد موته من ورثته . والسهام المحدودة في الفرائض ستة : النصف ، والربع ، والثمن ، والثلثان ، والثلث ، والسدس .
فالنصف فرض ثلاثة : فرض الزوج عند عدم الولد ، وفرض البنت الواحدة للصلب أو لبنت الابن عند عدم ولد الصلب ، وفرض الأخت الواحدة للأب والأم أو للأب إذا لم يكن ولد الأب وأم .
والربع فرض الزوج اثنين : فرض الزوج إذا كان للميت ولد ، وفرض الزوجة إذا لم يكن للميت ولد .
والثمن : فرض الزوجة إذا كان للميت ولد .
والثلثان فرض البنتين للصلب فصاعداً ، ولبنتي الابن فصاعداً عند عدم ولد الصلب ، وفرض الأختين لأب وأم أو للأب فصاعداً .
والثلث فرض ثلاثة : فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات ، إلا في مسألتين : أحدهما زوج وأبوان ، والثانية زوجة وأبوان ، فإن للأم فيهما ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة ، وفرض لاثنين فصاعداً من أولاد الأم ذكرهم وأنثاهم فيه سواء ، وفرض الجد مع الإخوة إذ لم يكن في المسألة صاحب فرض ، وكان الثلث خيراً للجد من المقاسمة مع الإخوة . وأما السدس ففرض سبعة : فرض الأب إذا كان للميت ولد ، وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو اثنان من الإخوة والأخوات ، وفرض الجد إذا كان للميت ولد ، ومع الإخوة والأخوات إذا كان في المسألة صاحب فرض ، وكان السدس خيراً للجد من المقاسمة مع الإخوة ، وفرض الجدة والجدات وفرض الواحد من أولاد الأم ذكراً كان أو أنثى ، وفرض بنات الابن إذا كان للميت بنت واحدة للصلب تكملة للثلثين ، وفرض الأخوات للأب إذا كان للميت أخت واحدة لأب وأم تكملة الثلثين .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أنا وهب بن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولي رجل ذكر ) . وفي الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض .
والحجب نوعان : حجب نقصان وحجب حرمان . فأما حجب النقصان فهو أن الولد أو ولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع ، والزوجة من الربع إلى الثمن ، والأم من الثلث إلى السدس ، وكذلك الاثنان فصاعداً من الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس .
وحجب الحرمان هو أن الأم تسقط الجدات كلهن ، وأولاد الأم وهم : الإخوة والأخوات للأم يسقطون بأربعة : بالأب ، والجد وإن علا ، وبالولد ، وولد الابن وإن سفل ، وأولاد الأب والأم يسقطون بثلاثة : بالأب ، والابن ، وابن الابن وإن سفلوا . ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت ، وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله . وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة ، وبالأخ للأب والأم . وذهب قوم إلى أن الإخوة جميعاً يسقطون بالجد كما يسقطون بالأب ، وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الحسن وعطاء وطاووس وأبو حنيفة رحمهم الله . وأقرب العصبات يسقط الأبعد من العصوبة ، وأقربهم : الابن ، ثم ابن الابن وإن سفل ، ثم الأب ، ثم الجد أبو الأب وإن علا ، فإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث ، فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ، ثم الأخ للأب ، ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم أولى ، ثم العم للأب والأم ، ثم العم للأب ، ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة ، ثم عم الأب ، ثم عم الجد على هذا الترتيب . فإن لم يكن أحد من عصبات النسب وعلى الميت ولاء فالميراث للمعتق ، فإن لم يكن حياً فلعصبات المعتق .
وأربعة من الذكور يعصبون الإناث : الابن ، وابن الابن ، والأخ للأب والأم ، والأخ للأب حتى لو ماتت عن ابن وبنت ، أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب فإنه يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولا يفرض للبنت والأخت . وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئاً حتى لو مات عن بنتين وبنت الابن فللبنتين الثلثان ولا شيء لبنت الابن ، فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين . والأخت للأب والأم وللأب تكون عصبة مع البنت ، حتى لو مات عن بنت وأخت كان النصف للبنت والباقي للأخت ، فلو مات عن بنتين وأخت فللبنتين الثلثان والباقي للأخت . والدليل عليه ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أنا أبو قيس قال : سمعت هزيل بن شرحبيل قال : سئل أبو موسى عن ابنة وبنت ابن وأخت فقال : للبنت النصف ، وللأخت النصف ، وائت ابن مسعود ، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال : لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم : للبنت الصنف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم . رجعنا إلى تفسير الآية . واختلفوا في سبب نزولها . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل . أخبرنا أبو الوليد أنا شعبة عن محمد بن المنكدر : قال سمعت جابراً يقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت فقلت : يا رسول الله لمن الميراث ؟ إنما يرثني كلالة . فنزلت آية الفرائض . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته . وقال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد وترك امرأة وبنتين وأخاً ، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتي سعد فقالت : يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد وإن سعدا قتل يوم أحد شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما ولا تنكحان إلا ولهما مال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك . فنزل { يوصيكم الله } إلى آخرها . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما فقال له : أعط ابنتي سعد الثلثين . وأمهما الثمن . وما بقي فهو لك ، فهو أول ميراث قسم في الإسلام . قوله عز وجل : { يوصيكم الله في أولادكم } أي : يعهد إليكم ويفرض عليكم ( في أولادكم ) أي : في أمر أولادكم إذا متم . { للذكر مثل حظ الأنثيين } .
قوله تعالى : { فإن كن } . يعني : المتروكات من الأولاد .
قوله تعالى : { نساءً فوق اثنتين } . أي : اثنتين فصاعداً " فوق " صلة ، كقوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } .
قوله تعالى : { فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت } . يعني : البنت .
قوله تعالى : { واحدة } . قراءة العامة على خبر كان ورفعها أهل المدينة على معنى إن وقعت واحدة .
قوله تعالى : { فلها النصف ولأبويه } . يعني لأبوي الميت كناية عن غير مذكور .
قوله تعالى : { لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } . أراد أن الأب والأم يكون لكل واحد منهما سدس الميراث عند وجود الولد أو ولد الابن والأب يكون صاحب فرض .
قوله تعالى : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } . قرأ حمزة والكسائي { فلأمه } بكسر الهمزة استقلالاً للضمة بعد الكسرة ، وقرأ الآخرون بالضم على الأصل .
قوله تعالى : { فإن كان له إخوة } . اثنان أو أكثر ذكوراً أو إناثاً .
قوله تعالى : { فلأمه السدس } . والباقي يكون للأب إن كان معها أب والإخوة لا ميراث لهم مع الأب ولكنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما لا يحجب الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلا أن يكونوا ثلاثةً لأن الله تعالى قال : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } . ولا يقال للاثنين إخوة . فنقول : اسم الجمع قد يقع على التثنية لأن الجمع ضم شيء إلى شيء وهو موجود في الاثنين كما قال الله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } ذكر القلب بلفظ الجمع وأضافه إلى اثنين .
قوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } . قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر { يوصى } بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله ، وكذلك الثانية ، ووافق حفص في الثانية . وقرأ الآخرون بكسر الصاد لأنه جرى ذكر الميت من قبل بدليل قوله تعالى : { يوصين } و{ توصون } . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية ، وهذا إجماع أن الدين مقدم على الوصية ، ومعنى الآية : الجمع لا الترتيب وبيان أن الميراث مؤخر عن الدين والوصية جميعاً من بعد وصية إن كانت أو دين إن كان ، والإرث مؤخر عن كل واحد منهما .
قوله تعالى : { آباؤكم وأبناؤكم } . يعني الذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم .
قوله تعالى : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } . أي : لا تعلمون أنهم أنفع لكم في الدين والدنيا فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ، ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ، وأنا العالم بمن هو أنفع لكم وقد دبرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه . وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أطوعكم لله عز وجل من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة والله تعالى يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم .
قوله تعالى : { فريضةً من الله } . أي : ما قدر الله من المواريث .
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }
هذه الآيات والآية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها . فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري " ألْحِقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر " - مشتملات على جل أحكام الفرائض ، بل على جميعها كما سترى ذلك ، إلا ميراث الجدات فإنه غير مذكور في ذلك . لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس ، مع إجماع العلماء على ذلك .
فقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } أي : أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم ، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية ، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد ، وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } فالأولاد عند والديهم موصى بهم ، فإما أن يقوموا بتلك الوصية ، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب .
وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين ، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم ، عليهم .
ثم ذكر كيفية إرثهم فقال : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } أي : الأولاد للصلب ، والأولاد للابن ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، إن لم يكن معهم صاحب فرض ، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك ، وقد أجمع العلماء على ذلك ، وأنه -مع وجود أولاد الصلب- فالميراث لهم . وليس لأولاد الابن شيء ، حيث كان أولاد الصلب ذكورًا وإناثا ، هذا مع اجتماع الذكور والإناث . وهنا حالتان : انفراد الذكور ، وسيأتي حكمها . وانفراد الإناث ، وقد ذكره بقوله : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } أي : بنات صلب أو بنات ابن ، ثلاثا فأكثر { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة } أي : بنتا أو بنت ابن { فَلَهَا النِّصْفُ } وهذا إجماع .
بقي أن يقال : من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك ؟
فالجواب أنه يستفاد من قوله : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة ، انتقل الفرض عن النصف ، ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان . وأيضا فقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } إذا خلَّف ابنًا وبنتًا ، فإن الابن له الثلثان ، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين ، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين .
وأيضًا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررًا عليها من أختها ، فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى .
وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } نص في الأختين الثنتين .
فإذا كان الأختان الثنتان -مع بُعدهما- يأخذان الثلثين فالابنتان -مع قربهما- من باب أولى وأحرى . وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح .
بقي أن يقال : فما الفائدة في قوله : { فَوْقَ اثْنَتَيْن } ؟ . قيل : الفائدة في ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا . ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة ، وبنت ابن أو بنات ابن ، فإن لبنت الصلب النصف ، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس ، فيعطى بنت الابن ، أو بنات الابن ، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين .
ومثل ذلك بنت الابن ، مع بنات الابن اللاتي أنزل منها .
وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين ، أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات الابن لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين ، وقد تم . فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد من الثلثين ، وهو خلاف النص .
وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد .
ودل قوله : { مِمَّا تَرَكَ } أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك ، حتى الدية التي لم تجب إلا بعد موته ، وحتى الديون التي في الذمم{[186]}
ثم ذكر ميراث الأبوين فقال : { وَلِأَبَوَيْهِ } أي : أبوه وأمه { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أي : ولد صلب أو ولد ابن ذكرًا كان أو أنثى ، واحدًا أو متعددًا .
فأما الأُم فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد .
وأما الأب فمع الذكور منهم ، لا يستحق أزيد من السدس ، فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين- لم يبق له تعصيب . وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الأب السدس فرضًا ، والباقي تعصيبًا ، لأننا ألحقنا الفروض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر ، وهو أولى من الأخ والعم وغيرهما .
{ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي : والباقي للأب لأنه أضاف المال إلى الأب والأُم إضافة واحدة ، ثم قدر نصيب الأُم ، فدل ذلك على أن الباقي للأب .
وعلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرض له ، بل يرث تعصيبا المال كله ، أو ما أبقت الفروض ، لكن لو وجد مع الأبوين أحد الزوجين -ويعبر عنهما بالعمريتين- فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه ، ثم تأخذ الأُم ثلث الباقي والأب الباقي .
وقد دل على ذلك قوله : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي : ثلث ما ورثه الأبوان . وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب ، وإما ربع في زوجة وأم وأب . فلم تدل الآية على إرث الأُم ثلثَ المال كاملا مع عدم الأولاد حتى يقال : إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا .
ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء ، فيكون من رأس المال ، والباقي بين الأبوين .
ولأنا لو أعطينا الأُم ثلث المال ، لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج ، أو أخذ الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصفَ السدس ، وهذا لا نظير له ، فإن المعهود مساواتها للأب ، أو أخذه ضعفَ ما تأخذه الأم .
{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } أشقاء ، أو لأب ، أو لأم ، ذكورًا كانوا أو إناثًا ، وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد [ لكن قد يقال : ليس ظاهرُ قوله : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } شاملا لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف ، فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة الوارثون . ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال ، وهو معدوم ، والله أعلم ]{[187]} ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر ، ويشكل على ذلك إتيان لفظ " الإخوة " بلفظ الجمع . وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد ، لا الجمع ، ويصدق ذلك باثنين .
وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان ، كما في قوله تعالى عن داود وسليمان { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } وقال في الإخوة للأُم : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع . فعلى هذا لو خلف أمًّا وأبًا وإخوة ، كان للأُم السدس ، والباقي للأب فحجبوها عن الثلث ، مع حجب الأب إياهم [ إلا على الاحتمال الآخر فإن للأم الثلث والباقي للأب ]{[188]} .
ثم قال تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أي : هذه الفروض والأنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو للآدميين ، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته ، فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة .
وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للاهتمام بشأنها ، لكون إخراجها شاقًّا على الورثة ، وإلا فالديون مقدمة عليها ، وتكون من رأس المال .
وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للأجنبي الذي هو غير وارث . وأما غير ذلك فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة ، قال تعالى : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا }
فلو ردَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم ، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن ، في كل زمان ومكان . فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفع لهم ، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية .
{ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علمًا ، وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال .
وبعد أن بين - ما يجب على الرجال نحو النساء من إعطائهن حقوقهن ، وما يجب على الجميع نحو اليتامى من إكرامهم والمحافظة على أموالهم . . . . بعد أن بين - سبحانه - ذلك ، شرع فى بيان حقوق أكثر الوارثين ، بعد أن أجملها فى قوله - تعالى - { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } فقال - تعالى : { يُوصِيكُمُ الله . . . . عَذَابٌ مُّهِينٌ } .
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 11 ) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 ) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 13 ) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 14 )
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لقوله - تعالى - { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } الآية :
" هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التى هى خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض . وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ، ومن الأحاديث الواردة فى ذلك مما هو كالتفسير لذلك . وقد ورد الترغيب فى تعلم الفرائض فقد روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العلم ثلاث وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة - أى غير منسوخة - أو سنة قائمة - أى ثابتة - أو فريضه عادلة - أى عادلة فى فسمتها بين أصحابها - " .
وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلموا الفرائض وعلموه الناس ؛ فإنه نصف العلم . وهو أول شئ ينسى . . وهو أول شئ ينزع من أمتى " .
ثم قال ابن كثير : وقال البخارى عن تفسير هذه الآية : عن جابر بن عبد الله قال : عادنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فى بنى سلمة ماشيين فوجدنى النبى صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا . فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش على فأفقت . فقلت : يا رسول الله ما تأمرنى أن أصنع فى مالى ؟ فنزلت { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } الآية .
وفى حديث آخر رواه أبو داود والترمذى وابن ماجه عن جابر قال : " جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ! هاتان ابنتا سعد بن الربيع . قتل أبوهما معك يوم احد شهيدا . وان عمها أخذ مالها فلم يدع لهما مالا . ولا تنكحان إلا ولهما مقال . فقال صلى الله عليه وسلم : " يقضى الله فى ذلك " فنزلت آية الميراث . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمها فقال صلى الله عليه وسلم : أعط ابنتى سعد الثلثين ، وأمهما الثمني ، وما بقى فهو لك " .
ثم قال ابن كثير : والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتى ، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ولم يكن له بنات ، وإنما كان يورث كلالة . والحديث الثانى عن جبار أشبه بنزول هذه الآية . هذا ، وقوله - تعالى - { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } بيان لما إذا مات الميت وترك أولادا من الذكور والإِناث .
وقوله { يُوصِيكُمُ } من الوصية ، وهى - كما يقول الراغب - : التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم : أرض واصية أى متصلة البنات ويقال : أوصاه ووصاه .
. . ويقال : تواصى القوم إذا أوصى بعضهم بعضا . . . والمراد بقوله { يُوصِيكُمُ } : أى يأمركم أمرا مؤكدا .
والأولاد : جمع ولد - بوزن فعل مثل أسد - والولد : اسم للمولود ذكرا كان أو أنثى والحظ : النصيب المقدر .
والمعنى : يعهد الله إليكم ويأمركم أمرا مؤكدا فى شأن ميراث أولادكم من بعد موتتكم أن يكون نصيب الذكر منهم فى الميراث نصيب الأنثيين .
وصدر - سبحانه - هذه الأحكام بقوله { يُوصِيكُمُ } اهتماما بشأنها ، وإيذانا بوجوب سرعة الامتثال لمضمونها ، إذ الوصيية من الله - تعالى - إيجاب مؤكد ، بدليل قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ } أى أوجب عليكم الانقياد لهذا الحكم إيجاباً مؤكداً .
وحرف { في } هنا للظرفية المجازية ، ومجروها محذوف قام المضاف إليه مقامه ، لأن ذوات الأولاد لا تصلح ظرفا للوصية ، والتقدير : يوصيكم الله فى توريث أولادكم أو فى شأنهم .
وبدأ - سبحانه - ببيان ميراث الأولاد ، لأنهم أقرب الناس إلى الإِنسان ، ولأن تعلق الإِنسان بأولاده أشد من تعلقه بأى إنسان آخر .
وقوله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } جملة مستأنفة لا محل لها من الإِعراب لأنها فى موضع التفصيل والبيان لجملة { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } .
وقد جعل - سبحانه - نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى ، لأن التكليفات المالية على الأنثى تقل كثيراً عن التكليفات المالية على الذكر ، إذ الرجل مكلف بالنفقة على نفسه وعلى أولاده وعلى زوجته وعلى كل من يعولهم بينما المرأة نصيبها من الميراث لها خاصة لا يشاركها فيه مشارك .
وبهذا يتبين أن الإِسلام قد أكرم المرأة غاية الإِكرام حيث أعطاها هذا النصيب الخاص بها من الميراث بعد أن كانت فى الجاهلية لا ترث شيئاً .
ولم يقل - سبحانه - للذكر ضعف نصيب الأنثى ، لأن الضعف قد يصدق على المثلين فصاعدا ، فلا يكون نصا .
ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر ولا للأنثى نصف حظ الذكر ، لأن المقصود تقديم الذكر لبيان فضله ومزيته على الأنثى .
وعبر بالذكر والأنثى دون الرجال والنساء ، للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين فى الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر فى ذلك أصلا ، كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال ولا النساء .
وبعد أن بين - سبحانه - كيفية قسمة التركة إذا كان الورثة أولادا ذكورا وإناثا ، عقب ذلك ببيان كيفية تقسيم التركبة إذا كان الورثة من الأولاد الإِناث فقط فقال - تعالى - : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك .
قال الآلوسى : الضمير للأولاد مطلقا ، ولزوم تغليب الإِناث على الذكور لا يضر ، لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له . ويجوز أن يعود إلى المولودات أو البنات اللاتى فى ضمن مطلق الأولاد . . والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية .
والمعنى : فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن فلهن ثلثا ما ترك المتوفى .
وهذه الجملة الكريمة قد بينت بالقول الصريح نصيب الأكثر من البنتين وهو الثلثان إلا أنها لم تبين نصيب البنتين بالقول الصريح .
وقد روى عن ابن عباس أنه قال : الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا وأما فرض البنتين فهو النصف . ودليله صريح منطوق الآية ، فقد اشترطت أن أخذ ثلثى التركة للنساء يكون إذا كن فوق اثنتين أى ثلاثا فصاعدا ، وذلك ينفى حصول الثلثين للبنتين .
وقال جمهور العلماء : البنتان لاحقتان بالبنات ، فلهما الثلثان إذا انفردتا عن البنين كما أن البنات لهن الثلثان كذلك .
وقد بسط الفخر الرازى أدلة الجمهور على أن للبنتين الثلثين كالبنات فقال ما ملخصه :
وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان . قالوا : وإنما عرفنا ذلك بوجوه :
أولها : من قوله - تعالى - { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } وذلك لأن من مات وترك غبنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله - تعالى - { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } ، فإذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين . ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان ، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين .
الثانى : إذا مات وترك إبنا وبنتا فههنا يكون نصيب البنت الثلث بدليل { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث فبأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث أولى ، لأن الذكر أقوى من الأنثى وإذا كان للبنت الثلث مع أختها وللأخرى كذلك فقد صار لهما الثلثان .
الثالث : أن قوله - تعالى - { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة ، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك خلاف النص . وإذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فتقول : وجب أن يكون ذلك هو الثلثان ، لأنه لا قائل بالفرق .
والرابع : أنا ذكرنا فى سبب نزول الآية أنه صلى الله عليه وسلم أعطى بنتى سعد بن الربيع الثلثين ، وذلك يدل على ما قلناه .
الخامس : أنه - سبحانه - ذكر فى هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ولم يذكر حكم الثنتين وذكر فى شرح ميراث الأخوات - فى آخر السورة { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ . . . . فَإِن كَانَتَا اثنتين . . . . مِمَّا تَرَكَ } فهنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين دون الأخوات ، فصارت كل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه ومبينة من وجه فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك ، لأنهما أقرب إلى الميت من الأختين .
والوجوه الثلاثة الأول مستنبطة من الآية . والرابع مأخوذ من السنة .
هذا وقد صح عن ابن عباس أنه رجع إلى قول الجمهور فانعقد الإِجماع على أن للبنتين الثلثين .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا ترك الشخص بنتا واحدة فقال : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } .
أى وإن كانت المولودة أنثى واحدة ليس معها أخ ولا أخت فلها النصف أى نصف ما تركه المتوفى .
وإلى هنا تكرن الآية قد ذكرت ثلاث حالات للأولاد فى الميراث :
الأولى : أن يترك الميت ذكوراً وإناثاً . وفى هذه الحالة يكون الميراث بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين .
الثانية : أن يترك الميت بنتين فأكثر وليس معهما أخ ذكر : وفى هذه الحالة يكون لهما أولهن الثلثان خلافا لابن عباس فى البنتين - كما سبق أن بينا .
الثالثة : أن يترك الميت بنتا واحدة وليس معها أخر ذكر . وفى هذه الحالة يكون لها النصف .
قال بعض العلماء : هذا توريث الأولاد . ويلاحظ ما يأتى :
أولا : أن نصيب الأولاد إذا كانوا ذكوروا وإناثا إنما يكون بعد أن يأخذ الأبوان والأجداد والجدات وأحد الزوجين أنصبتهم . فإذا كان لمتوفى أب وزوجة وأبناء وبنات ، فان القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين تكون بعد أخذ الأب والزوجة نصييبهما .
ثانيا : أن الأولاد يطلقون على كل فروع الشخص من صلبه : أى أبناؤه وأبناء أبنائه وبناته وبنات أبنائه . أما أولاد بناته فليسوا من أولاده . وقد خالف فى ذلك الشيعة فلم يفرقوا فى نسبة الأولاد بين من يكون من أولاد الظهور ومن يكون من أولاد البطون . أى : لا يفرقون بين من تتوسط بينه وبين المتوفى أنثى ومن لا تتوسط .
ثالثا : أن أبناء المتوفى وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات أبنه . أى . أن الطبقة الأولى تمنع من يليها :
رابعا : أن بنات الابن يأخذن البنات تماما إذا لم يكن لشخص أولاد قط لا ذكور ولا إناث .
وبعد أن بين - سبحانه - ميراث الأولاد أعقبه ببيان ميراث الأبوين فقال : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس } .
وقد ذكر - سبحانه - هنا ثلاث حالات للأبوين .
أما الحالة الأولى : فيشترك فيها الأب والأم بأن يأخذ كل واحد منهما السدس إذا كان للميت ولد . وقد عبر - سبحانه - عن هذه الحالة بقوله : { وَلأَبَوَيْهِ } أى لأبوى الميت ذكرا كان أو أنثى . والضمير فى { أبويه } كناية عن غير مذكور . وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه .
والمراد بالأبوين : الأب والأم . والتثنية على لفظ الأب للتغليب .
وقوله { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } بدل من قوله { وَلأَبَوَيْهِ } بتكرير العامل وهو اللام فى قوله { لِكُلِّ } . وفائدة هذا البدل أنه لو قيل : ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه .
وقوله { السدس } بيان للنصيب الذى يستحقه كل واحد من الأبوين .
أى : أن لكل واحد من أبوى الميت السدس مما ترك من المال { إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أى : إن كان لهذا الميت ولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر .
قال القرطبى : فرض الله - تعالى - لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس ، وأبهم الولد فكان الذكر والأنثى فيه سواء . فان مات رجل وترك أبناء وابوين فلابويه لكل واحد منهم السدس وما بقى فللابن . فان ترك ابنة وأبوين فللابنة النصف وللأبوين السدسان وما بقى فلأقرب عصبة وهو الأب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ، فاجتمع للأب الاستحقاق بجهتين التعصيب والفرض " .
والحالة الثانية : وهى ما إذا مات وورثه أبواه ، وقد بين - سبحانه - حكمها بقوله : { إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث } .
أى فإن لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن وورثه أبواه فقط ، ففى هذه الحالة يكون لأم الميت ثلث التركة ، ولأبيه الباقى من التركة وهو الثلثان ، إذ لا وارث له سواهما . فاذا كان معهما أحد الزوجين كان للأم ثلث الباقى بعد نصيب الزوج أو الزوجة وثلثاه للأب وهذا رأى جمهور الصحابة وهو الذى اختاره الأئمة الأربعة وأكثر فقهاء الامصار .
أما الحالة الثالثة : وهى ما إذا مات الميت وترك الأبوين ومعهما إخوة أو أخوات فقد بين - سبحانه - حكمها بقوله : فان كان له إخوة فلأمه السدس أى : فان كان للميت إخوة من الأب والأم . أو من الأب فقط ، أو من الأم فقط ذكورا كانوا أو أناثا أو مختلطين ففى هذه الحالة يكون لأم الميت سدس التركة والباقى . للأب ولا ميراث للإِخوة لحجبهم بالأب وبهذا نرى أن إخوة الميت ينقصون الأم من الثلث إلى السدس وإن كانوا محجوبين بالأب .
وإذا شرط الله فى انقاص نصيبها من الثلث إلى السدس الجماعة من الإِخوة علم أن الأخ الواحد لا يحجبها عن الثلث بل يبقى لها الثلث .
أما الأخوان فيرى جمهور الصحابة والعلماء المجتهدين أنهما ينقصانها من الثلث إلى السدس . لأنه قد ورد فى اللغة اطلاق الجمع على الأثنين كما فى قوله - تعالى - { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ولأن الشارع قد جعل الأختين كالثلاث فى الميراث . وكذلك جعل البنتين كالثلاث . ولا فرق بين الذكور والاناث .
ويروى عن ابن عباس أن الاخوين لا ينقصان الأم من الثلث إلى السدس فشأنهما شأن الأخ الواحد لأن الله - تعالى - قال { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } بصيغة الجمع ، والجمع أقله ثلاث بخلاف التثنية . والعمل على ما ذهب إليه الجمهور .
وإلى هنا تكون الآية الكريمة بد بينت ميراث الأولاد والأبوين . ثم عقبت ذلك ببيان الوقت الذى تدفع فيه هذه الأموال إلى مستحقيها من الورثة فقالت : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } .
أى هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصى بها الميت إلى الثلث . ومن بعد قضاء دين على الميت .
فالجملة الكريمة متعلقة بما تقدم قبلها من قسمة المواريث ؛ فكأنه قال : قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها الميت ومن بعد قضاء دين عليه .
ثم بين - سبحانه - حكمة هذا التقسيم وأكد وجوب تنفيذه فقال : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
قال الآلوسى : الخطاب للورثة . وقوله { آبَآؤُكُمْ } معطوف عليه . وقوله { وَأَبناؤُكُمْ } مع ما فى حيزه خبر له . وأىّ ما استفهامية مبتدأ . وقوله { أَقْرَبُ } خبره والفعل معلق عنها فهى سادة مسد المفعولين . واما موصولة ، قوله { أَقْرَبُ } خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة الموصول . وأيهم مفعول أول مبنى على الضم لإِضافته وحذف صدر صلته . والمفعول الثاني محذوف . وقوله { نَفْعاً } نصب على التميز وهو منقول من الفاعلية . وجملة { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } أعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية .
والمعنى أن الله - تعالى - قد فرض لكم هذه الفرائض ؛ وقسم بينكم الميراث هذا التقسيم العادل فعليكم أن تلتزموا بتنفيذ قسمة الله التى قسمها لكم ، ولا يصح لكم أن تحكموا أهواءكم فى أموالكم ، فإنكم لا تعلمون من أنفع لكم من أصولكم وفروعكم فى دنياكم وآخرتكم .
وقد صدر - سبحانه الجملة الكريمة بذكر الآباء والأبناء لقوة قرابتهم واتحاد اتصالهم ، ومع ذلك لا يدرون النافع مهم ، لأن الله - تعالى - وحده هو العليم بأحوال عباده ، وبما تسره وتعلنه نفوسهم .
ثم أكد الله - تعالى - وجوب الانقياد لما شرعه لهم فى شأن المواريث بتأكيدين :
أولهما : قوله - تعالى - { فَرِيضَةً مِّنَ الله } .
أى : فرض الله ذلك التقسيم لميراث فريضة ، وقدره تقديرا فلا يجوز لكم أن تخالفوه ، لأنه تقدير الله وقسمته ، وليس لأحد أن يخالف قسمة الله وشرعه .
وقوله { فَرِيضَةً } منصوب على أنه مصدر مؤكد لنفسه ، على حد قولهم ؛ هذا ابنى حقا ، لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره ، فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا . أى فرض ذلك فريضة من الله .
وأما التأكيد الثاني : فهو قوله - تعالى - : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أى إن الله - تعالى - كان عليما بما يصلح أمر العباد فى دنياهم وآخرتهم ، حكيما فيما قضى وقدر من شئون وتشريعات ، فعليكم أن تقفوا عندما قضى وشرع لتفوزوا بمثوبته ورعايته ورضاه .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : ومناسبة هذا الكلام هنا أنه - تعالى - لما ذكر أنصباء الأولاد والأبوين ، وكانت تلك الأنصباء مختلفة .
. والإِنسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه لكانت أنفع له وأصلح ، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث مخالفة لما جاءت به الإِسلام . لما كان الأمر كذلك أزال الله هذه الشهبة بأن قال : إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فربما اعتقدتم فى شئ أنه صالح لكم وهو عين المضرة ، وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة وهو عين المصلحة ، وأما الإِله الحكيم الرحيم فهو عالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التى تستحسنها عقولكم ، وكونوا مطيعين لأمر الله فى هذه التقديرات التى قدرها لكم ، فقوله { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } إشارة إلى ترك ما يميل إليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة . وقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } إشارة الى وجوب الانقياد لهذه القسمة التى قدرها الشرع وقضى بها .
والأن نجيء إلى نظام التوارث . حيث يبدأ بوصية الله للوالدين في أولادهم ؛ فتدل هذه الوصية على أنه - سبحانه - أرحم وأبر وأعدل من الوالدين مع أولادهم ؛ كما تدل على أن هذا النظام كله مرده إلى الله سبحانه ؛ فهو الذي يحكم بين الوالدين وأولادهم ، وبين الأقرباء وأقاربهم . وليس لهم إلا أن يتلقوا منه سبحانه ، وأن ينفذوا وصيته وحكمه . . وأن هذا هو معنى " الدين " الذي تعنى السورة كلها ببيانه وتحديده كما أسلفنا . . كذلك يبدأ بتقرير المبدأ العام للتوارث : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) . . ثم يأخذ في التفريع ، وتوزيع الأنصبة ، في ظل تلك الحقيقة الكلية ، وفي ظل هذا المبدأ العام . . ويستغرق هذا التفصيل آيتين : أولاهما خاصة بالورثة من الأصول والفروع ، والثانية خاصة بحالات الزوجية والكلالة . ثم تجيء بقية أحكام الوراثة في آخر آية في السورة استكمالا لبعض حالات الكلالة [ وسنعرضها في موضعها ] :
( يوصيكم الله في أولادكم : للذكر مثل حظ الأنثيين . فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك . وإن كانت واحدة فلها النصف . ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك - إن كان له ولد - فإن لم يكن له ولد ، وورثه أبواه ، فلأمه الثلث . فإن كان له إخوة فلأمه السدس - من بعد وصية يوصي بها أو دين - آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا . فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما . . ولكم نصف ما ترك أزواجكم - إن لم يكن لهن ولد - فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن - من بعد وصية يوصين بها أو دين - ولهن الربع مما تركتم - إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم - من بعد وصية توصون بها أو دين - وإن كان رجل يورث كلالة ، أو امرأة ، وله أخ أو أخت ، فلكل واحد منهما السدس . فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث - من بعد وصية يوصى بها أو دين - غير مضار ، وصية من الله ، والله عليم حليم ) . .
هاتان الآيتان ، مضافا إليهما الآية الثالثة التي في نهاية السورة ، ونصها : ( يستفتونك . قل : الله يفتيكم في الكلالة : إن امرؤ هلك ليس له ولد ، وله أخت ، فلها نصف ما ترك . وهو يرثها - إن لم يكن لها ولد - فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك . وإن كانوا إخوة رجالا ونساء ، فللذكر مثل حظ الأنثيين . يبين الله لكم أن تضلوا ، والله بكل شيء عليم ) . .
هذه الآيات الثلاث تتضمن أصول علم الفرائض - أي علم الميراث - أما التفريعات فقد جاءت السنة ببعضها نصا ، واجتهد الفقهاء في بقيتها تطبيقا على هذه الأصول . وليس هنا مجال الدخول في هذه التفريعات والتطبيقات فمكانها كتب الفقه - فنكتفي - في ظلال القرآن - بتفسير هذه النصوص ، والتعقيب على ما تتضمنه من أصول المنهج الإسلامي . .
( يوصيكم الله في أولادكم : للذكر مثل حظ الأنثيين . . ) . .
وهذا الافتتاح يشير - كما ذكرنا - إلى الأصل الذي ترجع إليه هذه الفرائض ، وإلى الجهة التي صدرت منها ، كما يشير إلى أن الله أرحم بالناس من الوالدين بالأولاد ، فإذا فرض لهم فإنما يفرض لهم ما هو خير مما يريده الوالدون بالأولاد . .
وكلا المعنيين مرتبطان ومتكاملان . .
إن الله هو الذي يوصي ، وهو الذي يفرض ، وهو الذي يقسم الميراث بين الناس - كما أنه هو الذي يوصي ويفرض في كل شيء ، وكما أنه هو الذي يقسم الأرزاق جملة - ومن عند الله ترد التنظيمات والشرائع والقوانين ، وعن الله يتلقى الناس في أخص شؤون حياتهم - وهو توزيع أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم - وهذا هو الدين . فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده ؛ وليس هناك إسلام ، إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور - جل أو حقر - من مصدر آخر . إنما يكون الشرك أو الكفر ، وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس .
وإن ما يوصي به الله ، ويفرضه ، ويحكم به في حياة الناس - ومنه ما يتعلق بأخص شؤونهم ، وهو قسمة أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم - لهو أبر بالناس وأنفع لهم ، مما يقسمونه هم لأنفسهم ، ويختارونه لذرياتهم . . فليس للناس أن يقولوا : إنما نختار لأنفسنا . وإنما نحن أعرف بمصالحنا . . فهذا - فوق أنه باطل - هو في الوقت ذاته توقح ، وتبجح ، وتعالم على الله ، وادعاء لا يزعمه إلا متوقح جهول !
قال العوفي عن ابن عباس : " [ ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) . . وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض ، للولد الذكر ، والأنثى ، والأبوين ، كرهها الناس - أو بعضهم - وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن ، وتعطى الابنة النصف ، ويعطى الغلام الصغير . وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ، ولا يجوز الغنيمة ! اسكتوا عن هذا الحديث ، لعل رسول الله [ ص ] ينساه ، أو نقول له فيغير ! فقالوا : يا رسول الله ، تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفرس ، ولا تقاتل القوم . ويعطى الصبي الميراث ، وليس يغني شيئا - وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، ولا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ، ويعطونه الأكبر فالأكبر ] . . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير . .
فهذا كان منطق الجاهلية العربية ، الذي كان يحيك في بعض الصدور ؛ وهي تواجه فريضة الله وقسمته العادلة الحكيمة . . ومنطق الجاهلية الحاضرة الذي يحيك في بعض الصدور اليوم - وهي تواجه فريضة الله وقسمته - لعله يختلف كثيرا أو قليلا عن منطق الجاهلية العربية . فيقول : كيف نعطي المال لمن لم يكد فيه ويتعب من الذراري ؟ وهذا المنطق كذاك . . كلاهما لا يدرك الحكمة ، ولا يلتزم الأدب ؛ وكلاهما يجمع من ثم بين الجهالة وسوء الأدب !
وحين لا يكون للميت وارث إلا ذريته من ذكور وإناث ، فإنهم يأخذون جميع التركة ، على أساس أنللبنت نصيبا واحدا ، وللذكر نصيبين اثنين .
وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس . إنما الأمر أمر توازن وعدل ، بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي ، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي : فالرجل يتزوج امرأة ، ويكلف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة ، وهي معه ، وهي مطلقة منه . . . أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط ، وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء . وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال . . فالرجل مكلف - على الأقل - ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي ، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي . ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم . ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى ، وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسري لا تستقيم معها حياة .
ويبدأ التقسيم بتوريث الفروع عن الأصول :
( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ، وإن كانت واحدة فلها النصف ) .
فإذا لم يكن له ذرية ذكور ، وله بنتان أو أكثر فلهن الثلثان . فإن كان له بنت واحدة فلها النصف . . ثم ترجع بقية التركة إلى أقرب عاصب له : الأب أو الجد . أو الأخ الشقيق . أو الأخ لأب . أو العم . أو أبناء الأصول . . .
والنص يقول : ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) . . وهذا يثبت الثلثين للبنات - إذا كن فوق اثنتين - أما إثبات الثلثين للبنتين فقط فقد جاء من السنة ومن القياس على الأختين في الآية التي في آخر السورة .
فأما السنة فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر . قال : [ جاءت امرأة سعد بن الربيع ، إلى رسول الله [ ص ] فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا ؛ وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ؛ ولا ينكحان إلا ولهما مال . قال : فقال : " يقضي الله في ذلك " فنزلت آية الميراث . فأرسل رسول الله [ ص ] إلى عمهما ، فقال : " اعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك " ] . .
فهذه قسمة رسول الله [ ص ] للبنتين بالثلثين . فدل هذا على أن البنتين فأكثر ، لهما الثلثان في هذه الحالة .
وهناك أصل آخر لهذه القسمة ؛ وهو أنه لما ورد في الآية الأخرى عن الأختين : ( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ) . . كان إعطاء البنتين الثلثين من باب الأولى ، قياسا على الأختين . وقد سويت البنت الواحدة بالأخت الواحدة كذلك في هذه الحالة .
وبعد الانتهاء من بيان نصيب الذرية يجيء بيان نصيب الأبوين - عند وجودهما - في الحالات المختلفة . مع وجود الذرية ومع عدم وجودها :
( ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك - إن كان له ولد - فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث . فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) .
والأبوان لهما في الإرث أحوال :
الحال الأول : أن يجتمعا مع الأولاد ، فيفرض لكل واحد منهما السدس والبقية للولد الذكر أو للولد الذكر مع أخته الأنثى أو أخواته : للذكر مثل حظ الأنثيين . فإذا لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لهاالنصف ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس . وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب ، فيجمع له في هذه الحالة بين الفرض والتعصيب . أما إذا كان للميت بنتان فأكثر فتأخذان الثلثين ، ويأخذ كل واحد من الأبوين السدس .
والحال الثاني : ألا يكون للميت ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة ، وينفرد الأبوان بالميراث . فيفرض للأم الثلث ، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب ، فيكون قد أخذ مثل حظ الأم مرتين . فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف ، أو الزوجة الربع . وأخذت الأم الثلث [ إما ثلث التركة كلها أو ثلث الباقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة على خلاف بين الأقوال الفقهية ] وأخذ الأب ما يتبقى بعد الأم بالتعصيب على ألا يقل نصيبه عن نصيب الأم .
والحال الثالث : هو اجتماع الأبوين مع الإخوة - سواء كانوا من الأبوين أو من الأب ، أو من الأم - فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا ، لأنه مقدم عليهم وهو أقرب عاصب بعد الولد الذكر ؛ ولكنهم - مع هذا - يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس . فيفرض لها معهم السدس فقط . ويأخذ الأب ما تبقى من التركة . إن لم يكن هناك زوج أو زوجة . أما الأخ الواحد فلا يحجب الأم عن الثلث ، فيفرض لها الثلث معه ، كما لو لم يكن هناك ولد ولا إخوة .
ولكن هذه الأنصبة كلها إنما تجيء بعد استيفاء الوصية أو الدين :
( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) . .
قال ابن كثير في التفسير : " أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية " . . وتقديم الدين مفهوم واضح . لأنه يتعلق بحق الآخرين . فلا بد من استيفائه من مال المورث الذي استدان ، ما دام قد ترك مالا ، توفية بحق الدائن ، وتبرئة لذمة المدين . وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من الدين ؛ كي تقوم الحياة على أساس من تحرج الضمير ، ومن الثقة في المعاملة ، ومن الطمأنينة في جو الجماعة ، فجعل الدين في عنق المدين لا تبرأ منه ذمته ، حتى بعد وفاته :
عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رجل : يا رسول الله . أرأيت إن قتلت في سبيل الله ، أتكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله [ ص ] : " نعم . إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر " . ثم قال : " كيف قلت ؟ " فأعاد عليه . فقال : " نعم . إلا الدين . فإن جبريل أخبرني بذلك " . . [ أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي ] .
وعن أبي قتادة كذلك : أتي النبي [ ص ] برجل ليلصلي عليه . فقال [ ص ] : " صلوا على صاحبكم فإن عليه دينا " فقلت : هو علي يا رسول الله . قال : " بالوفاء ؟ " قلت : بالوفاء . فصلى عليه .
وأما الوصية فلأن إرادة الميت تعلقت بها . وقد جعلت الوصية لتلافي بعض الحالات التي يحجب فيها بعض الورثة بعضا . وقد يكون المحجوبون معوزين ؛ أو تكون هناك مصلحة عائلية في توثيق العلاقات بينهم وبين الورثة ؛ وإزالة أسباب الحسد والحقد والنزاع قبل أن تنبت . ولا وصية لوارث . ولا وصية في غير الثلث . وفي هذا ضمان ألا يجحف المورث بالورثة في الوصية .
وفي نهاية الآية تجيء هذا اللمسات المتنوعة المقاصد :
( آباءكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا . فريضة من الله . إن الله كان عليما حكيما ) . .
واللمسة الأولى لفتة قرآنية لتطييب النفوس تجاه هذه الفرائض . فهنالك من تدفعهم عاطفتهم الأبوية إلى إيثار الابناء على الآباء ، لأن الضعف الفطري تجاه الابناء أكبر . وفيهم من يغالب هذا الضعف بالمشاعر الأدبية والأخلاقية فيميل إلى إيثار الآباء . وفيهم من يحتار ويتأرجح بين الضعف الفطري والشعور الأدبي . . كذلك قد تفرض البيئة بمنطقها العرفي اتجاهات معينة كتلك التي واجه بها بعضهم تشريع الإرث يوم نزل ، وقد أشرنا إلى بعضها من قبل . . فأراد الله سبحانه أن يسكب في القلوب كلها راحة الرضى والتسليم لأمر الله ، ولما يفرضه الله ؛ بإشعارها أن العلم كله لله ؛ وأنهم لا يدرون أي الأقرباء أقرب لهم نفعا . ولا أي القسم أقرب لهم مصلحة :
( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) . .
واللمسة الثانية لتقرير أصل القضية . فالمسألة ليست مسألة هوى أو مصلحة قريبة . إنما هي مسألة الدين ومسألة الشريعة :
فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء . والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال . والله هو الذي يفرض ، وهو الذي يقسم ، وهو الذي يشرع . وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم ، ولا أن يحكموا هواهم ، كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم !
( إن الله كان عليما حكيما ) . .
وهي اللمسة الثالثة في هذا التعقيب . تجيء لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس - مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره - فهو كذلك المصلحة المبنية على العلم والحكمة . فالله يحكم لأنه عليم - وهم لا يعلمون - والله يفرض لأنه حكيم - وهم يتبعون الهوى .
وهكذا تتوالى هذه التعقيبات قبل الانتهاء من أحكام الميراث ، لرد الأمر إلى محوره الأصيل . محوره الاعتقادي . الذي يحدد معنى " الدين " فهو الاحتكام إلى الله . وتلقي الفرائض منه . والرضى بحكمه : ( فريضة من الله . إن الله كان عليما حكيما ) . .
{ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِيَ أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لّمْ يَكُنْ لّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاُمّهِ الثّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاُمّهِ السّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يُوصِيكُمُ اللّهُ } : بعهد الله إليكم ، { فِي أوْلاَدِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ } يقول يعهد إليكم ربكم إذا مات الميت منكم ، وخلف أولادا ذكورا وإناثا ، فلولده الذكور والإناث ميراثه أجمع بينهم ، للذكر منهم مثل حظّ الأنثيين ، إذا لم يكن له وارث غيرهم ، سواء فيه صغار ولده وكبارهم وإناثهم في أن جميع ذلك بينهم للذكر مثل حظّ الأنثيين ورفع قوله : «مثل » ، بالصفة ، وهي اللام التي في قوله : { للذّكَرِ } ولم ينصب بقوله : { يُوصِيكُمُ اللّهُ } لأن الوصية في هذا الموضع عهد وإعلام بمعنى القول ، والقول لا يقع على الأسماء المخبر عنها ، فكأنه قيل : يقول الله تعالى ذكره : لكم في أولادكم للذكر منهم مثل حظّ الأنثيين . وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم تبيينا من الله الواجب من الحكم في ميراث من مات وخلف ورثة على ما بيّن ، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده ممن كان لا يلاقي العدوّ ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ، ولا للنساء منهم ، وكانو يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية ، فأخبر الله جلّ ثناؤه أن ما خلفه الميت بين من سمى وفرض له ميراثا في هذه الاَية وفي آخر هذه السورة ، فقال في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم : لهم ميراث أبيهم إذا لم يكن له وارث غيرهم ، للذكر مثل حظّ الأنثيين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يُوصِيكُمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ } كان أهل الجاهلية لا يورّثون الجواري ، ولا الصغار من الغلمان ، لا يرث الرجلَ من ولده إلا من أطاق القتال . فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر ، وترك امرأة يقال لها أم كُحة وترك خمس أخوت ، فجاءت الورثة يأخذون ماله ، فشكت أم كحة ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الاَية : { فإنْ كُنّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثا ما تَركَ وإنْ كانَتْ واحِدةً فَلَها النّصْفُ } ثم قال في أم كحة : { ولهُنّ الرّبعُ مِمّا تَركْتُمْ إنْ لمْ يَكنْ لَكُمْ ولَدٌ فإنْ كان لَكُمْ ولَدٌ فلَهُنّ الثمنٌ } .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { يُوصِيكُمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ } وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم ، وقالوا : تعطى المرأة الربع والثمن ، وتعطى الابنة النصف ، ويعطى الغلام الصغير ، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة ! اسكتوا عن هذا الحديث ، لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه ، أو نقول له فيغيره ! فقال بعضهم : يا رسول الله ، أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفرس ، ولا تقاتل القوم ، ونعطي الصبيّ الميراث ، وليس يغني شيئا ؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، لا يعطون الميراث إلا من قاتل ، ويعطونه الأكبر فالأكبر .
وقال آخرون : بل نزل ذلك من أجل أن المال كان للولد قبل نزوله ، وللوالدين الوصية ، فنسخ الله تبارك وتعالى ذلك بهذه الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أو عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { يُوصِيكمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ } قال : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله من ذلك ما أحبّ ، فجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد ، وللزوج الشطر والربع ، وللزوجة الربع والثمن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يُوصِيكُمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ } قال : كان ابن عباس يقول : كان المال وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسح الله تبارك وتعالى من ذلك ما أحبّ ، فجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس مثله . ورُوي عن جابر بن عبد الله ما :
حدثنا به محمد بن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، قال : سمعت جابر بن عبد الله ، قال : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض ، فتوضأ ونضح عليّ من وَضوئه فأفقت ، فقلت : يا رسول الله إنما يرثني كلالةٌ ، فكيف بالميراث ؟ فنزلت آية الفرائض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثني محمد بن المنكدر عن جابر ، قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في بني سملة يمشيان ، فوجداني لا أعقل ، فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم رشّ عليّ فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي ؟ فنزلت { يُوصِيكُمُ اللّهُ في أوْلادِكمْ } . . . الاَية .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ كُنّ نِساءً فَوْق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلثا ما تَركَ } .
يعني بقوله : { فإنْ كُنّ } فإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين . ويعني بقول نِساء : بنات الميت فوق اثنتين ، يقول : أكثر في العدد من اثنتين . { فَلهُنّ ثُلُثا ما تَرَكَ } يقول : فلبناته الثلثان مما ترك بعده من ميراثه دون سائر ورثته إذا لم يكن الميت خلف ولدا ذكرا معهن .
واختلف أهل العربية في المعنيّ بقوله : { فإنْ كُنّ نِساءً } فقال بعض نحويي البصرة بنحو الذي قلنا : فإن كان المتروكات نساء ، وهو أيضا قول بعض نحويي الكوفة .
وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : فإن كان الأولاد نساء . وقال : إنما ذكر الله الأولاد ، فقال : { يُوصِيكُمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ } ثم قسم الوصية ، فقال : { فإنْ كُنّ نِساءً } وإن كان الأولاد واحدة ترجمة منه بذلك عن الأولاد .
قال أبو جعفر : والقول الأوّل الذي حكيناه عمن حكيناه عنه من البصريين أولى بالصواب في ذلك عندي ، لأن قوله : «وإن كنّ » ، لو كان معنيا به الأولاد ، لقيل : وإن كانوا ، لأن الأولاد تجمع الذكور والإناث ، وإذا كان كذلك ، فإنما يقال : كانوا لا كنّ .
القول في تأويل قوله تعالى : { وإنْ كانَتْ واحِدةً فَلَها النّصْفُ ولأبَويْهِ لِكُلّ واحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ مِمّا تَرك إنْ كان لَهُ وَلَدٌ } .
يعني بقوله : وإن كانت المتروكة ابنة واحدة ، فلها النصف ، يقول : فلتلك الواحدة نصف ما ترك الميت من ميراثه إذا لم يكن معها غيرها من ولد الميت ذكر ولا أنثى .
فإن قال قائل : فهذا فرض الواحدة من النساء ، وما فوق الاثنتين ، فأين فريضة الاثنتين ؟ قيل : فريضتهم بالسنة المنقولة نقل الوراثة التي لا يجوز فيها الشكّ . وأما قوله : { وَلأَبَوَيْهِ } فإنه يعني : ولأبوي الميت لكل واحد منهما السدس من تركته وما خلف من ماله سواء فيه الوالدة والوالد ، لا يزداد واحد منهما على السدس إن كان له ولد ذكرا كان الولد أو أنثى ، واحدا كان أو جماعة .
فإن قال قائل : فإذ كان كذلك التأويل ، فقد يجب أن لا يزاد الوالد مع الابنة الواحدة على السدس من ميراثه عن ولده الميت ، وذلك إن قلته قول خلاف لما عليه الأمة مجمعون من تصييرهم باقي تركة الميت مع الابنة الواحدة بعد أخذها نصيبها منها لوالده أجمع ؟ قيل : ليس الأمر في ذلك كالذي ظننت ، وإنما لكلّ واحد من أبوي الميت السدس من تركته مع ولده ذكرا كان الولد أو أنثى ، واحدا كان أو جماعة ، فريضة من الله له مسماة ، فإن زيد على ذلك من بقية النصف مع الابنة الواحدة إذا لم يكن غيره وغير ابنة للميت واحدة فإنما زيدها ثانيا لقرب عصبة الميت إليه ، إذ كان حكم كل ما أبقته سهام الفرائض ، فلأولي عصبة الميت وأقربهم إليه بحكم ذلك لها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الأب أقرب عصبة ابنة وأولاها به إذا لم يكن لابنه الميت ابن .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أبَوَاهُ فلأُمّهِ الثّلُثُ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ } : فإن لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى ، وورثه أبواه دون غيرهما من ولد وارث¹ { فلاّمّهِ الثّلُثُ } يقول : فلأمه من تركته وما خلف بعده ثلث جميع ذلك .
فإن قال قائل : فمن الذي له الثلثان الاَخران ؟ قيل له الأب . فإن قال قائل : بماذا ؟ قلت : بأنه أقرب أهل الميت إليه ، ولذلك ترك ذكر تسمية من له الثلثان الباقيان ، إذ كان قد بين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباده أن كل ميت فأقرب عصبته به أولى بميراثه بعد إعطاء ذوي السهام المفروضة سهامهم من ميراثه . وهذه العلة هي العلة التي من أجلها سمى للأم ما سمى لها ، إذا لم يكن الميت خلف وارثا غير أبويه ، لأن الأم ليست بعصبة في حال للميت ، فبين الله جلّ ثناؤه لعباده ما فرض لها من ميراث ولدها الميت ، وترك ذكر من له الثلثان الباقيان منه معها ، إذ كان قد عرّفهم في جملة بيانه لهم من له بقايا تركة الأموال بعد أخذ أهل السهام سهامهم وفرائضهم ، وكان بيانه ذلك معينا لهم على تكرير حكمه مع كل من قسم له حقا من ميراث ميت وسمّى له منه سهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فلأُمّهِ السّدُسُ } .
إن قال قائل : وما المعنى الذي من أجله ذكر حكم الأبوين مع الإخوة ، وترك ذكر حكمهما مع الأخ الواحد ؟ قلت : اختلاف حكمهما مع الإخوة الجماعة والأخ الواحد ، فكان في إبانة الله جلّ ثناؤه لعباده حكمهما فيما يرثان من ولدهما الميت مع إخوته غنى ، وكفاية عن أن حكمهما فيما ورثا منه غير متغير عما كان لهما ، ولا أخ للميت ، ولا وارث غيرهما ، إذ كان معلوما عندهم أن كل مستحقّ حقا بقضاء الله ذلك له ، لا ينتقل حقه الذي قضى به له ربه جلّ ثناؤه ، عما قضى به له إلى غيره ، إلا بنقل الله ذلك عنه إلى من نقله إليه من خلقه ، فكان في فرضه تعالى ذكره للأم ما فرض ، إذا لم يكن لولدها الميت وارث غيرها وغير والده ، لوائح الدلالة الواضحة للخلق أن ذلك المفروض هو ثلث مال ولدها الميت حقّ لها واجب ، حتى يغير ذلك الفرض من فرض لها ، فلما غير تعالى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الإخوة الجماعة وترك تغييره مع الأخ الواحد ، علم بذلك أن فرضها غير متغير عما فرض لها إلا في الحال التي غيره فيها من لزم العباد طاعته دون غيرها من الأحوال .
ثم اختلف أهل التأويل في عدد الإخوة الذين عناهم الله تعالى ذكره بقوله : { فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةُ } فقال جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كل زمان : عنى الله جلّ ثناؤه بقوله : { فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فلأُمّهِ السّدُسُ } اثنين كان الإخوة أو أكثر منهما ، أنثيين كانتا أو كنّ إناثا ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورا ، أو كان أحدهما ذكرا والاَخر أنثى . واعتلّ كثير ممن قال ذلك بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جلّ ثناؤه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فنقلته أمة نبيه نقلاً مستفيضا قطع العذر مجيئه ، ودفع الشكّ فيه عن قلوب الخلق وروده .
ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول : بل عنى الله جلّ ثناؤه بقوله : { فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ } : جماعة أقلها ثلاثة . وكان ينكر أن يكون الله جل ثناؤه حجب الأم عن ثلثها مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة ، فكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث وما بقي فللأب ، كما قال أهل العلم في أبوين وأخ واحد . ذكر الرواية عنه بذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، قال : ثني ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أنه دخل على عثمان رضي الله عنه ، فقال : لم صار الأخوان يردّان الأم إلى السدس ، وإنما قال الله : { فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ } والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان رضي الله عنه : هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوارثه الناس ، ومضى في الأمصار ؟ .
قل أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن المعني بقوله : { فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ } اثنان من إخوة الميت فصاعدا ، على ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الحجة وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك .
فإن قال قائل : وكيف قيل في الأخوين إخوة ، وقد علمت أن للأخوين في منطق العرب مثالاً لا يشبه مثال الإخوة في منطقها ؟ قيل : إن ذلك وإن كان كذلك ، فإن من شأنها التأليف بين الكلامين بتقارب معنييهما وإن اختلفا في بعض وجوههما . فلما كان ذلك كذلك ، وكان مستفيضا في منطقها منتشرا مستعملاً في كلامها : ضربت من عبد الله وعمرو رءوسهما ، وأوجعت منهما ظهورهما ، وكان ذلك أشدّ استفاضة في منطها من أن يقال : أوجعت منهما ظهرهما ، وإن كان مقولاً : أوجعت ظهرهما كما قال الفرزدق :
بِمَا في فُؤَادَيْنَا مِنَ الحُبّ والهَوَى ***فَيَبْرَأُ مِنْهَاضُ الفُؤَادِ المَشَغّفُ
غير أن ذلك وإن كان مقولاً ، فأفصح منه : بما في أفئدتنا ، كما قال جلّ ثناؤه : { إنْ تَتوبا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قَلُوبُكُما } . فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الإنسان واحدا إذا ضمّ إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر ، فصار اثنين من اثنين ، فلفظ الجمع أفصح في منطقها وأشهر في كلامها ، وكان الأخوان شخصين كل واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفين أشبه معناهما معنى ما كان في الإنسان من أعضائه واحدا لا ثاني له ، فأخرج أنثييهما بلفظ أنثى العضوين اللذين وصفت ، فقيل إخوة في معنى الأخوين ، كما قيل ظهور في معنى الظهرين ، وأفواه في معنى فموين ، وقلوب في معنى قلبين . وقد قال بعض النحويين : إنما قيل إخوة ، لأن أقلّ الجمع اثنان ، وذلك أنه إذا ضمّ شيء إلى شيء صارا جميعا بعد أن كانا فردين فجمعا ، ليعلم أن الاثنين جمع . وهذا وإن كان كذلك في المعنى ، فليس بعلة تنبىء عن جواز إخراج ما قد جرى الكلام مستعملاً مستفيضا على ألسن العرب لاثنينه بمثال ، وصورة غير مثال ثلاثة فصاعدا منه ، وصورتها ، لأن من قال أخواك قاما ، فلا شكّ أنه قد علم أن كل واحد من الأخوين فرد ضمّ أحدهما إلى الاَخر ، فصارا جميعا بعد أن كانا شتى عنوان الأمر . وإن كان كذلك فلا تستجيز العرب في كلامها أن يقال : أخواك قاموا ، فيخرج قولهم : قاموا ، وهو لفظ للخبر عن الجميع خبرا عن الأخوين وهما بلفظ الاثنين ، لأن لكل ما جرى به الكلام على ألسنتهم مثالاً معروفا عندهم ، وصورة إذا غير مغير ما قد عرفوه فيهم أنكروه ، فكذلك الأخوان وإن كان مجموعين ضمّ أحدهما إلى صاحبه ، فلهما مثال في المنطق ، وصورة غير مثال الثلاثة منهم فصاعدا وصورتهم ، فغير جائز أن يغير أحدهما إلى الاَخر إلا بمعنى مفهوم . وإذا كان ذلك كذلك فلا قول أولى بالصحة مما قلنا قبل .
فإن قال قائل : ولم نقصت الأم عن ثلثها بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدا ؟ قيل : اختلفت العلماء في ذلك ، فقال بعضهم : نقصت الأم عن ذلك دون الأب ، لأن على الأب مؤنهم دون أمهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَورِثَهُ أبَوَاهُ فلأُمّهِ الثّلُثُ فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ } أنزلوا الأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ، ويحجبها ما فوق ذلك . وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث ، لأن أباهم يلي نكاحهم ، والنفقة عليهم دون أمهم .
وقال آخرون : بل نقصت الأم السدس وقصر بها على سدس واحد معونة لإخوة الميت بالسدس الذي حجبوا أمهم عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : السدس الذي حجبته الإخوة الأم لهم إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أمهم . وقد روي عن ابن عباس خلاف هذا القول ، وذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس ، قال : الكلالة : من لا ولد له ولا والد .
قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب أن يقال في ذلك : إن الله تعالى ذكره فرض للأم مع الإخوة السدس لما هو أعلم به من مصلحة خلقه . وقد يجوز أن يكون ذلك كان لما ألزم الاَباء لأولادهم ، وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك ، وليس ذلك مما كلفنا علمه ، وإنما أمرنا بالعمل بما علمنا . وأما الذي روي عن طاوس عن ابن عباس ، فقول لما عليه الأمة مخالف ، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن لا ميراث لأخي ميت مع والده ، فكفى إجماعهم على خلافه شاهدا على فساده .
القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْ بعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { مِنْ بعْدِ وَصِيّة يُوصِي بِهَا أوْ دَيْنٍ } أن الذي قسم الله تبارك وتعالى لولد الميت الذكور منهم والإناث ولأبويه من تركته من بعد وفاته ، إنما يقسمه لهم على ما قسمه لهم في هذه الاَية من بعد قضاء دين الميت الذي مات وهو عليه من تركته ومن بعد تنفيذ وصيته في بابها ، بعد قضاء دينه كله . فلم يجعل تعالى ذكره لأحد من ورثة الميت ولا لأحد ممن أوصى له بشيء إلا من بعد قضاء دينه من جميع تركته ، وإن أحاط بجميع ذلك . ثم جعل أهل الوصايا بعد قضاء دينه شركاء ورثته فيما بقي لما أوصى لهم به ما لم يجاوز ذلك ثلثه ، فإن جاوز ذلك ثلثه جعل الخيار في إجازة ما زاد على الثلث من ذلك أو ردّه إلى ورثته ، إن أحبوا أجازوا الزيادة على ثلث ذلك ، وإن شاءوا ردّوه¹ فأما ما كان من ذلك إلى الثلث فهو ماض عليهم . وعلى كل ما قلنا من ذلك الأمة مجمعة . وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خبر ، وهو ما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث الأعور ، عن عليّ رضي الله عنه قال : إنكم تقرءون هذه الاَية : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ } إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا زكرياء بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ رضوان الله عليه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، قال : حدثنا أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ } قال : يبدأ بالدين قبل الوصية .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والعراق : { يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ } ، وقرأ بعض أهل مكة والشام والكوفة : «يُوصَى بِها » على معنى ما لم يسمّ فاعله .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك : { مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بها أوْ دَيْنٍ } على مذهب ما قد سمي فاعله ، لأن الاَية كلها خبر عمن قد سمي فاعله ، ألا ترى أنه يقول : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ } ؟ فكذلك الذي هو أولى بقوله : { يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ } أن يكون خبرا عمن قد سمي فاعله¹ لأن تأويل الكلام : ولأبويه لكلّ واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ، من بعد وصية يوصي بها ، أو دين يُقْضَى عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أيّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفْعا } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ } هؤلاء الذين أوصاكم الله به فيهم من قسمة ميراث ميتكم فيهم على ما سمّى لكم وبينه في هذه الاَية { آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أيّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفعا } يقول : أعطوهم حقوقهم من ميراث ميتهم الذي أوصيتكم أن تعطوهموها ، فإنكم لا تعلمون أيهم أدنى وأشدّ نفعا لكم في عاجل دنياكم وآجل أخراكم .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { لا تَدْرُون أيّهُمْ أقْربُ لَكُمْ نَفْعا } فقال بعضهم : يعني بذلك : أيهم أقرب لكم نفعا في الاَخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس ، قوله : { آباؤُكمْ وأبْناؤُكمْ لا تَدْرُونَ أيّهمْ أقْرَب لَكمْ نَفْعا } يقول : أطوعكم لله من الأباء والأبناء ، أرفعكم درجة يوم القيامة ، لأن الله سبحانه يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { أيّهُمْ أقْربُ لَكُمْ نَفْعا } في الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : { لا تَدْرُونَ أيّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفْعا } قال بعضهم : في نفع الاَخرة ، وقال بعضهم : في نفع الدنيا .
وقال آخرون في ذلك بما قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لا تَدْرُون أيّهُمْ أقْربُ لَكُمْ نَفْعا } قال : أيهم خير لكم في الدين والدنيا الوالد أو الولد الذين يرثونكم لم يدخل عليكم غيرهم ، فرضي لهم المواريث لم يأت بآخرين يشركونهم في أموالكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَرِيضةً مِنَ اللّهِ إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ } وإن كان له إخوة فلأمه السدس ، فريضةً ، يقول : سهاما معلومة موقتة بينها الله لهم . ونصب قوله : «فريضة » على المصدر من قوله : { يُوصِيكُمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنْثَيَيْنِ فَرِيضةً } فأخرج فريضة من معنى الكلام ، إذ كان معناه ما وصفت . وقد يجوز أن يكون نصبه على الخروج من قوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس فريضة ، فتكون الفريضة منصوبة على الخروج من قوله : { فإنْ كان لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ } كما تقول : هو لك هبة ، وهو لك صدقة مني عليك .
وأما قوله : { إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما } فإنه يعني جلّ ثناؤه : إن الله لم يزل ذا علم بما يصلح خلقه أيها الناس ، فانتهوا إلى ما يأمركم يصلح لكم أموركم . { حَكِيما } يقول : لم يزل ذا حكمة في تدبيره وهو كذلك فيما يقسم لبعضكم من ميراث بعض وفيما يقضي بينكم من الأحكام ، لا يدخل حكمه خلل ولا زلل ، لأن قضاء من لا يخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعقابة .
{ يوصيكم الله } يأمركم ويعهد إليكم . { في أولادكم } في شأن ميراثهم وهو إجمال تفصيله . { للذكر مثل حظ الأنثيين } أي يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه ، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه لأن القصد إلى بيان فضله ، والتنبيه على أن التضعيف كاف للتفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة ، والمعنى للذكر منهم فحذف للعلم به . { فإن كن نساء } أي إن كان الأولاد نساء خلصا ليس معهن ذكر ، الضمير فأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات . { فوق اثنتين } خبر ثان ، أو صفة للنساء أي نساء زائدات على اثنتين . { فلهن ثلثا ما ترك } المتوفى منكم ، ويدل عليه المعنى . { وإن كانت واحدة فلها النصف } أي وإن كانت المولودة واحدة . وقرأ نافع بالرفع على كان التامة ، واختلف في الثنتين فقال ابن عباس رضي الله عنهما حكمهما حكم الواحدة ، لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما . وقال الباقون حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين أن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان ، اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان . ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله : { فإن كن نساء فوق اثنتين } ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالحري أن تستحقه مع أخت مثلها . وأن البنتين أمس رحما من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله تعالى : { فلهما الثلثان مما ترك } . { ولأبويه } ولأبوي الميت . { لكل واحد منهما } بدل منه بتكرير العامل وفائدته التنصيص على استحقاق كل واحد منهما السدس ، والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا . { السدس مما ترك إن كان له } أي للميت . { ولد } ذكر أو أنثى غير أن الأب يأخذ السدس مع الأنثى بالفريضة ، وما بقي من ذوي الفروض أيضا بالعصوبة . { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه } فحسب . { فلأمه الثلث } مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب ، لأنه لما فرض أن الوارث أبواه فقط وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب ، وكأنه قال : فلهما ما ترك أثلاثا ، وعلى هذا ينبغي أن يكون لها حيث كان معهما أحد الزوجين ثلث ما بقي من فرضه كما قاله الجمهور ، لا ثلث المال كما قاله ابن عباس ، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب وهو خلاف وضع الشرع . { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } بإطلاقه يدل على أن الإخوة يردونها من الثلث إلى السدس ، وإن كانوا لا يرثون مع الأب . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم ، والجمهور على أن المراد بالأخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كان من الإخوة أو من الأخوات ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا يحجب الأم من الثلث ما دون الثلاثة ولا الأخوات الخلص أخذا بالظاهر . وقرأ حمزة والكسائي { فلأمه } بكسر الهمزة اتباعا للكسرة التي قبلها . { من بعد وصية يوصي بها أو دين متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها أي هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية . أو دين ، وإنما قال بأو التي للإباحة دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين ، وقدم الوصية على الدين وهي متأخرة في الحكم لأنها مشبهة بالميراث شاقة على الورثة مندوب إليها الجميع والدين إنما يكون على الندور . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بفتح الصاد . { آباؤكم وأنباؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم ، فتحروا فيهم ما أوصاكم الله به ، ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه . روي أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته . أو من مورثيكم منهم أو من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء وصيته ، أو من لم يوص فوفر عليكم ماله فهو اعتراض مؤكد لأمر القسمة أو تنفيذ الوصية . { فريضة من الله } مصدر مؤكد ، أو مصدر يوصيكم الله لأنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم . { إن الله كان عليما } بالمصالح والرتب . { حكيما } فيما قضى وقدر .
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ }
وقوله تعالى : { يوصيكم } يتضمن الفرض والوجوب ، كما تتضمنه لفظة أمر- كيف تصرفت ، وأما صيغة الأمر من غير اللفظة ففيها الخلاف الذي سيأتي موضعه إن شاء الله ، ونحو هذه الآية قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ذلك وصاكم به }{[3871]} وقيل : نزلت هذه الآية بسبب بنات سعد بن الربيع وقال السدي : نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت ، وقيل : بسبب جابر بن عبد الله ، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ، قال جابر بن عبد الله ، وذكر أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو ، فنزلت الآيات تبييناً أن لكل أنثى وصغير حظه ، وروي عن ابن عباس : أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد ، والوصية للوالدين ، فنسخ ذلك بهذه الآيات ، و { مثل } مرتفع بالابتداء أو بالصفة ، تقديره حظ مثل حظ ، وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «في أولادكم أن للذكر » وقوله تعالى : { فإن كن نساء } الآية الأولاد لفظ يجمع الذكران والإناث ، فلما أراد بهذه الآية أن يخص الإناث بذكر حكمهن أنث الفعل للمعنى ، ولو اتبع لفظ الأولاد لقال كانوا ، واسم - كان - مضمر ، وقال بعض نحويي البصرة : تقديره وإن كن المتروكات «نساء » وقوله : { فوق اثنتين } معناه : «اثنتين » فما فوقهما ، تقتضي ذلك قوة الكلام ، وأما الوقوف مع اللفظ فيسقط معه النص على الاثنتين ، ويثبت الثلثان لهما بالإجماع الذي مرت عليه الأمصار والأعصار ، ولم يحفظ فيه خلاف ، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس : أنه يرى لهما النصف . ويثبت أيضاً ذلك لهما بالقياس على الأختين المنصوص عليهما ، ويثبت لهما بالحديث الذي ذكره الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى للابنتين بالثلثين ، ومن قال : { فوق } زائدة واحتج بقوله تعالى : { فوق الأعناق } [ الأنفال : 12 ] هو الفصيح ، وليست { فوق } زائدة بل هي محكمة المعنى لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ ، كما قال دريد بن الصمة «اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال : وقد احتج لأخذهما الثلثين بغير هذا ، وكله معارض ، قال إسماعيل القاضي : إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها الثلث إذا انفرد ، فأحرى أن تأخذ ذلك مع أختها قال غيره : وكما كان حكم الاثنين فما فوقهما من الإخوة للأم واحداً ، فكذلك البنات ، وقال النحاس : لغة أهل الحجاز وبني أسد ، الثلث والربع إلى العشر ، وقد قرأ الحسن ذلك كله بإسكان الأوسط ، وقرأه الأعرج ، ومذهب الزجاج : أنها لغة واحدة ، وأن سكون العين تخفيف ، وإذا أخذ بنات الصلب الثلثين ، فلا شيء بعد ذلك لبنات الابن ، إلا أن يكون معهن أخ لهن ، أو ابن أخ ، فيرد عليهن ، وعبد الله بن مسعود لا يرى لهن شيئاً ، وإن كان الأخ أو ابن الأخ ، ويرى المال كله للذكر وحده دونهن .
{ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلَّ وَاحِدٍ مَّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأٌمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْدَيْنٍ }
قرا السبعة سوى نافع «واحدةً » بالنصب على خبر كان ، وقرأ نافع واحدة بالرفع على أن كان بمعنى وقع وحصر ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «النُّصف » بضم النون ، وكذلك قرأه علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت في جميع القرآن ، وقوله : { ولد } يريد ذكراً أو أنثى ، واحداً أو جماعة للصلب أولولد ذكر ، فإن ذلك كيف وقع يجعل فرض الأب السدس ، وإن أخذ النصف في ميراثه فإنما يأخذه بالتعصيب ، وقوله تعالى : { فإن لم يكن له ولد } الآية ، المعنى : فإن لم يكن له ولد ، ولا ولد ولد ، ذكراً كان أو أثنى ، وقوله : { وورثه أبواه } تقتضي قوة الكلام أنهما منفردان عن جميع أهل السهام من ولد وغيره ، فعلى هذا يكون قوله { وورثه } حكماً لهما بالمال فإذا ذكر وحدّ بعد ذلك نصيب أحدهما أخذ النصيب الآخر ، كما تقول لرجلين : هذا المال بينكما ، ثم تقول لأحدهما ، أنت يا فلان لك منه الثلث ، فقد حددت للآخر منه الثلثين ، بنص كلامك ، وعلى أن فريضتهما خلت من الولد وغيره يجيء قول أكثر الناس : إن للأم مع الانفراد الثلث من المال كله ، فإن كان معهما زوج كان «للأم السدس » وهو الثلث بالإضافة إلى الأب ، وعلى أن الفريضة خلت من الولد فقط يجيء قول شريح وابن عباس : إن الفريضة إذا خلت من الولد أخذت «الأم الثلث » من المال كله مع الزوج ، وكان ما بقي للأب ويجيء على هذا ، قوله : { وورثه أبواه } . منفردين أو مع غيرهم . وقرأ حمزة والكسائي «فلأمه » بكسر الهمزة ، وهي لغة حكاها سيبويه ، وكذلك كسر الهمزة من قوله : { في بطون أمهاتكم }{[3872]} وفي { أمها }{[3873]} وفي { أم الكتاب }{[3874]} ، وهذا كله إذا وصلا إتباعاً للكسرة أو الياء التي قبل الهمزة ، وقرأ الباقون كل هذا بضم الهمزة ، وكسر همزة{[3875]} الميم من «امهاتكم » إتباعاً لكسر الهمزة ، ومتى لم يكن وصل وياء أو كسرة فالضم باتفاق ، وقوله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } الإخوة يحطون الأم إلى السدس ولا يأخذونه ، أشقاء كانوا أو للأب أو للأم ، وقال من لا يعد قوله إلا في الشذوذ : إنهم يحطون ويأخذون ما يحطون لأنفسهم مع الأب ، روي عن ابن عباس ، وروي عنه خلافه مثل قول «السدس » الذي يحجبون «الأم » عنه ، قال قتادة : وإنما أخذه الأب دونهم ، لأنه يمونهم ، ويلي نكاحهم ، والنفقة عليهم ، هذا في الأغلب ، ومجمعون على أن أخوين فصاعداً يحجبون الأم عنه ، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس ، أن الأخوين ، في حكم الواحد ، ولا يحجب الأم أقل من ثلاثة .
واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان ، لأن التثنية جمع شيء إلى مثله ، فالمعنى يقتضي أنها جمع ، وذكر المفسرون أن العرب قد تأتي بلفظ الجمع وهي تريد التثنية ، كما قال تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين }{[3876]} وكقوله في آية الخصم { إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا }{[3877]} وكقوله : { وأطراف النهار }{[3878]} واحتجوا بهذا كله في أن الإخوة يدخل تحته الأخوان .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآيات كلها لا حجة فيها عندي على هذه الآية ، لأنه قد تبين في كل آية منها بالنص أن المراد اثنان ، فساغ التجوز بأن يؤتى بلفظ الجمع بعد ذلك ، إذ معك في الأولى - يحكمان - وفي الثانية - إن هذا أخي ، وأيضاً فالحكم قد يضاف إلى الحاكم والخصوم ، وقد يتسور مع الخصم وغيرهما فهم جماعة ، وأما { النهار } في الآية الثالثة فالألف واللام فيه للجنس فإنما أراد طرفي كل يوم وأما إذا ورد لفظ الجمع ولم يقترن به ما يبين المراد فإنما يحمل على الجمع ، ولا يحمل على التثنية ، لأن اللفظ مالك للمعنى وللبنية حق ، وذكر بعض من احتج لقول عبد الله بن عباس : أن بناء التثنية يدل على الجنس والعدد ، كبناء الإفراد وبناء الجمع يدل على الجنس ولا يدل على العدد فلا يصح أن يدخل هذا على هذا ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي - «يوصي » - بإسناد الفعل إلى الموروث ، إذ قد تقدم له ذكر ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ، «يوصَى » بفتح الصاد ببنية الفعل للمفعول الذي لم يسَّم فاعله ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «يوصَّى » بفتح الصاد وتشديدها ، وكل هذا في الموضعين ، وقرأ حفص عن عاصم في الأولى بالفتح ، وفي الثانية بالكسر ، وهذه الآية إنما قصد بها تقديم هذين الفعلين على الميراث ، ولم يقصد بها ترتيبهما في أنفسهما ، ولذلك تقدمت الوصية في اللفظ ، والدين مقدم على الوصية بإجماع ، والذي أقول في هذا : إنه قدم الوصية إذ هي أقل لزوماً من الدين ، اهتماماً بها وندباً إليها كما قال تعالى : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة }{[3879]} ، وأيضاً قدمها من جهة أنها مضمنها الوصية التي هي كاللازم يكون لكل ميت ، إذ قد حض الشرع عليها ، وأخر الدين لشذوذه ، وأنه قد يكون ولا يكون ، فبدأ بذكر الذي لا بد منه ، ثم عطف بالذي قد يقع أحياناً ، ويقوي هذا كون العطف ب { أو } ، ولو كان الدين راتباً لكان العطف بالواو ، وقدمت الوصية أيضاً إذ هي حظ مساكين وضعاف ، وأخر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة ، وهو صاحب حق له فيه ، كما قال عليه السلام ( إن لصاحب الحق مقالاً ){[3880]} وأجمع العلماء على أن ليس لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث ، واستحب كثير منهم أن لا يبلغ الثلث ، وأن يغض{[3881]} الناس إلى الربع .
{ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ }
{ آباؤكم وأبناؤكم } رفع الابتداء ، والخبر مضمر تقديره : هم المقسوم عليهم ، وهم المعطون ، وهذا عرض للحكمة في ذلك ، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورثون على غير هذه الصفة ، و { لا تدرون } عامل في الجملة بالمعنى ومعلق عن العمل في اللفظ بحسب المعمول فيه ، إذ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، و { نفعاً } ، قال مجاهد والسدي وابن سيرين : معناه في الدنيا ، أي إذا اضطر إلى ا نفاقهم للحاجة نحا إليه الزجاج ، وقد ينفقون دون اضطرار ، وقال ابن عباس والحسن ، في الآخرة ، أي بشفاعة الفاضل للمفضول ، وقال ابن زيد : فيهما ، واللفظ يقتضي ذلك ، و { فريضة } نصب على المصدر المؤكد ، إذ معنى { يوصيكم } يفرض عليكم ، وقال مكي وغيره : هي حال مؤكدة ، وذلك ضعيف ، والعامل { يوصيكم } ، و { كان } هي الناقصة ، قال سيبويه لما رأوا علماً وحكمة قيل لهم : إن الله لم يزل هكذا وصيغة - كان - لا تعطي إلا المضي ، ومن المعنى بعد يعلم أن الله تعالى كان كذلك ، وهو يكون ، لا من لفظ الآية ، وقال قوم : { كان } بمعنى وجد ووقع ، و { عليماً } حال ، وفي هذا ضعف ، ومن قال : { كان } زائدة فقوله خطأ .
تتنزّل آية { يوصيكم الله في أولادكم } منزلة البيان والتفصيل لقوله { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ] وهذا المقصد الذي جعل قوله : { للرجال نصيب } [ النساء : 7 ] إلخ بمنزلة المقدّمة له فلذلك كانت جملة : { يوصيكم } مفصولة لأنّ كلا الموقعين مقتض للفصل .
ومن الاهتمام بهذه الأحكام تصدير تشريعها بقوله : { يوصيكم } لأنّ الوصاية هي الأمر بما فيه نفع المأمور وفيه اهتمام الآمر لشدّة صلاحه ، ولذلك سمّي ما يعهد به الإنسان ، فيما يصنع بأبنائه وبماله وبذاته بعد الموت ، وصية .
وقد رويت في سبب نزول الآية أحاديث كثيرة . ففي « صحيح البخاري » ، عن جابر بن عبد الله : أنّه قال : « مرضت فعادني رسول الله وأبو بكر في بني سلمة فوجداني لا أعقل فدعا رسول الله بماء فتوضّأ ، ثم رشّ عليّ منه فأفقت فقلت « كيف أصنع في مالي يا رسول الله » فنزلت { يوصيكم الله في أولادكم } .
وروى الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ، عن جابر ، قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع فقالت لرسول الله « إنّ سعداً هلك وترك ابنتين وأخاه ، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد ، وإنّما تنكح النساء على أموالهنّ » فلم يجبها في مجلسها ذلك ، ثمّ جاءته فقالت « يا رسول الله ابنتَا سعد » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ادعُ لي أخاه " فجاء ، فقال : " ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي " ونزلت آية الميراث .
بيَّن الله في هذه الآيات فروض الورثة ، وناط الميراث كلّه بالقرابة القريبة ، سواء كانت جبلّية وهي النسب ، أو قريبة من الجبلّية ، وهي عصمة الزوجية ، لأنّ طلب الذكر للأنثى جبليّ ، وكونُها المرأةَ المعيَّنة يحصل بالإلف ، وهو ناشىء عن الجبلّة . وبيَّن أهل الفروض ولم يبيّن مرجع المال بعد إعطاء أهل الفروض فروضَهم ، وذلك لأنّه تركه على المتعارف عندهم قبل الإسلام من احتواء أقرب العصبة على مال الميّت ، وقد بيّن هذا المقصد قول النبي صلى الله عليه وسلم " أَلِحقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا فما بَقِي فلأوْلىَ رَجُلٍ ذَكَرٍ " . ألا ترى قوله تعالى بعد هذا { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمِّه الثلث } فلم يبيّن حظّ الأب ، لأنّ الأب في تلك الحالة قد رجع إلى حالته المقرّرة ، وهي احتواء المال فاحتيج إلى ذكر فرض الأم .
وابتدأ الله تعالى بميراث الأبناء لأنّهم أقرب الناس .
والأولاد جمع ولد بوزن فَعَل مثل أسَد ووثَن ، وفيه لغة ولِدْ بكسر الواو وسكون اللام وكأنه حينئذ فِعْل الذي بمعنى المفعول كالذِّبْح والسِّلخ . والولد اسم للابن ذكرا كان أو أنثى ، ويطلق على الواحد وعلى الجماعة من الأولاد ، والوارد في القرآن بمعنى الواحد وجمعه أولاد .
و { في } هنا للظرفية المجازية ، جعلت الوصية كأنّها مظروفة في شأن الأولاد لشدّة تعلّقها به كاتّصال المظروف بالظرف ، ومجرورها محذوف قام المضاف إليه مقامه ، لظهور أنّ ذوات الأولاد لا تصلح ظرفاً للوصيّة ، فتعيّن تقدير مضاف على طريقة دلالة الاقتضاء ، وتقديره : في إرثِ أولادكم ، والمقام يدلّ على المقدّر على حدّ { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] فجعل الوصيّة مظروفة في هذا الشأن لشدّة تعلقها به واحتوائه عليها .
وجملة : { للذكر مثل حظ الأنثيين } بيان لجملة { يوصيكم } لأنّ مضمونها هو معنى مضمون الوصية ، فهي مثل البيان في قوله تعالى : { فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم } وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه من أوّل الأمر على أنّ الذكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى لأنّه لم يكن لهم به عهد من قبل إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كلّه ولا حظّ للإناث ، كما تقدّم آنفاً في تفسير قوله تعالى : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ] .
وقوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } جعل حظّ الأنثيين هو المقدار الذي يقدّر به حظّ الذكر ، ولم يكن قد تقدّم تعيين حظّ للأنثيين حتّى يقدّر به ، فعُلم أنّ المراد تضعيف حظّ الذكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم ، وقد كان هذا المراد صالحاً لأن يؤدّى بنحو : للأنثى نصف حظّ ذكر ، أو للأنثيين مثلّ حظّ ذكر ، إذ ليس المقصود إلاّ بيان المضاعفة . ولكن قد أوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء إلى أن حظّ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهَمّ من حظّ الذكر ، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظّها في أول ما يقرع الأسماع قد عُلم أنّ قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات .
وقوله : { فإن كن نساء فوق اثنتين } إلخ معاد الضمير هو لفظ الأولاد ، وهو جمع ولد فهو غير مؤنّث اللفظ ولا المدلول لأنّه صالح للمذكّر والمؤنث ، فلمّا كان ما صدَقُه هُنا النساء خاصّة أعيد عليه الضمير بالتأنيث .
ومعنى : { فوق اثنتين } أكثر من اثنتين ، ومن معاني ( فوق ) الزيادة في العدد ، وأصل ذلك مجاز ، ثم شاع حتّى صار كالحقيقة ، والآية صريحة في أنّ الثلثين لا يعطيان إلاّ للبنات الثلاث فصاعداً لأنّ تقسيم الأنصباء لا يُنتقل فيه من مقدار إلى مقدار أزيدَ منه إلاّ عند انتهاء من يستحقّ المقدار الأول .
والوصف ب { فوق اثنتين } يفيد مفهوما وهو أنّ البنتين لا تعطيان الثلثين ، وزاد فقال : { وإن كانت واحدة فلها النصف } فبقي ميراث البنتين المنفردتين غير منصوص في الآية فألحقهما الجمهور بالثلاث لأنّهما أكثر من واحدة ، وأحسن ما وجِّه به ذلك ما قاله القاضي إسماعيل بن إسحاق « إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث فأحرى أن تأخذ الثلثَ مع أختها » يعني أنّ كلّ واحدة من البنتين هي مقارنة لأختها الأخرى فلا يكون حظّها مع أخت أنثى أقلّ من حظّها مع أخ ذكر ، فإنّ الذكر أولى بتوفير نصيبه ، وقد تلقّفه المحقّقون من بعده ، وربما نسب لبعض الذين تلقّفوه .
وعلَّله ووَجَّهه آخرون : بأنّ الله جعل للأختين عند انفرادهما الثلثين فلا تكون البنتان أقلّ منهما . وقال ابن عباس : للبنتين النصف كالبنت الواحدة ، وكأنّه لم ير لتوريثهما أكثر من التشريك في النصف محمَلا في الآية ، ولو أريد ذلك لما قال { فوق اثنتين } . ومنهم من جعل لفظ ( فوق ) زائداً ، ونظّره بقوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } [ الأنفال : 12 ] . وشتَّان بين فوق التي مع أسماء العدد وفوق التي بمعنى مكان الفعل . قال ابن عطية : وقد أجمع الناس في الأمصار والأعصار على أنّ للبنتين الثلثين ، أي وهذا الإجماع مستند لسنّة عرفوها . وردّ القرطبي دعوى الإجماع بأنّ ابن عباس صحّ عنه أنّه أعطى البنتين النصف . قلت : لعلّ الإجماع انعقد بعدما أعطى ابن عباس البنتين النصف على أنّ اختلال الإجماع لمخالفة واحد مختلف فيه ، أمّا حديث امرأة سعد بن الربيع المتقدّم فلا يصلح للفصل في هذا الخلاف ، لأنّ في روايته اختلافا هل ترك بنتين أو ثلاثاً .
وقوله : { فلهن } أعيد الضمير إلى نساء ، والمراد ما يصدق بالمرأتين تغليبا للجمع على المثنى اعتمادا على القرينة .
وقرأ الجمهور : « وإن كانت واحدة » بنصب واحدة على أنّه خبر كانت ، واسم كانت ضمير عائد إلى ما يفيده قوله : { في أولادكم } من مفرد ولد ، أي وإن كانت الولد بنتا واحدة ، وقرأ نافع ، وأبو جعفر بالرفع على أنّ كان تامّة ، والتقدير : وإن وجدت بنت واحدة ، لما دلّ عليه قوله : { فإن كن نساء } .
وصيغة { أولادكم } صيغة عموم لأنّ أولاد جمع معرّف بالإضافة ، والجمع المعرّف بالإضافة من صيغ العموم ، وهذا العموم ، خصّصه أربعة أشياء :
الأوّل : خصّ منه عند أهل السنّة النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه عنه أبو بكر أنّه قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " ووافقه عليه عمر بن الخطاب وجميع الصحابة وأمَّهات المؤمنين . وصحّ أنّ علياً رضي الله عنه وافق عليه في مجلس عمر بن الخطاب ومن حضر من الصحابة كما في « الصحيحين » .
الثاني : اختلاف الدين بالإسلام وغيره ، وقد أجمع المسلمون على أنّه لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ .
الثالث : قاتل العمد لا يرث قريبه في شيء .
الرابع : قاتل الخطأ لا يرث من الدية شيئاً .
{ ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس } .
الضمير المفرد عائد إلى الميّت المفهوم من قوله : { يوصيكم الله في أولادكم } إذ قد تقرّر أنّ الكلام في قسمة مال الميّت . وجاء الكلام على طريقة الإجمال والتفصيل ليكون كالعنوان ، فلذلك لم يقل : ولكلّ من أبويه السدس ، وهو كقوله السابق : { في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } [ النساء : 11 ] .
وقوله : { وورثه أبواه } زاده للدلالة على الاقتصار أي : لا غيرهما ، ليعلم من قوله : { فلأمه الثلث } أنّ للأب الثلثين ، فإن كان مع الأمّ صاحب فرض لا تحجبه كان على فرضه معها وهي على فرضها . واختلفوا في زوجة وأبوين وزوج وأبوين : فقال ابن عباس : للزوج أو الزوجة فرضهما وللأمّ ثلثها وما بقي للأب ، حملا على قاعدة تعدّد أهل الفروض ، وقال زيد بن ثابت : لأحد الزوجين فرضه وللأمّ ثلث ما بَقي وما بقي للأب ، لئلا تأخذ الأمّ أكثر من الأب في صورة زوج وأبوين ، وعلى قول زيد ذهب جمهور العلماء . وفي « سنن ابن أبي شيبة » : أنّ ابن عباس أرسل إلى زيد « أين تجد في كتاب الله ثلث ما بقي » فأجاب زيد « إنما أنت رجل تقول برأيك وأنا أقول برأيي » .
وقد علم أنّ للأب مع الأمّ الثلثين ، وترك ذكره لأنّ مبني الفرائض على أنّ ما بقي بدون فرض يرجع إلى أصل العصابة عند العرب .
وقرأ الجمهور : فلأمَّه بضمّ همزة أمّه ، وقرأه حمزة ، والكسائي بكسر الهمزة اتّباعاً لكسرة اللام .
وقوله : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } أي إن كان إخوة مع الأبوين وهو صريح في أنّ الإخوة يحجبون الأمّ فينقلونها من الثلث إلى السدس . والمذكور في الآية صيغة جمع فهي ظاهرة في أنّها لا ينقلها إلى السدس إلاّ جماعة من الإخوة ثلاثة فصاعداً ذكوراً أو مختلطين . وقد اختلف فيما دون الجمع ، وما إذا كان الإخوة إناثاً : فقال الجمهور الأخوان يحجبان الأمّ ، والأختان أيضاً ، وخالفهم ابن عباس أخذا بظاهر الآية . أمّا الأخ الواحد أو الأخت فلا يحجب الأمّ والله أعلم بحكمة ذلك . واختلفوا في السدس الذي يحجب الإخوة عنه الأمّ : هل يأخذه الإخوة أم يأخذه الأب ، فقال بالأوّل ابن عباس رضي الله عنه وهو أظهر ، وقال بالثاني الجمهور بناء على أنّ الحاجب قد يكون محجوباً . وكيفما كان فقد اعتبر الله للأخوة حظّا مع وجود الأبوين في حالة خاصّة ، ولو كان الإخوة مع الأمّ ولم يكن أب لكان للأمّ السدس وللأخوة بقية المال باتّفاق ، وربما كان في هذا تعضيد لابن عباس .
{ من بعد وصية يوصي بها أو دين }
المجرور في موضع الحال ، فهو ظرف مستقرّ ، وهو قيد يرجع إلى الجمل المتقدّمة : أي تقتسمون المال على حسب تلك الأنصباء لكلّ نصيبه حالة كونه من بعد وصيّة أو دين .
وجيء بقوله : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } بعد ذكر صنفين من الفرائض : فرائض الأبناء ، وفرائض الأبوين ، لأنّ هذين الصنفين كصنف واحد إذ كان سببهما عمود النسب المباشر . والمقصد هنا التنبيه على أهمّية الوصيَّة وتقدّمها . وإنَّما ذكر الدين بعدها تتميماً لما يتعيّن تقديمه على الميراث مع علم السامعين أنّ الدين يتقدّم على الوصيّة أيضاً لأنّه حقّ سابق في مال الميّت ، لأنّ المدين لا يملك من ماله إلاّ ما هو فاضل عن دين دائنه .
فموقع عطف { أو دين } موقع الاحتراس ، ولأجل هذا الاهتمام كرّر الله هذا القيد أربع مرات في هذه الآيات .
ووصف الوصية بجملة { يوصي بها } لئلا يُتوهّم أنّ المراد الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الفرائض ، وهي التي في قوله : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين } [ البقرة : 180 ] . وقرأ الجمهور : { يوصي بها } في الموضعين في هذه الآية بكسر الصاد والضمير عائد إلى معلوم من الكلام وهو الميّت ، كما عاد ضمير { ما ترك } [ النساء : 7 ] وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، في الموضعين أيضاً : يوصَى بفتح الصاد مبنيا للنائب أي يوصى بها موصٍ .
{ ءاباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيا }
ختم هذه الفرائض المتعلّقة بالأولاد والوالدين ، وهي أصول الفرائض بقوله : { آباؤكم وأبناؤكم } الآية ، فهما إمّا مسند إليهما قُدّ ما للاهتمام ، وليتمكّن الخبر في ذهن السامع إذ يُلقي سمعه عند ذكر المسند إليهما بشراشره ، وإمّا أن تجعلهما خبرين عن مبتدأ محذوف هو المسند إليه ، على طريقة الحذف المعبّر عنه عند علماء المعاني بمتابعة الاستعمال ، وذلك عندما يتقدّم حديث عن شيء ثم يراد جمع الخبر عنه كقول الشاعر :
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النعل وزلّت
سأشكر عمرا إن تدانت منيّتي *** أيادي لم تُمنن وإن هي جلَّت
أي : المذكورون آباؤكم وأبناؤكم لا شكّ في ذلكّ . ثم قال : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } فهو إما مبتدأ وإما حال ، بمعنى أنهم غير مستوين في نفعكم متفاوتون تفاوتاً يتبع تفاوت الشفقة الجبلية في الناس ويتبع البرور ومقدار تفاوت الحاجات . فربّ رجل لم تعرض له حاجة إلى أن ينفعه أبواه وأبناؤه ، وربما عرضت حاجات كثيرة في الحالين ، وربما لم تعرض فهم متفاوتون من هذا الأعتبار الذي كان يعتمده أهل الجاهلية في قسمة أموالهم ، فاعتمدوا أحوالاً غير منضبطه ولا موثوقاً بها ، ولذلك قال تعالى : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } فشرع الإسلام ناط الفرائض بما لا يقبل التفاوت وهي الأبوة والبنوة ، ففرض الفريضة لهم نظراً لصلتهم الموجبة كونهم أحقّ بمال الأبناء أو الآباء .