قوله تعالى : { من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } . يريد : من كان يريد بعمله عرضاً من الدنيا ولا يريد بها الله عز وجل آتاه الله من عرض الدنيا ، أو دفع عنه فيها ما أراد الله ، وليس له في الآخرة من ثواب . ومن أراد بعمله ثواب الآخرة ، آتاه الله من الدنيا ما أحب ، وجزاه الجنة في الآخرة . { وكان الله سميعاً بصيراً } .
ثم أخبر أن مَن كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا ، وليس له إرادة في الآخرة فإنه قد قصر سعيه ونظره ، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كتب الله له منها ، فإنه تعالى هو المالك لكل شيء الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة ، فليطلبا منه ويستعان به عليهما ، فإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته ، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به ، والافتقار إليه على الدوام .
وله الحكمة تعالى في توفيق من يوفقه ، وخذلان من يخذله وفي عطائه ومنعه ، ولهذا قال : { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ْ }
ثم حرض - سبحانه - الناس على أن يقصدوا بعملهم وجه الله ، وأن يجعلوا مقصدهم الأعظم الفوز بنعيم الآخرة فقال - تعالى - : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } .
والمراد بثواب الدنيا : خيراتها التى تعود على طالبها بالنفع الدنيوى .
والمراد بثواب الآخرة : الجزاء الحسن الذى أعده الله - تعالى - لعباده الصالحين .
والمعنى : من كان يريد ثواب الدنيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية ، فأخبره وأعلمه يا محمد أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة . فلماذا قصر الطلب على المنافع الدنيوية مع أن ثواب الآخرة أجزل وأبقى ؟ وهلا اقتدى بمن قالوا فى دعائهم : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } وجزاء الشرط محذوف بتقدير الإِعلام والإِخبار . أى : من كان يريد ثواب الدنيا فأعلمه وأخبره أن عند الله ثواب الدارين فماله لا يطلب ذلك أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد - مثلا - جهادا خالصا لم تفته المنافع الدنيوية ، وله بجانب ذلك فى الآخرة ما هو أنفع وأعظم وأبقى . فقد روى الإِمام أحد عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان همة الآخرة جمع الله - تعالى شمله ، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدنيا وهى راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له " .
ويرى صاحب البحر المحيط أن جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه فقد قال : والذى يظهر أن جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه . والتقدير : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقصر عليه وليطلب الثوابين فعند الله ثواب الدنيا والآخرة .
ثم قال : وقال الراغب وقوله { فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة } تبكيت للإِنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كون المسئول مالكا للثوابين ، وحث على أن يطلب منه - تعالى - ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه . فمن طلب خسيسا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسا فهو دنئ الهمة . وقيل : الآية وعيد للمنافقين الذين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة .
وما عبر عنه صاحب البحر المحيط بقوله : وقيل : الآية وعيد للمافقين ، قد رجحه ابن جرير واختاره فقد قال ما ملخصه : قوله { مَّن كَانَ يُرِيدُ } أى : ممن أظهر الإِيمان من أهل النفاق .
{ ثَوَابَ الدنيا } يعنى عرض الدنيا { فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة } يعنى : أن جزاءه فى الدنيا منها هو ما يصيب ما المغنم . وأما ثوابه فى الآخرة فنار جهنم .
والذى نراه أولى أن الآية الكريمة تخاطب الناس عامة ، فتبين لهم ا ، خير الدنيا بيد الله وخير الآخرة أيضا بيد الله ، فإن اتقوه نالوا الخيرين ، وتبههم إلى أن من الواجب عليهم الآ يشغلهم طلب خير الدنيا عن طلب خير الآخرة .
بل عليهم أن يقدموا ثواب الآخرة على ثواب الدنيا . عملا بقوله - تعالى - فى آية أخرى : { وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } ولا نرى مقتضيا لتخصيص الآية بالمافقين كما - يرى ابن جرير - رحمه الله .
وقوله - تعالى - { وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } تذييل قصد به حض الناس على الإِخلاص فى أقوالهم وأعمالهم .
أى : وكان الله - تعالى - سميعا لكل ما يجهر به الناس ويسرونه ، بصيرا بأحوالهم الظاهرة والخفية ، وسيجازيهم بما يستحقونه من ثواب أو عقاب ، { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
ويختم هذا التعقيب بتوجيه القلوب الطامعة في الدنيا وحدها ، إلى أن فضل الله أوسع . . فعنده ثواب الدنيا والآخرة . . وفي استطاعة الذين يقصرون همهم على الدنيا ، أن يتطلعوا بأنظارهم وراءها ؛ وأن يأملوا في خير الدنيا وخير الآخرة .
( من كان يريد ثواب الدنيا ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة . . وكان الله سميعا بصيرًا )
وإنه ليكون من الحمق ، كما يكون من سقوط الهمة ، أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معا ؛ وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة جميعا - وهذا ما يكفله المنهج الإسلامي المتكامل الواقعي المثالي - ثم يكتفي بطلب الدنيا ، ويضع فيها همه ؛ ويعيش كالحيوان والدواب والهوام ؛ بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان ! قدم تدب على الأرض وروح ترف في السماء . وكيان يتحرك وفق قوانين هذه الأرض ؛ ويملك في الوقت ذاته أن يعيش مع الملأ الأعلى !
وأخيرا فإن هذه التعقيبات المتنوعة - كما تدل على الصلة الوثيقة بين الأحكام الجزئية في شريعة الله والمنهج الكلي للحياة - تدل في الوقت ذاته على خطورة شأن الأسرة في حساب الإسلام . حتى ليربطها بهذه الشؤون الكبرى ؛ ويعقب عليها بوصية التقوى الشاملة للأديان جميعا ؛ وإلا فالله قادر على أن يذهب بالناس ويأتي بغيرهم يتبعون وصيته ؛ ويقيمون شريعته . . وهو تعقيب خطير . يدل على أن أمر الأسرة كذلك خطير في حساب الله . وفي منهجه للحياة . .
{ مّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { مَنْ كانَ يُرِيدُ } ممن أظهر الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق الذين يستبطنون الكفر وهم مع ذلك يظهرون الإيمان . { ثَوَابَ الدّنيْا } يعني : عرض الدنيا ، بإظهار ما أظهر من الإيمان بلسانه . { فَعِنْدَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنيْا } يعني : جزاؤه في الدنيا منها وثوابه فيها ، هو ما يصيب من المغنم إذا شهد مع النبيّ مشهدا ، وأمنه على نفسه وذرّيته وماله ، وما أشبه ذلك . وأما ثوابه في الاَخرة فنار جهنم . فمعنى الاَية : من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثواب الدنيا وجزاءها من عمله ، فإن الله مجازيه جزاءه في الدنيا من الدنيا ، وجزاءه في الاَخرة من العقاب والنكال وذلك أن الله قادر على ذلك كله ، وهو مالك جميعه ، كما قال في الاَية الأخرى : { مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنيْا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَة إلاّ النّارُ وَحبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } . وإنما عنى بذلك جلّ ثناؤه الذين سعوا في أمر بني أبيرق ، والذين وصفهم في قوله : { وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاس وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيّنُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْل مِنَ القَوْلِ } ومن كان من نظرائهم في أفعالهم ونفاقهم .
وقوله : { كانَ اللّهُ سَمِيعا بَصِيرا } يعني : وكان الله سميعا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم ، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لقوا المؤمنين وقولهم لهم آمنا . { بَصِيرا } : يعني : وكان ذا بصر بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين فيما يكتمونه ولا يبدونه لهم من الغشّ والغلّ الذي في صدورهم .
{ من كان يريد ثواب الدنيا } كالمجاهد يجاهد للغنيمة . { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } فما له يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } ، أو ليطلب الأشرف منهما ، فإن من جاهد خالصا لله سبحانه وتعالى لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة ، ما هي في جنبه كلا شيء ، أو فعند الله ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } الآية { وكان الله سميعا بصيرا } عالما بالأغراض فيجازي كلا بحسب قصده .
لمّا كان شأن التقوى عظيماً على النفوس ، لأنّها يصرفها عنها استعجال الناس لمنافع الدنيا على خيرات الآخرة ، نبّههم الله إلى أنّ خير الدنيا بيد الله ، وخير الآخرة أيضاً ، فإن اتقوه نالوا الخيرين .
ويجوز أن تكون الآية تعليماً للمؤمنين أن لا يصدّهم الإيمان عن طلب ثواب الدنيا ، إذ الكلّ من فضل الله . ويجوز أن تكون تذكيراً للمؤمنين بأن لا يلهيهم طلب خير الدنيا عن طلب الآخرة ، إذ الجمع بينهما أفضل ، وكلاهما من عند الله ، على نحو قوله : « فمنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب بما كسبوا » أو هي تعليم للمؤمنين أن لا يطلبوا خير الدنيا من طرق الحرام ، فإنّ في الحلال سعة لهم ومندوحة ، وليتطلّبوه من الحلال يُسهِّلْ لهم الله حصوله ، إذ الخير كلّه بيد الله ، فيوشك أن يَحرم من يتطلّبه من وجه لا يرضيه أو لا يباركَ له فيه . والمراد بالثواب في الآية معناه اللغوي دون الشرعي ، وهو الخير وما يرجع به طالب النفع من وجوه النفع ، مشتقّ من ثاب بمعنى رجع . وعلى الاحتمالات كلّها فجواب الشرط ب« منَ كان يريد ثواب الدنيا » محذوف ، تدلّ عليه علّته ، والتقدير : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يُعرض عن دين الله ، أو فلا يصدّ عن سؤاله ، أو فلا يقتصر على سؤاله ، أو فلا يحصّله من وجوه لا ترضي الله تعالى : كما فعل بنو أبيرق وأضرابهم ، وليتطلّبه من وجوه البرّ لأنّ فضل الله يسع الخيرين ، والكلّ من عنده . وهذا كقول القطامي :
فمن تَكُن الحضارة أعجبته *** فأيُّ رجال بادية ترانا
التقدير : فلا يغترر أو لا يبتهج بالحضارة ، فإنّ حالنا دليل على شرف البداوة .