255- الله هو الذي يستحق أن يُعبد دون سواه ، وهو الباقي القائم على شئون خلقه دائماً ، الذي لا يغفل أبداً ، فلا يصيبه فتور ولا نوم ولا ما يشبه ذلك لأنه لا يتصف بالنقص في شيء ، وهو المختص بملك السماوات والأرض لا يشاركه في ذلك أحد ، وبهذا لا يستطيع أي مخلوق كان أن يشفع لأحد إلا بإذن الله ، وهو - سبحانه وتعالى - محيط بكل شيء عالم بما كان وما سيكون ، ولا يستطيع أحد أن يدرك شيئاً من علم الله إلا ما أراد أن يعلم به من يرتضيه ، وسلطانه واسع يشمل السماوات والأرض ، ولا يصعب عليه تدبير ذلك لأنه المتعالي عن النقص والعجز ، العظيم بجلاله وسلطانه .
قوله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الزياتي ، أنا حميد بن زنجويه ، أنا ابن أبي شيبة ، أنا عبد الأعلى ، عن الجريري عن أبي السلسبيل عن عبد الله ابن رباح الأنصاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا المنذر أي آية من كتاب الله أعظم ؟ قلت : الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، قال : فضرب في صدري ثم قال : ليهنك العلم يا أبا المنذر ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده إن لهذه الآية لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو : أخبرنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني محتاج ولي عيال ولي حاجة شديدة قال : فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله قال : أما إنه قد كذبك وسيعود ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج ولي عيال ولا أعود ، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال : لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله قال : أما إنه كذبك وسيعود ، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ، ثم تعود قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت : ما هي ؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال : ما هي ؟ قلت : قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وقال : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا أحرص الناس على الخير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ قلت : لا قال ذاك الشيطان " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر هو المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حين يصبح آية الكرسي ، وآيتين من أول : حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ، حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ، ومن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح " .
قوله عز وجل : " الله " رفع بالابتداء ، وخبره في " لا إله إلا هو الحي " الباقي الدائم على الأبد ، وهو من له الحياة ، والحياة صفة الله تعالى " القيوم " قرأ عمر وابن مسعود " القيام " وقرأ علقمة " القيم " وكلها لغات بمعنى واحد ، قال مجاهد : القيوم القائم على كل شيء ، قال الكلبي : القائم على كل نفس بما كسبت وقيل هو القائم بالأمور . وقال أبو عبيدة : الذي لا يزول .
قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } . السنة : النعاس وهو النوم الخفيف ، والوسنان بين النائم واليقظان ، يقال منه وسن يسن وسناً وسنة ، والنوم : هو الثقيل المزيل للقوة والعقل ، قال المفضل الضبي : السنة في الرأس والنوم في القلب ، فالسنة أول النوم وهو النعاس ، وقيل : السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فهو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء ، نفى الله تعالى عن نفسه النوم لأنه آفة وهو منزه عن الآفات ولأنه تغير ولا يجوز عليه التغير .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن جعفر ، أخبرنا علي بن حرب ، أخبرنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، ولكنه يخفض القسط ، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ، ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال : حجابه النار .
قوله تعالى : { له ما في السماوات وما في الأرض } . ملكاً وخلقاً .
قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } . بأمره .
قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } . قال مجاهد وعطاء والسدي : ما بين أيديهم من أمر الدنيا ، وما خلفهم من أمر الآخرة ، وقال الكلبي : ما بين أيديهم يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، وما خلفهم من الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم ، وقال ابن جريج : { ما بين أيديهم } ما مضى أمامهم { وما خلفهم } ما يكون بعدهم ، وقال مقاتل : ( ما بين أيديهم ) ، ما كان قبل خلق الملائكة { وما خلفهم } أي ما كان بعد خلقهم ، وقيل : { ما بين أيديهم } أي ما قدموه من خير أو وشر وما خلفهم ما هم فاعلوه .
قوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه } . أي من علم الله .
قوله تعالى : { إلا بما شاء } . أي يطلعهم عليه ، يعني لا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء مما أخبر به الرسل كما قال الله تعالى : ( فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) .
قوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } . أي ملأ وأحاط بهما ، واختلفوا في الكرسي فقال الحسن : هو العرش نفسه ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله : { وسع كرسيه السماوات والأرض } أي سعته مثل سعة السماوات والأرض ، وفي الأخبار أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة .
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السماوات السبع ، والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس ، وقال علي ومقاتل : كل قائمة من الكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع ، وهو بين يدي العرش ، ويحمل الكرسي أربعة أملاك ، لكل ملك أربعة وجوه ، وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام ، ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام ، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة ، وملك على صورة سيد الأنعام ، وهو الثور ، وهو يسأل للإنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل ، وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة ، وملك على صورة سيد الطير ، وهو النسر يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة " .
وفي بعض الأخبار : أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة ، وسبعين حجاباً من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام ، لولا ذلك لاحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش . ذ
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أراد بالكرسي علمه ، وهو قول مجاهد ، ومنه قيل لصحيفة العلم كراسة ، وقيل : كرسيه ملكه وسلطانه ، والعرب تسمى الملك القديم كرسياً .
قوله تعالى : { ولا يؤوده } . أي لا يثقله ولا يشق عليه يقال : آدني الشي أي أثقلني .
قوله تعالى : { حفظهما } . أي حفظ السماوات والأرض .
قوله تعالى : { وهو العلي } . الرفيع فوق خلقه والمتعالي عن الأشباه والأنداد ، وقيل العلي بالملك والسلطنة .
{ اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ }
قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله : «اللّهُ » .
وأما تأويل قوله : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ } فإن معناه : النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحيّ القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية . يقول : «الله » الذي له عبادة الخلق «الحيّ القيوم » ، لا إله سواه ، لا معبود سواه ، يعني : ولا تعبدوا شيئا سوى الحَيّ القَيّوم الذي لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ، والذي صفته ما وصف في هذه الآية . وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض ، واختلفوا فيه ، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض ، وإيمانا به من بعض . فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به ووفقنا للإقرار به .
وأما قوله : { الحَيّ } فإنه يعني : الذي له الحياة الدائمة ، والبقاء الذي لا أوّل له يحدّ ، ولا آخر له يُؤْمَد ، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلحياته أول محدود وآخر مأمود ، ينقطع بانقطاع أمدها وينقضي بانقضاء غايتها .
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { الحَيّ } حيّ لا يموت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : إنما سمى الله نفسه حيا لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها ، فهو حيّ بالتدبير لا بحياة .
وقال آخرون : بل هو حيّ بحياة هي له صفة .
وقال آخرون : بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به ، فقلناه تسليما لأمره .
وأما قوله : { القَيّومُ } فإنه «الفيعول » من القيام ، وأصله «القيووم » : سبق عين الفعل وهي واو ياء ساكنة ، فاندغمتا فصارتا ياء مشددة وكذلك تفعل العرب في كل واو كانت للفعل عينا سبقتها ياء ساكنة . ومعنى قوله : { القَيّومُ } : القائم برزق ما خلق وحفظه ، كما قال أمية :
لَمْ يُخْلَقِ السّماءُ والنّجُومُ *** والشّمْسُ مَعْها قَمَرٌ يقومُ
قَدّرَهُ المُهَيْمِنُ القَيّومُ *** والحَشْرُ والجَنّةُ والجحيمُ
*** إلا لأمرٍ شأنُهُ عَظِيمُ ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { القَيّومُ } قال : القائم على كل شيء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { القَيّومُ } قيم كل شيء ، يكلؤه ويرزقه ويحفظه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { القَيّومُ } وهو القائم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { الحَيّ الْقَيّومُ } قال : القائم الدائم .
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ } لا يأخذه نعاس فينعس ، ولا نوم فيستثقل نوما . والوسن : خثورة النوم ، ومنه قول عديّ بن الرقاع :
وَسْنانُ أقْصَدَهُ النّعاسَ فَرَنّقَتْ *** في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنائِمِ
ومن الدليل على ما قلنا من أنها خثورة النوم في عين الإنسان ، قول الأعشى ميمون بن قيس :
تُعاطِي الضّجِيعَ إذَا أقْبَلَتْ بُعَيْدَ النّعاسِ وَقَبْلَ الوَسَنْ
باكَرَتْها الأغْرَابُ في سِنَةِ النّوْمِ فَتَجْرِي خِلالَ شَوْكِ السّيالِ
يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها ، يقال منه : وسن فلان فهو يَوْسَنُ وَسَنا وسِنَةً وهو وسنان ، إذا كان كذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله تعالى : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } قال : السنة : النعاس ، والنوم : هو النوم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } السنة : النعاس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } قالا : نعسة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } قال : السنة : الوسنة ، وهو دون النوم ، والنوم : الاستثقال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } السنة : النعاس ، والنوم : الاستثقال .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله سواء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أما سنة : فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } قال : السنة : الوسنان بين النائم واليقظان .
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا منجاب بن الحرث ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } قال : النعاس .
حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لا تأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } قال : الوسنان : الذي يقوم من النوم لا يعقل ، حتى ربما أخذ السيف على أهله .
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : { لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } لا تحله الاَفات ، ولا تناله العاهات . وذلك أن السنة والنوم معنيان يغمران فهم ذي الفهم ، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه .
فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : الله لا إله إلا هو الحيّ الذي لا يموت ، القيوم على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، لا يغيره ما يغير غيره ، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام ، بل هو الدائم على حال ، والقيوم على جميع الأنام ، لو نام كان مغلوبا مقهورا ، لأن النوم غالب النائم قاهره ، ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فيهما دكّا ، لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته ، والنوم شاغل المدبر عن التدبير ، والنعاس مانعٌ المقدّر عن التقدير بوسنه . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : وأخبرني الحكم بن أبان ، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } أن موسى سأل الملائكة : هل ينام الله ؟ فأوحى الله إلى الملائكة ، وأمرهم أن يؤرّقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام . ففعلوا ، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه ، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما . قال : فجعل ينعس وهما في يديه ، في كل يد واحدة . قال : فجعل ينعس وينتبه ، وينعس وينتبه ، حتى نعس نعسة ، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما . قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله ، يقول : فكذلك السموات والأرض في يديه .
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله عليه وسلم على المنبر ، قال : «وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى هَلْ يَنامُ اللّهُ تَعالى ذِكْرُهُ ؟ فأرْسَلَ اللّهُ إلَيْهِ مَلَكا فَأرّقَهُ ثَلاثا ، ثُمّ أعْطَاهُ قارُورَتَيْنِ ، فِي كُلّ يَدٍ قارُورَةٌ ، وأمَرَهُ أنْ يَحْتَفِظَ بِهما » قال : «فَجَعَلَ يَنامُ وَتَكادُ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ ، ثُمّ يَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إحْدَاهُمَا عَنِ الأُخْرَى ، ثُمّ نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ وَانْكَسَرَتِ القارُورَتَانِ » . قال : ضرب الله مثلاً له ، أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مَا فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بإذْنِهِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { لَهُ مَا فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد ، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود . وإنما يعني بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه ، لأن المملوك إنا هو طوع يد مالكه ، وليس له خدمة غيره إلا بأمره . يقول : فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي ، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه ، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه ، ولا يطيع سوى مولاه .
وأما قوله : { مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذْنِهِ } يعني بذلك : من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم إلا أن يخليه ، ويأذن له بالشفاعة لهم . وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين قالوا : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فقال الله تعالى ذكره لهم : لي ما في السموات وما في الأرض مع السموات والأرض ملكا ، فلا ينبغي العبادة لغيري ، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى ، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا ، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له ، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلاّ بِمَا شاءَ } .
يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما ، لا يخفى عليه شيء منه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم : { وَيَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } الدنيا { وَما خَلْفَهُمْ } الاَخرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ } ما مضى من الدنيا { وَما خَلْفَهُمْ } من الاَخرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج قوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ } ما مضى أمامهم من الدنيا { وَما خَلْفَهُمْ } ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ } قال : ما بين أيديهم فالدنيا { وَما خَلْفَهُمْ } فالاَخرة .
وأما قوله : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شاءَ } فإنه يعني تعالى ذكره أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء محيط بذلك كله محص له دون سائر من دونه ، وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه فأراد فعلمه .
وإنما يعني بذلك أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلاً فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم ، يقول : أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها يعلمها ، لا يخفى عليه صغيرها وكبيرها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } يقول : لا يعلمون بشيء من علمه إلا بما شاء هو أن يعلمهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } .
اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض ، فقال بعضهم : هو علم الله تعالى ذكره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن مطرف ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ } قال : كرسيه : علمه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مطرّف ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله ، وزاد فيه : ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا } ؟
وقال آخرون : الكرسي : موضع القدمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن مسلم الطوسي ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ثني أبي ، قال : ثني محمد بن جحادة ، عن سلمة بن كهيل ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي موسى ، قال : الكرسي : موضع القدمين ، وله أطيط كأطيط الرحل .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } فإن السموات والأرض في جوف الكرسي ، والكرسي بين يدي العرش ، وهو موضع قدميه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } قال : كرسيه الذي يوضع تحت العرش ، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن عمار الدهني ، عن مسلم البطين ، قال : الكرسي : موضع القدمين .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } قال : لما نزلت : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } قال أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض ، فكيف العرش ؟ فأنزل الله تعالى : { وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ } إلى قوله : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمّا يُشْرِكُونَ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ } قال ابن زيد : فحدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما السّمَوَاتُ السّبْعُ فِي الكُرْسِيّ إلاّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ » . قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما الكُرْسِيّ في العَرْشِ إلاّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاةٍ مِنَ الأرْضِ » .
وقال آخرون : الكرسي : هو العرش نفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : كان الحسن يقول : الكرسي : هو العرش .
قال أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب ، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما :
حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، قال : أتت امرأة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ! فعظم الربّ تعالى ذكره ، ثم قال : «إنّ كُرْسِيّهُ وَسِعَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ ، وَإنّهُ لَيَقْعُدُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ مِقْدَارُ أرْبَعِ أصَابِعَ » ثم قال بأصابعه فجمعها : «وَإنّ لَهُ أطيطا كأطِيطِ الرّحْلِ الجَدِيدِ إذَا رُكِبَ مِنْ ثِقَلِه » .
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، عن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، قال : جاءت امرأة ، فذكر نحوه .
وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه أنه قال : هو علمه ، وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُما } على أن ذلك كذلك ، فأخبر أنه لا يؤوده حِفظ ما علم ، وأحاط به مما في السموات والأرض ، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم : { رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما } فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء ، فكذلك قوله : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } . وأصل الكرسي : العلم ، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب كُرّاسة ، ومنه قول الراجز في صفة قانص :
حتى إذَا ما احْتازَها تَكَرّسا
يعني علم . ومنه يقال للعلماء : الكراسي ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، يعني بذلك أنهم العلماء الذين تصلح بهم الأرض¹ ومنه قول الشاعر :
يَحُفّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌكَرَاسِيّ بالأحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
يعني بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها .
والعرب تسمي أصل كل شيء : الكِرْس ، يقال منه : فلان كريم الكِرْس : أي كريم الأرض ، قال العجاج :
قَدْ عَلِمَ القُدّوسُ مَوْلَى القُدْسِ
أنّ أبا العَبّاسِ أوْلَى نَفْسِ
بِمَعْدن المُلْكِ الكَرِيمِ الكِرْسِ
يعني بذلك : الكريم الأصل ، ويُروى :
فِي مَعْدِنِ العزّ الكَرِيمِ الكِرْسِ
( القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيّ العَظِيمُ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَلا يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا } ولا يشقّ عليه ولا يثقله ، يقال منه : قد آدَني هذا الأمر فهو يؤودُني أَوْدا وإيادا ، ويقال : ما آدك فهو لي آئدٌ ، يعني بذلك : ما أثقلك فهو لي مُثقِل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } يقول : لا يثقل عليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُما } قال : لا يثقل عليه حفظهما .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } لا يثقل عليه لا يجهده حفظهما .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله : { وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يثقل عليه شيء .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يثقل عليه حفظهما .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، وحدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قالا جميعا : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يثقل عليه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن عبيد ، عن الضحاك ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعته يعني خلادا يقول : سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه الآية : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يكثر عليه .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يَكْرُثُهُ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يثقل عليه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } يقول : لا يثقل عليه حفظهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يعزّ عليه حفظهما .
قال أبو جعفر : والهاء والميم والألف في قوله : { حِفْظُهُمَا } من ذكر السموات والأرض¹ فتأويل الكلام : وسع كرسيه السموات والأرض ، ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض .
وأما تأويل قوله : { وَهُوَ العَلِيّ } فإنه يعني : والله العليّ . والعلِيّ : الفعيل من قولك علا يعلو علوّا : إذا ارتفع ، فهو عالٍ وعليّ ، والعليّ : ذو العلوّ والارتفاع على خلقه بقدرته . وكذلك قوله : { العَظِيمُ } ذو العظمة ، الذي كل شيء دونه ، فلا شيء أعظم منه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : العظيم الذي قد كمل في عظمته .
واختلف أهل البحث في معنى قوله : { وَهُوَ العَلِيّ } فقال بعضهم : يعني بذلك¹ وهو العليّ عن النظير والأشباه . وأنكروا أن يكون معنى ذلك : وهو العليّ المكان ، وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا معنى لوصفه بعلوّ المكان¹ لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان .
وقال آخرون : معنى ذلك : وهو العليّ على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه ، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه ، كما وصف به نفسه أنه على العرش ، فهو عالٍ بذلك عليهم .
وكذلك اختلفوا في معنى قوله : { العَظِيمُ } فقال بعضهم : معنى العظيم في هذا الموضع : المعظم صرف المُفَعّل إلى فعيل ، كما قيل للخمر المعتقة : خمر عتيق ، كما قال الشاعر :
وكأنّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإسْفَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلالِ
وإنما هي معتقة . قالوا : فقوله «العظيم » معناه : المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه . قالوا : وإما يحتمل قول القائل : هو عظيم أحد معنيين : أحدهما : ما وصفنا من أنه معظم¹ والاَخر : أنه عظيم في المساحة والوزن . قالوا : وفي بطول القول بأن يكون معنى ذلك : أنه عظيم في المساحة والوزن صحة القول بما قلنا .
وقال آخرون : بل تأويل قوله : { العَظِيمُ } هو أن له عظمة هي له صفة . وقالوا : لا نصف عظمته بكيفية ، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات ، وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العِظَم المعروف من العباد ، لأن ذلك تشبيه له بخلقه ، وليس كذلك . وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها ، وقالوا : لو كان معنى ذلك أنه مُعَظَّمٌ ، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق ، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق ، لأنه لا معظم له في هذه الأحوال .
وقال آخرون : بل قوله : إنه العظيم وصف منه نفسه بالعظم . وقالوا : كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته .
{ الله لا إله إلا هو } مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غيره . وللنجاة خلاف في أنه هل يضمر للأخير مثل في الوجود أو يصح أن يوجد . { الحي } الذي يصح أن يعلم ويقدر وكل ما يصح له فهو واجب لا يزول لامتناعه عن القوة والإمكان . { القيوم } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه فيعول من قام بالأمر إذا حفظه ، وقرئ " القيام " و " القيم " .
{ لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة فتور يتقدم النوم قال ابن الرقاع :
وسنان أقصده النعاس فرنقت *** في عينه سنة وليس بنائم
والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا ، وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود ، والجملة نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حيا قيوما ، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان موؤف الحياة قاصرا في الحفظ والتدبير ، ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده . { له ما في السموات وما في الأرض } تقرير لقيوميته واحتجاج به على تفرده في الألوهية ، والمراد بما فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فهو أبلغ من قوله : { له السماوات والأرض وما فيهن } ، { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } بياسن لكبرياء شأنه سبحانه وتعالى ، وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة أي مخاصمة . { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ما قبلهم وما بعدهم ، أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي ، أو أمور الدنيا وأمور الآخرة ، أو عكسه ، أو ما يحسونه وما يعقلونه ، أو ما يدركونه وما لا يدركونه ، والضمير لما في السماوات والأرض ، لأن فيهما العقلاء ، أو لما دل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام . { ولا يحيطون بشيء من علمه } من معلوماته . { إلا بما شاء } أن يعلموه ، وعطفه على ما قبله لأن مجموعهما يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته سبحانه وتعالى . { وسع كرسيه السماوات والأرض } تصوير لعظمته وتمثيل مجرد كقوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره } { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } ولا كرسي في الحقيقة ، ولا قاعد . وقيل كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه ، مأخوذ من كرسي العالم والملك . وقيل جسم بين يدي العرش ولذلك سمي كرسيا محيط بالسماوات السبع ، لقوله عليه الصلاة والسلام " ما السماوات السبع والأرضون السبع من الكرسي ، إلا كحلقة في فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة " ولعله الفلك المشهور بفلك البروج ، وهو في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد ، وكأنه منسوب إلى الكرسي وهو الملبد . { ولا يؤوده } أي ولا يثقله ، مأخوذ من الأود وهو الاعوجاج . { حفظهما } أي حفظه السماوات والأرض ، فحذف الفاعل وأضاف المصدر إلى المفعول . { وهو العلي } المتعالي عن الأنداد والأشباه . { العظيم } المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه .
وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية ، فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد في الألوهية ، متصف بالحياة ، واجب الوجود لذاته موجد لغيره ، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره ، منزه عن التحيز والحلول ، مبرأ عن التغير والفتور ، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري الأرواح ، مالك الملك والملكوت ، ومبدع الأصول والفروع ، ذو البطش الشديد ، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له عالم الأشياء كلها ، جليها وخفيها ، كليها وجزئيها ، واسع الملك والقدرة ، كل ما يصح أن يملك ويقدر عليه ، لا يؤده شاق ، ولا يشغله شأن ، متعال عما يدركه ، وهو عظيم لا يحيط به فهم ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي ، من قرأها بعث الله ملكا يكتب من حسناته ، ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة " . وقال " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله " .
{ اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }
هذه سيدة آي القرآن ، ورد ذلك في الحديث( {[2428]} ) وورد أنها تعدل ثلث القرآن( {[2429]} ) ، وورد أن من قرأها أول ليله لم يقربه شيطان( {[2430]} ) ، وكذلك من قرأها أول نهاره . وهذه متضمنة التوحيد والصفات العلى ، و { الله } مبتدأ ، و { لا إله } مبتدأ ثانٍ ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود ، و { إلا } هو بدل من موضع { لا إله } ، و { الحي } صفة من صفات الله تعالى ذاتية ، وذكر الطبري ، عن قوم أنهم قالوا : الله تعالى حي لا بحياة . وهذا قول المعتزلة وهو قول مرغوب عنه ، وحكي عن قوم أنه حي بحياة هي صفة له ، وحكي عن قوم أنه يقال حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه( {[2431]} ) ، و { القيوم } فيعول من القيام أصله قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء ، وقيوم بناء مبالغة أي : هو القائم على كل أمر بما يجب له ، وبهذا المعنى فسره مجاهد والربيع والضحاك ، وقرأ ابن مسعود وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعمش : «الحي القيوم » بالألف( {[2432]} ) ثم نفى عز وجل أن تأخذه { سنة } أو { نوم } ، وفي لفظ الأخذ غلبة ما ، فلذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي ، والسنة بدء النعاس ، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه ، وليس يفقد معه كل ذهنه ، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن ، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا تدركه آفة ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال ، فجعلت هذه مثالاً لذلك وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ، وهذا هو مفهوم الخطاب كما قال تعالى : { فلا تقل لهما أف }( {[2433]} ) [ الإسراء : 23 ] ، ومما يفرق بين الوسن والنوم قول عدي بن الرقاع : [ الكامل ]
وَسْنان أَقْصَدُه النُّعاسُ فَرنّقَتْ . . . في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بنائِمِ( {[2434]} )
وبهذا المعنى في السنة فسر الضحاك والسدي ، وقال ابن عباس وغيره : السنة النعاس ، وقال ابن زيد : الوسنان ، الذي يقوم من النوم وهولا يعقل حتى ربما جرد السيف على أهله .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا الذي قال ابن زيد فيه نظر وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب ، وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال : «وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه ؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً لم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما ، قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت فانكسرت القارورتان »
قال : ضرب الله مثلاً أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض( {[2435]} ) ، وقوله تعالى : { له ما في السموات وما في الأرض } أي بالملك . فهو مالك الجميع وربه ، وجاءت العبارة ب { ما } وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود ، ثم قرر ووقف تعالى على من يتعاطى أن { يشفع عنده } أو يتعاطى ذلك فيه إلا أن يأذن هو في ذلك لا إله إلا هو( {[2436]} ) وقال الطبري : هذه الآية نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فقال الله : { له ما في السموات وما في الأرض } الآية تقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهنا هم الأنبياء والعلماء وغيرهم ، والإذن هنا راجع إلى الأمر فيما نص عليه ، كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له : واشفع تشفع( {[2437]} ) وإلى العلم والتمكين إن شفع أحد من الأنبياء والعلماء قبل أن يؤمر ، والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار ، وهو بين المنزلتين أو وصل ولكن له أعمال صالحة( {[2438]} ) .
وفي البخاري( {[2439]} ) ، في باب بقية من باب الرؤية ، أن المؤمنين يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا ، فهذه شفاعة فيمن يقرب أمره ، وكما يشفع الطفل المحبنطىء على باب الجنة الحديث( {[2440]} ) ، وهذا إنما هو في قرابتهم ومعارفهم وأن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين بالذنوب الذين لم تنلهم شفاعة الأنبياء .
وأما شفاعة محمد في تعجيل الحساب فخاصة له ، وهي الخامسة التي في قوله : «وأعطيت الشفاعة » وهي عامة للناس ، والقصد منها إراحة المؤمنين ، ويتعجل للكفار منها المصير إلى العذاب ، وكذلك إنما يطلبها إلى الأنبياء المؤمنون ، والضميران في قوله : { أيديهم وما خلفهم } عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : { له ما في السموات وما في الأرض } ، وقال مجاهد { ما بين أيديهم } الدنيا { وما خلفهم } الآخرة ، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان ، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان ، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده ، وبنحو قول مجاهد قاله السدي وغيره .
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
قوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه } معناه : من معلوماته( {[2441]} ) ، وهذا كقول الخضر لموسى عليهما السلام حين نقر العصفور من حرف السفينة : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات ، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض ، ومعنى الآية ، لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه ، واختلف الناس في الكرسي الذي وصفه الله تعالى بأنه وسع السموات والأرض ، فقال ابن عباس : { كرسيه } علمه ، ورجحه الطبري : وقال : منه الكراسة للصحائف التي تضم العلم ، ومنه قيل للعلماء الكراسيّ ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، وهذه الألفاظ تعطي نقض ما ذهب إليه من أن الكرسي العلم ، قال الطبري : ومنه قول الشاعر :
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة . . . كراسيّ بالأحداث حين تنوب( {[2442]} )
يريد بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها ، وقال أبو موسى الأشعري : الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل( {[2443]} ) ، وقال السدي : هو موضع قدميه .
قال القاضي أبو محمد : وعبارة أبي موسى مخلصة( {[2444]} ) لأنه يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك ، وهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك ، والكرسي هو موضع القدمين ، وأما عبارة السدي فقلقة ، وقد مال إليها منذر البلوطي( {[2445]} ) وتأولها بمعنى : ما قدم من المخلوقات( {[2446]} ) على نحو ما تأول في قول النبي عليه السلام فيضع الجبار فيها قدمه( {[2447]} ) . قال أبو محمد وهذا عندي عناء ، لأن التأويل لا يضطر إليه إلا في ألفاظ النبي عليه السلام وفي كتاب الله ، وأما في عبارة مفسر فلا ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الكرسي هو العرش نفسه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ، والعرش أعظم منه( {[2448]} ) ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس »( {[2449]} ) ، وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض » ، وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى ، والمستفاد من ذلك عظم قدرته إذ { لا يؤوده } حفظ هذا الأمر العظيم ، و { يؤوده } : معناه يثقله ، يقال آدني( {[2450]} ) الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة ، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم ، وروي عن الزهري وأبي جعفر والأعرج بخلاف عنهم ، تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى ، جعلوها بين بين لا تخلص واواً مضمومة ولا همزة محققة ، كما قيل في لؤم لوم ، و { العلي } : يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان ، لأن الله منزه عن التحيز ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا قول جهلة مجسمين( {[2451]} ) ، وكان الوجه أن لا يحكى وكذا { العظيم } هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر ، لا على معنى عظم الأجرام ، وحكى الطبري عن قول : أن { العظيم } معناه المعظم ، كما يقال العتيق بمعنى المعتق وأنشد قول الأعشى :
وكأن الخمر العتيق من الأس . . . فنط ممزوجة بماء زلال( {[2452]} )
وذكر عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا : لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيماً قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ .
لما ذكر هول يوم القيامة وذكر حال الكافرين استأنف بذكر تمجيد الله تعلى وذكر صفاته إبطالاً لكفر الكافرين وقطعاً لرجائهم ، لأنّ فيها { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ، وجعلت هذه الآية ابتداءً لآيات تقرير الوحدانية والبعث ، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنّها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللاّحقة .
وجيء باسم الذات هنا لأنّه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم ، فإنّ العَلَم أعْرَفُ المَعارف لعدم احتياجه في الدلالة على مسمّاه إلى قرينة أو مَعُونة لولا احتمالُ تعدد التسمية ، فلما انتفى هذا الاحتمالُ في اسم الجلالة كان أعرفَ المعارف لا مَحالةً لاستغنائه عن القرائن والمعونات ، فالقرائنُ كالتكلّم والخطاب ، والمعونات كالمَعاد والإشارةِ باليدِ والصلةِ وسبقِ العهد والإضافة .
وجملة « لا إله إلاَّ هو » خبر أول عن اسم الجلالة ، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية وقد تقدم الكلام على دلالة لا إله إلاّ هو على التوحيد ونفي الآلهة عند قوله تعالى : { وإلهكم إله واحد إلاّ هو } [ البقرة : 163 ] .
وقوله : { الحي } خبر لمبتدأ محذوف ، و { القيّوم } خبر ثان لذلك المبتدإ المحذوف ، والمقصودُ إثبات الحياة وإبطالُ استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة ، عنهم كما قال إبراهيم عليه السلام { يا أبت لِمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] وفُصِلت هذه الجملة عن التي قبلها للدلالة على استقلالها لأنّها لو عطفت لكانت كالتبع ، وظاهر كلام الكشاف أنّ هذه الجملة مبيّنة لما تضمّنته جملة { الله لا إله إلا هو } من أنّه القائم بتدبير الخلق ، أي لأنّ اختصاصه بالإلهية يقتضي أن لا مدبّر غيره ، فلذلك فصلت خلافاً لما قرر به التفتازاني كلامَه فإنّه غير ملائم لعبارته .
والحيّ في كلام العرب من قامت به الحياة ، وهي صفة بها الإدراكُ والتصرّفُ ، أعني كمال الوجود المتعارف ، فهي في المخلوقات بانبثاث الروح واستقامة جريان الدم في الشرايين ، وبالنسبة إلى الخالق ما يقاربُ أثَر صفة الحياة فينا ، أعني انتفاء الجَمَادِيَّة مع التنزيه عن عوارض المخلوقات . وفسّرها المتكلّمون بأنها « صفة تصحّح لمن قامت به الإدراكَ والفعل » .
وفسّر صاحب « الكشاف » الحيّ بالباقي ، أي الدائم الحياة بحيث لا يعتريه العدم ، فيكون مستعملاً كناية في لازم معناه لأنّ إثباتَ الحياة لله تعالى بغير هذا المعنى لا يكون إلاَّ مجازاً أو كناية . وقال الفخر : « الذي عندي أنّ الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن صحة العلم والقدرة . بل عبار عن كمال الشيء في جنسه ، قال تعالى : { فأحيا به الأرض بعد موتها } [ الجاثية : 5 ] ، وحياة الأشجار إيراقها . فالصفة المسمّاة في عرف المتكلّمين بالحياة سمّيت بذلك لأنّ كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بها ، فالمفهوم الأصلي من لفظ الحيّ كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته » .
والمقصود بوصف الله هنا بالحيّ إبطال عقيدة المشركين إلاهية أصنامهم التي هي جمادات ، وكيف يكون مدبّر أمور الخلق جماداً .
والحيّ صفة مشبهة من حيِيَ ، أصله حَيِيٌ كحَذِرٍ أدغمت الياءان ، وهو يائي باتفاق أئمة اللّغة ، وأما كتابة السلف في المصحف كلمة حيوة بواو بعد الياء فمخالفة للقياس ، وقيل كتبوها على لغة أهل اليمن لأنّهم يقولون حيوة أي حياة ، وقيل كتبوها على لغة تفخيم الفتحة .
والقيّوم فيعول من قام يقوم وهو وزن مبالغة ، وأصله قَيْوُوم فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمتا ، والمراد به المبالغة في القيام المستعملِ مجازاً مشهوراً في تدبير شؤون الناس ، قال تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبتْ } [ الرعد : 33 ] . والمقصود إثبات عموم العلم له وكمالِ الحياة وإبطالُ إلاهية أصنام المشركين ، لأن المشركين كانوا يعترفون بأن مدبّر الكون هو الله تعالى ، وإنّما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء ومقتسمين أمور القبائل . والمشركون من اليونان كانوا قد جعلوا لكل إله من آلهتهم أنواعاً من المخلوقات يتصرّف فيها وأمماً من البشر تنتمي إليه ويَحنأ عليها .
وجملة { لا تأخذه سِنة ولا نوم } مُقرّرة لمضمون جملة « الله الحيّ القيوم » ولرفع احتمال المبالغة فيها ، فالجملة منزّلة منزلة البيان لمعنى الحي القيوم ولذلك فصلت عن التي قبلها .
والسِّنة فِعْلة من الوسن ، وهو أول النوم ، والظاهر أنّ أصلها اسم هيأة كسائر ما جاء على وزن فِعله من الواوي لفاء ، وقد قالوا وَسنة بفتح الواو على صيغة المرة . والسنة أول النوم ، قال عدي بن الرقاع :
وسنانُ أقْصَدَه النُّعَاس فَرنَّقَتْ *** في عينه سِنَة وليسَ بنائم
والنوم معروف وهو فتور يعتري أعصَاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب من تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعملِ العصبي ، فيشتدّ عند مغيب الشمس ومجيء الظُلمة فيطلب الدمَاغ والجهاز العصبي الذي يدبّره الدمَاغ استراحةً طبيعية فيغيب الحِسّ شيئاً فشيئاً وتثقل حركة الأعضاء ، ثم يغيب الحسّ إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة .
ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير ، وإثبات لكمال العلم ؛ فإنّ السنة والنوم يشبهان الموت ، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة ، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس .
ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأنّ من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقاً ، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة ، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر ، قال أبو كبير :
فأتَتْ به حُوشَ الفُؤادِ مُبَطَّناً *** سُهُداً إذَا ما نَام ليلُ الهَوْجَلِ
والمقصود أنّ الله لا يحجب علمه شيء حجباً ضعيفاً ولا طويلاً ولا غلبة ولا اكتساباً ، فلا حاجة إلى ما تطلّبه الفخر والبيضاوي من أن تقديم السنة على النوم مراعى فيه ترتيب الوجود ، وأنّ ذكر النوم من قبيل الاحتراس .
وقد أخذ هذا المعنى بشّار وصاغه بما يناسب صناعة الشعر فقال :
وليلٍ دَجُوجِي تَنَامُ بناتُه *** وأبناؤه من طُوله{[193]} ورَبَائِبه
فإنّه أراد من بنات الليل وأبنائه الساهرات والساهرين بمواظبة ، وأراد بربائب الليل من هم أضعف منهم سهراً لليلِ لأنّ الربيب أضعف نسبة من الولد والبنت .
وجملة { له ما في السماوات وما في الأرض } تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته ، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة لأنّ من كانت جميع الموجودات مِلكاً له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألاّ يهملها ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها .
واللامُ للمِلك . والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات ، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته ، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنّه لا يشذّ عن مِلكه موجود فحصل معنى الحصر ، ولكنّه زاده تأكيداً بتقديم المسند أي لا لِغيره لإفادة الردّ على أصناف المشركين ، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرّد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضّالة . فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها ، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر ، وهذا بلاغة معجِزة .
وجملة { من ذا الذي يشفع عنده ألا بإذنه } مقرّرة لمضمون جملة { له ما في السموات وما في الأرض } لما أفادُه لام الملك من شمول ملكه تعالى لِجميع ما في السماوات وما في الأرض ، وما تضمنّه تقديم المجرور من قَصْر ذلك الملك عليه تعالى قصرَ قلب ، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى ، بالمطابقة . وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده التي لا تردّ بالالتزام ، لأنّ الإدلال من شأن المساوي والمقارب ، والشفاعة إدلال . وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنّهم لم يثبتوا لإلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة ، بل قالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وقالوا : { ما نعبدهم إلاَّ ليقرّبونا إلى الله زُلْفى } [ الزمر : 3 ] ، فأكّد هذا المدلول بالصريح ، ولذلك فصلت هذه الجملة عمّا قبلها .
وَ { ذا } مزيدة للتأكيد إذ ليس ثمّ مشار إليه معيَّن ، والعرب تزيد ( ذا ) لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معيّن يتعلق به حكم الاستفهام ، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدلّ على أن ليس ثمّةَ متطلع ينصب نفسه لادّعاء هذا الحكم ، وتقدم القول في ( من ذا ) عند قوله تعالى : { مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] . والاستفهام في قوله : { من ذا الذي يشفع عنده } مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء مِنه بقوله { إلا بإذنه } .
والشفاعة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة } [ البقرة : 54 ] .
والمعنى أنّه لا يشفع عنده أحد بحق وإدلال لأنّ المخلوقات كلها ملكُه ، ولكن يشفع عنده من أراد هُو أن يُظهر كرامته عنده فيأذَنَه بأن يشفع فيمن أراد هو العفوَ عنه ، كما يُسند إلى الكبراء مناولة المكرمات إلى نبغاء التلامذة في مواكب الامتحان ، ولذلك جاء في حديث الشفاعة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس ليكلّم ربّه فيخفّف عنهم هَوْل موقف الحساب ، فيأتي حتى يسجد تحت العرش ويتكلم بكلمات يعلّمه الله تعالى إياها ، فيقال يا محمدُ ارفع رأسك ، سَل تعطَه ، واشفَع تشفَّع ، فسجوده استيذان في الكلام ، ولا يشفع حتى يقال اشفع ، وتعليمُه الكلمات مقدّمة للإذن .
وجملة { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه } تقرير وتكميل لما تضمنّه مجموع جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } ولما تضمنّته جملة { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه } ، فإنّ جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } دلتا على عموم علمه بما حدث ووُجد من الأكوان ولم تَدُلاّ على علمه بما سيكون فأُكد وكمل بقوله يعلمُ الآية ، وهي أيضاً تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه إذ قد يتّجه سؤال لماذا حُرموا الشفاعة إلاّ بعد الإذن فقيل لأنّهم لا يعلمون من يستحقّ الشفاعة وربّما غرّتهم الظواهر ، والله يعمل من يستحقّها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها .
والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها ، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم . وأما علمه بما في زمانهم فأحرى . وقيل المستقبل هو ما بين الأيدي والماضي هوالخَلف ، وقيل عكس ذلك ، وهما استعمالان مبنيان على اختلاف الاعتبار في تمثيل ما بين الأيدي والخلف ، لأنّ ما بين أيدي المرء هو أمامَه ، فهو يستقبله ويشاهده ويسعى للوصول إليه ، وما خلفه هو ما وراء ظهره ، فهو قد تخلّف عنه وانقطع ولا يشاهده ، وقد تجاوزه ولا يتّصل به بعد وقيل أمور الدنيا وأمور الآخرة ، وهوفرع من الماضي والمستقبل ، وقيل المحسوسات والمعقولات . وأياماً كان فاللفظ مجاز ، والمقصود عموم العلم بسائرِ الكائنات .
وضمير { أيديهم } و { خلفهم } عائد إلى { ما في السماوات وما في الأرض } بِتغليب العقلاء من المخلوقات لأنّ المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما يشمل أحوال غير العقلاء ، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السموات وما في الأرض فيكون المراد ما يختصّ بأحوال البشر وهو البعض ، لضمير ولا يحيطون لأنّ العلم من أحوال العقلاء .
وعطفت جملة { ولا يحيطون بشيء من علمه } على جملة { يعلم ما بين أيديهم } لأنّها تكملة لمعناها كقوله : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [ البقرة : 216 ] .
ومعنى يحيطون يعلمون علماً تاماً ، وهومجاز حقيقته أنّ الإحاطة بالشيء تقتضي الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذّ منه شيء من أوله ولا آخره ، فالمعنى لا يعلمون علم اليقين شيئاً من معلوماته ، وأمَّا ما يدّعونه فهو رجم بالغيب .
فالعلمُ في قوله : { من علمه } بمعنى المعلوم ، كالخَلْق بمعنى المخلوق ، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدُنية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية . ولذلك فقوله : { إلا بما شاء } تنبيه على أنّه سبحانه قد يُطلع بعض أصفيائه على ما هو من خواصّ علمه كقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] .
وقوله : { وسّع كرسيّه السموات والأرض } تقرير لما تضمّنته الجمل كلّها من عظمة الله تعالى وكبريائه وعلمِه وقدرته وبيان عظمة مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه ، أو لبيان سعة ملكه كذلك كما سنبيّنه ، وقد وقعت هذه الجمل مترتبة متفرّعة .
والكرسي شيء يُجلس عليه مُتركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية ، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه ، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعاً فهو العرش . وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيّز ، فتعين أن يكون مراداً به غير حقيقته .
والجمهور قالوا : إنّ الكرسي مخلوق عظيم ، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته ، فقيل هو العرش ، وهو قول الحسَن . وهذا هو الظاهر لأنّ الكرسي لم يذكر في القرآن إلاّ في هذه الآية وتكرّر ذكر العرش ، ولم يَرِد ذكرهما مقترنين ، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذُكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى : { قل من رب السموات السبع وربُ العرش العظيم } [ المؤمنون : 86 ] ، وقيل الكرسي غير العرش ، فقال ابن زيد هو دون العرش وروى في ذلك عن أبي ذَر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما الكرسيُ في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيَتْ بين ظهري فلاة من الأرض " وهو حديث لم يصح . وقال أبو موسى الأشعري والسُدى والضحاك : الكرسي موضع القدمين من العرش ، أي لأنّ الجالس على عرش يكون مرتفعاً عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربَّع ، وروي هذا عن ابن عباس . وقيل الكرسي مثلَ لعلم الله ، وروي عن ابن عباس لأنّ العالم يجلس على كرسي ليعلّم الناس . وقيل مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق ، قال البيضاوي : « ولعلّه الفلَك المسمّى عندهم بفَلك البروج » . قلت أثبت القرآن سبع سماوات ولم يبيّن مسمّاها في قوله ( سورة نوح ) : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } [ نوح : 15 ، 16 ] ، فيجوز أن تكون السموات طبقات من الأجواء مختلفة الخصائص متمايزة بما يملاّها من العناصر ، وهي مسبح الكواكب ، ولقد قال تعالى ( سورة الملك ) : { ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح }
[ الملك : 5 ] ، ويجوز أن تكون السماوات هي الكواكب العظيمة المرتبطة بالنظام الشمس وهي : فُلكان ، وعطارد ، والزهرة ، وهذه تحت الشمس إلى الأرض ، والمريخُ ، والمشتري ، وزحلُ ، وأورانوس ، ونبتون ، وهذه فوق الشمس على هذا الترتيب في البعد ، إلاّ أنّها في عظم الحجم يكون أعظمها المشتري ، ثم زحل ، ثم نبتون ، ثم أورانوس ، ثم المريخ ، فإذا كان العرش أكبرها فهو المشتري ، والكرسي دونه فهو زُحل ، والسبع الباقية هي المذكورة ، ويضم إليها القمر ، وإن كان الكرسي هو العرش فلا حاجة إلى عدّ القمر ، وهذا هو الظاهرُ ، والشمس من جملة الكواكب ، وقوله تعالى : { وجعل الشمس سراجاً } [ نوح : 16 ] تخصيص لها بالذكر للامتنان على الناس بأنّها نور للأرض ، إلاّ أنّ الشمس أكبر من جميعها على كل تقدير . وإذا كانت السماوات أفلاكاً سبعة لشموس غير هذه الشمس ولكل فَلك نظامه كما لهذه الشمس نظامها فذلك جائز وسبحان من لا تحيط بعظمةِ قدرتِه الأفهامُ فيكون المعنى على هذا أن الله تعالى نبهنا إلى عظيم قدرته وسعة ملكوته بما يدل على ذلك مع موافقته لما في نفس الأمر ، ولكنّه لم يفصّل لنا ذلك لأنّ تفصيله ليس من غرض لاستدلال على عظمته ، ولأن العقول لا تصل إلى فهمه لتوقفه على علوم واستكمالات فيها لم تتمّ إلى الآن ، ولتعلمُنّ نبأه بعد حين .
وجُملة { ولا يؤوده حفظهما } عطفت على جملة { وَسِع كرسيهُ } لأنّها من تكملتها وفيها ضمير معادُه في التي قبلها ، أي إنّ الذي أوجد هاته العوالمَ لا يعجز عن حفظها .
وآده جعله ذا أود . والأوَدُ بالتحريك العِوَج ، ومعنى آده أثقله لأن المثقَّل ينحني فيصير ذا أوَد .
وعطف عليه { وهو العلي العظيم } لأنّه من تمامه ، والعلو والعظمة مستعاران لشرف القدر وجلال القدرة .
ولهذه الآية فضل كبيرٌ لما اشتملت عليه من أصول معرفة صفات الله تعالى ، كما اشتملت سورة الإخلاص على ذلك وكما اشتملت كلمة الشهادة . في « الصحيحين » عن أبي هريرة " أنّ آتياً أتاه في الليل فأخذ من طعام زكاة الفطر فلما أمسكه قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " صدقك وذلك شيطان " وأخرج مسلم عن أبي ابن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم قلت اللَّهُ لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم ، فضرب في صدري وقال : واللَّهِ لِيَهْنِك العلمُ أبا المُنذر " . وروى النسائي : " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلاّ الموت " وفيها فضائل كثيرة مجرّبة للتأمين على النفس والبيت .