المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

30- ترك اليهود الوحدانية في عقيدتهم ، وقالوا : عزيز{[81]} ابن الله ، وترك النصارى الوحدانية كذلك ، فقالوا : المسيح ابن الله . وقولهم هذا مبتدع من عندهم ، يرددونه بأفواههم ولم يأتهم به كتاب ولا رسول ، وليس عليهم حُجة ولا برهان ، وهم في هذا القول يشابهون قول المشركين قبلهم ، لعن الله هؤلاء الكفار وأهلكهم . عجباً لهم كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ، ويعدلون إلى الباطل .


[81]:عزيز هو عزرا الكاهن من نسل هارون خرج من بابل مع رجوع اليهود الثاني بعد وفاة رسول الله موسى بنحو ألف عام، وكان عزرا يلقب بالكاتب لأنه كان يكتب في شريعة موسى. ملحوظة: خرج عزرا ومن معه من اليهود إلى أورشليم سنة 456 ق. م السنة السابقة من حكم أريخشسنا ملك فارس بعد خراب أورشليم وحرق بيت القدس ونهبه بزمن طويل.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

قوله تعالى : { قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } ، روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود : سلام بن مشكم ، والنعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل الله عز وجل : { وقالت اليهود عزير ابن الله } . قرأ عاصم والكسائي ويعقوب عزير بالتنوين والآخرون بغير تنوين ، لأنه اسم أعجمي ويشبه اسما مصغرا ، ومن نون قال : لأنه اسم خفيف ، فوجهه أن يصرف ، وإن كان أعجميا مثل نوح وهود ولوط . واختار أبو عبيدة التنوين وقال : لأن هذا ليس بمنسوب إلى أبيه ، إنما هو كقولك زيد ابن الأمير وزيد ابن أختنا ، فعزيز مبتدأ وما بعده خبر له . وقال عبيد بن عمير : إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء ، وهو الذي قال : { إن الله فقير ونحن أغنياء } [ آل عمران – 181 ] . وروى عطية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما قالت اليهود عزير ابن الله من أجل أن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم ، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم ، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذن في قومه ، وقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها إلي ! فعلق به الناس يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله تعالى ، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم ، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .

وقال الكلبي : أن يختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة ، وكان عزير إذ ذاك صغيرا ، فاستصغره فلم يقتله ، فلما رجع بنو إسرائيل إلى البيت المقدس وليس فيهم مائة سنة ، يقال : أتاه ملك بإناء فيه ماء ، فسقاه ، فمثلت التوراة في صدره ، فلما أتاهم قال : أنا عزير ، فكذبوه وقالوا : إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة ؟ فكتبها لهم ، ثم إن رجلا قال : إن أبي حدثني عن جدي ، أن التوراة جعلت في خابية ، ودفنت في كرم ، فانطلقوا معه حتى أخرجوها ، فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منها حرفا ، فقالوا : إن الله يقذف التوراة في قلب رجل إلا أنه ابنه ، فعند ذلك قالت اليهود : عزير ابن الله وأما النصارى فقالوا : المسيح ابن الله ، وكان السبب فيه أنهم كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى عليه السلام يصلون إلى القبلة ، ويصومون رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال به بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ، ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا به والنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة دخلنا النار ، فإني أحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار ، وكان له فرس يقال له العقاب يقاتل عليه فعرقب فرسه وأظهر الندامة ، ووضع على رأسه التراب ، فقال له النصارى : من أنت ؟ قال : بولص عدوكم ، فنوديت من السماء : ليست لك توبة إلا أن تتنصر ، وقد ثبت . فأدخلوه الكنيسة ، ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ، ثم خرج وقال : نوديت أن الله قبل توبتك ، فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستحلف عليهم نسطورا وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوات والناسوت ، وقال : لم يكن عيسى بإنس ولا بجسم ، ولكنه ابن الله ، وعلم ذلك رجلا يقال له يعقوب ثم دعا رجلا يقال له ملكان فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا ، وقال لكل واحد منهم : أنت خالصتي ، وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني . وقال لكل واحد منهم : إني غدا أذبح نفسي ، فادع الناس إلى نحلتك . ثم دخل المذبح فذبح نفسه وقال : إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى ، فلما كان يوم ثالثة دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته ، فتبع كل واحد طائفة من الناس ، فاختلفوا واقتتلوا فقال الله عز وجل : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } .

قوله تعالى : { ذلك قولهم بأفواههم } ، يقولون بألسنتهم من غير علم . قال أهل المعاني : لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورا .

قوله تعالى : { يضاهئون } ، قرأ عاصم بكسر الهاء مهموزا ، والآخرون بضم الهاء غير مهموز ، وهما لغتان يقال : ضاهيتة وضاهأته ، ومعناهما واحد . قال ابن عباس رضي الله عنه : يشابهون . والمضاهاة المشابهة . وقال مجاهد : يواطئون . وقال الحسن : يوافقون .

قوله تعالى : { قول الذين كفروا من قبل } ، قال قتادة والسدي : ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقالوا : المسيح ابن الله ، كما قالت اليهود عزير ابن الله ، وقال مجاهد : يضاهئون قول المشركين من قبل الذين كانوا يقولون اللات والعزى ومناة بنات الله . وقال الحسن : شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة كما قال في مشركي العرب : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ البقرة-188 ] . وقال القتيبي : يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولهم ، { قاتلهم الله } ، قال ابن عباس : لعنهم الله . وقال ابن جريح : أي : قتلهم الله . وقيل : ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب .

قوله تعالى : { أنى يؤفكون } ، أي : يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

وبعد أن بين - سبحانه - بعض رذائل أهل الكتاب على سبيل الإِجمال ، اتبع ذلك بتفصيل هذه الرذائل ، فحكى أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم الذميمة ، ونواياهم السئة فقال - تعالى - : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ . . . . وَلَوْ كَرِهَ المشركون } .

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى . وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك - يا محمد - وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله ، فأنزل الله في ذلك : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } الآية .

و " عزير " كاهن يهودى سكن بابل سنة 457 ق . م تقريباً ، ومن أعامله أنه جمع أسفار التوراة ؛ وأدخل الأحرف الكلدانية عوضاً عن العبرانية القديمة ، وألف أسفار : الأيام ، وعزرا ، ونحميا .

وقد قدسه اليهود من أجل نشره لكثير من علوم الشريعة ، وأطلقوا عليه لقب " ابن الله " .

قال البيضاوى : وإنما قالوا ذلك - أى : عزير ابن الله - لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة " بختصر " - سنة 586 ق . م . ه من يحفظ التوارة . وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوارة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا : ما هذا إلا لأنه ابن الله .

وقال صاحب المنار ما ملخصه : جاء في دائرة المعارف اليهودية الانكليزية - طبعة 1903 - أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملى لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره ، وعبق شذا ورده . وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة . .

وقد ذكر المفسرون هنا أقوالاً متعددة في الأسباب التي حملت اليهود على أن يقولوا " عزير ابن الله " وأغلب هذه الأقوال لا يؤيدها عقل أو نقل ، ولذا فقد ضربنا عنها صفحا .

وقد نسب - سبحانه - القول إلى جميع اليهود مع أن القائل بعضهم ، لأن الذين لم يقولوا ذلك لم ينكروا على غيرهم قولهم ، فكانوا مشاركين لهم في الإِثم والضلال ، وفيما يترتب على ذلك من عقاب .

وأما قول النصارى " المسيح ابن الله " فهو شائع مشهور ، ومن أسبابه أن الله - تعالى - قد خلق عيسى بدون أب على خلاف ما جرت به سنته في التوالد والتناسل ، فقالوا عنه " ابن الله " .

وقد حاجهم - سبحانه - في سورة آل عمران بأن آدم قد خلقه الله من غير أب أو أم ، فكان أولى بنسبة البنوة إليه ، لكنهم لم ينسبوا إليه ذلك ، فينبغى أن يكون عيسى كآدم .

قال - تعالى - { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين } وقوله : { ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } ذم لهم على ما نطقوا به يمجه العقل السليم ، والفكر القويم .

أى : ذلك الذي قالوه في شأن " عزير والمسيح " قول تلوكه ألسنتهم في أفواههم بدون تعقل ، ولا مستند لهم فيما زعموه سوى افترائهم واختلاقهم ، فهو من الألفاظ الساقطة التي لا وزن لها ولا قيمة ، فقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على استحالة أن يكون لله ولد أو والد أو صاحبة أو شريك .

قال - تعالى - { وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } ولقد أنذر ، سبحانه ، الذين نسبوا إليه الولد بالعقاب الشديد فقال : { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } وأسند ، سبحانه ، القول إلى الأفواه مع أنه لا يكون إلا بها ، لاستحضار الصورة الحسية الواقعية ، حتى لكأنها مسموعة مرئية ولبيان أن هذا القول لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع ، وإنما هو لغو ساقط وليد الخيالات والأوهام ، ولزيادة التأكيد في نسبة هذا القول إليهم ، أى : أنه قول صادر منهم وليس محكيا عنهم .

قال صاحب الكشاف ، فإن قلت : كل القول يقال بالفم فما معنى قوله { ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } ؟ .

قلت : فيه وجهان : أحدهما - أن يراد أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به ، فارغ من أى معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدل على معان . وذلك أن القول الدال على معنى ، لفظه مقول بالفم ، ومعناه مؤثر في القلبن وما لا معنى له مقول بالفم لا غير .

والثانى - أن يراد بالقول : المذاهب ، كقولهم " قول أبى حنيفة " يريدون مذهبه ما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة ، حتى يؤثر في القلوب ، وذلك أنهم اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد .

وقوله : { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } ذم آخر لهم على تقليدهم لمن سبقوهم بدون تعقل أو تدبر .

قال الجمل ما ملخصه : قرأ العامة { يضاهون } بضم الهاء بعدها واو - وقرأ عاصم " يضاهئون " بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة - فقيل هما بمعنى واحد وهو المشابهة ، وفيه لغتان : ضاهات وضاهيت . . .

والمراد بالذين كفروا من قبل : قيل ، أهل مكة وأمثالهم من المشركين السابقين الذين قالوا ، الملائكة بنات الله وقيل ، المراد بهم قدماء أهل الكتاب ، أى ، أن اليهود والنصارى المعاصرين للنبى - صلى الله عليه وسلم - يشابه قولهم في الغرير وعيسى قول آبائهم الأقدمين ، - أى المعاصرين للعهد النبوى - قد ورثوا الكفر كابرا عن كابر .

والأولى من هذين الوجهين أن يكون المراد بالذين كفروا من قبل . جميع الأمم التي ضلت وانحرفت عن الحق ، وأشركت مع الله في العبادة آلهة أخرى .

قال صاحب المنار ، وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث ، كانت معروفة عند البراهمة في الهند وفى الصين واليابان وقدماء المصرين وقدماء الفرس .

وهذه الحقيقة التاريخية - والتى بينها القرآن في هذه الآية - من معجزاته لأنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم ، بل لم تظهر إلا في هذا الزمان .

والمعنى . أن هؤلاء الضالين الذين قال بعضهم { عُزَيْرٌ ابن الله } وقال البعض الآخر { المسيح ابن الله } ليس لهم على قولهم الباطل هذا دليل ولا برهان ، ولكنهم يشابهون ويتابعون فيه قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم { فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } وقوله : { قَاتَلَهُمُ الله } تعجيب من شناعة قولهم ، ودعاء عليهم بالهلاك فإن من قاتله الله لا بد أن يقتل ، ومن غالبه لا بد أن يغلب .

وعن ابن عباس ، أن معنى { قَاتَلَهُمُ الله } لعنهم الله وكل شئ في القرآن قتل فهو لعن .

وقوله : { أنى يُؤْفَكُونَ } تعجيب آخر من انصرافهم الشديد عن الحق الواضح إلى الباطل المظلم المعقد .

و { أنى } بمعنى كيف . و { يُؤْفَكُونَ } من الإِفك بمعنى الانصراف عن الشئ والابتعاد عنه ، يقال ، أفكه عن الشئ يأفكه أفكا ، أى ، صرفه عنه وقلبه . ويقال ، أفكت الأرض أفكا ، أى : صرف ، عنها المطر .

والمعنى : قاتل الله هؤلاء الذين قالوا { عُزَيْرٌ ابن الله } والذين قالوا { المسيح ابن الله } لأنهم بقوله هذا محل مقت العقلاء وعجبهم ، إذ كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل ، بعد وضوح الدليل على استحالة أن يكون له - تعالى - ولد أو والد أو صاحبة أو شريك . . ؟ !

إن ما قالوه ظاهر البطلان وهو محل عجب العقلاء واستنكارهم وغضبهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

عطف على جملة { ولا يدينون دين الحق } [ التوبة : 29 ] والتقدير : ويقول اليهود منهم عزيز ابن الله ، ويقول النصارى منهم : المسيح ابن الله ، تشنيعاً على قائِليهما من أهل الكتاب بأنّهم بلغوا في الكفر غايته حتّى ساووا المشركين .

وعزيز : اسم حَبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي ، واسمه في العبرانية ( عِزْرا ) بكسر العين المهملة بن ( سرايا ) من سبط اللاويين ، كان حافظاً للتوراة . وقد تفضّل عليه ( كورش ) ملك فارس فأطلقه من الأسر ، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل ، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه ، وذلك في سنة 451 قبل المسيح ، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجدّدوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حِفْظه ، فكان اليهود يعظّمون عِزرا إلى حدّ أن ادّعى عامّتهم أنّ عزرا ابن الله ، غُلوا منهم في تقديسه ، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة ، وتبعهم كثير من عامّتهم . l وأحسب أنّ الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] .

قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعاً لأنّ سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به ، وقد ذكر اسم عِزرا في الآية بصيغة التصغير ، فيحتمل أنّه لمّا عرّب عُرب بصيغة تشبه صيغة التصغير ، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أنّ تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيباً فيه .

قرأ الجمهور { عزيرُ } ممنوعاً من التنوين للعجمة وهو ما جزم به الزمخشري وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب : بالتنوين على اعتباره عربياً بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأنّ التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية ، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من « دلائل الإعجاز » ، وتأوّل قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما الزمخشري .

وأمّا قول النصارى ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور . وقد مضى الكلام على المسيح عند قوله تعالى : { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } في سورة البقرة ( 87 ) . وعند قوله تعالى : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } في سورة آل عمران ( 45 ) .

والإشارة { بذلك } إلى القول المستفاد من { قالت اليهود وقالت النصارى } . والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه ، زيادة في تشنيعه عند المسلمين .

و { بأفواههم } حال من القول ، والمراد أنّه قول لا يعدو الوجودَ في اللسان وليس له ما يحقّقه في الواقع ، وهذا كناية عن كونه كاذباً كقوله تعالى : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً } [ الكهف : 5 ] . وفي هذا أيضاً إلزام لهم بهذا القول ، وسدّ باب تنصّلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم .

والمضاهاة : المشابهة ، وإسنادها إلى القائلين : على تقدير مضاف ظاهرٍ من الكلام ، أي يضاهي قولُهم .

و { الذين كفروا من قبل } هم المشركون : من العرب ، ومن اليونان ، وغيرهم ، وكونُهم من قَبل النصارى ظاهر ، وأمّا كونهم من قبلِ اليهود : فلأنّ اعتقاد بنوة عُزير طارىء في اليهود وليس من عقيدة قُدمائهم .

وجملة { قاتلهم الله } دعاء مستعمل في التعجيب ، وهو مركّب يستعمل في التعجّب من عمل شنيع ، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء : أي قتلهم الله قتلاً شديداً . وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب .

وجملة { أنى يؤفكون } مستأنفة . والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتّباع الباطل ، حتّى شبه المكان الذي يُصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يُسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان ، ومعنى { يؤفكون } يُصرفون . يقال : أفَكَه يأفِكه إذا صرفه ، قال تعالى : { يؤفك عنه من أفك } [ الذاريات : 9 ] والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادّة لأنّ الكاذب يصرف السامع عن الصدق ، وقد تقدّم ذلك غير مرة .