قوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك } بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً ولا يفروا ، { تحت الشجرة } وكانت سمرة ، قال سعيد بن المسيب : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة ، فقال : أين كانت ؟ فجعل بعضهم يقول : هنا وبعضهم يقول : ها هنا ، فلما كثر اختلافهم قال : سيروا ، قد ذهبت الشجرة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله قال : " قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية : أنتم خير أهل الأرض ، وكنا ألفاً وأربع مائة ، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يسأل : كم كانوا يوم الحديبية ؟ قال : كنا أربع عشرة مائة فبايعناه ، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة ، وهي سمرة ، فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره .
وروى سالم عن جابر قال : كنا خمس عشرة مائة . وقال عبد الله بن أبي أوفى : كان أصحاب الشجرة ألفاً وثلاثمائة ، وكانت أسلم ثمن المهاجرين . وكان سبب هذه البيعة -على ما ذكره محمد بن إسحاق عن أهل العلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أبي أمية الخزاعي حين نزل الحديبية ، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني : عثمان بن عفان ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت بحرب ، وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته ، فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فنزل عن دابته وحمله بين يديه ، ثم أردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو سفيان وعظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة . وكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت " ، قال بكير بن الأشج : بايعوه على الموت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل على ما استطعتم . وقال جابر بن عبد الله ومعقل بن يسار : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر ، فكان أول من بايع بيعة الرضوان رجلا من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا جد ابن قيس أخو بني سلمة ، قال جابر : لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته مستتراً بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد ابن فنجويه ، حدثنا علي بن أحمد بن نضرويه ، حدثنا أبو عمران وموسى بن سهل بن عبد الحميد الجوفي ، حدثنا محمد بن رمح ، حدثنا الليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " . قوله عز وجل : { فعلم ما في قلوبهم } من الصدق والوفاء ، { فأنزل السكينة } الطمأنينة والرضا ، { عليهم وأثابهم فتحاً قريباً } يعني فتح خيبر .
ثم بشر الله - تعالى - المؤمنين الصادقين ببشارات متنوعة ، ومدحهم مدحا عظيما ، وبين - سبحانه - أن سنته فى خلقه لن تتخلف ، فقال - تعالى - : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين . . . بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .
واللام فى قوله - تعالى - : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة . . . } هى الموطئة للقسم ، وتسمى هذه البيعة الرضوان .
والشجرة : كانت بالحديبية ، وقد جلس - صلى الله عليه وسلم - تحتها ليبايع أصحابه على الموت أو على عدم الفرار ، فبايعوه على ذلك - ما عدا بعض المنافقين - ، وقد كان الناس بعد ذلك يترددون على تلك الشجرة ويصلون تحتها ، ويدعون الله - تعالى - فأمر عمر - رضى الله عنه - قطعها خشية الافتتان بها . أى : والله لقد رضى الله - تعالى - عن المؤمنين الذين بايعوك - أيها الرسول الكريم - تحت الشجرة ، على الموت من أجل إعلاء كلمة ربهم .
وفى هذه الجملة أسمى وأعلى ما يتمناه إنسان ، وهو رضا الله - تعالى - عنه ودخوله فى زمرة العباد الذين ظفروا بمغفرته - سبحانه - ورحمته .
قال الآلوسى - رحمه الله - : والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة هذه المبايغة . وقوله - سبحانه - : { تَحْتَ الشجرة } متعلق بيبايعونك . . وفى التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة فى النفوس . ولذا استوجبت رضا الله - تعالى - الذى لا يعادله شئ ، ويستتبع مالا يكاد يخطر على البال .
ويكفى فيما ترتب على ذلك ما أخرجه أحمد عن جابر ، ومسلم عن أم بشر ، عنه ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " .
وصح برواية الشيخين وغيرهما فى أولئك المؤمنين من حديث جابر ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم " أنتم خير أهل الأرض . . " .
وقوله - تعالى - : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } بشارة أخرى لهؤلاء المؤمنين الصادقين .
أى : لقد رضى - سبحانه - عن الذين بايعوك تحت الشجرة - أيها الرسول الكريم - حيث علم ما فى قلوبهم من الصدق والإِخلاص وإيثار الآخرة على الأولى ، فأنزل السكينة والطمأنينة والأمان عليهم ، { وَأَثَابَهُمْ } أى : وأعطاهم منحهم فتحا قريبا ، وهو فتح خيبر ، الذى كان بعد صلح الحديبية بأقل من شهرين .
وقيل المراد به : فتح مكة ، والأول أرجح ، لأن فتح خيبر لم يكن فتح أقرب منه ، ولأن المسلمين قد أصابوا من فتح خيبر غنائم كثيرة .
وقد أشار - سبحانه - بعد ذلك إلى تلك الغنائم فقال : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا . . . } .
{ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } روي : أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة ، فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع ، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه فحبسوه فأرجف بقتله ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وكانوا ألفا وثلثمائة أو وأربعمائة أو وخمسمائة ، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا عنهم وكان جالسا تحت سمرة أو سدرة . { فعلم ما في قلوبهم } من الإخلاص . { فأنزل السكينة عليهم } الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح . { وأثابهم فتحا قريبا } فتح خيبر غب انصرافهم ، وقيل مكة أو هجر .
عود إلى تفصيل ما جازى الله به أصحاب بيعة الرضوان المتقدم إجماله في قوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] ، فإن كون بيعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر بيعة لله تعالى أوْمأ إلى أن لهم بتلك المبايعة مكانة رفيعة من خير الدنيا والآخرة ، فلما قطع الاسترسال في ذلك بما كان تحذيراً من النكث وترغيباً في الوفاء ، بمناسبة التضاد وذكر ما هو وسط بين الحالين وهو حال المخلَّفين ، وإبطال اعتذارهم وكشف طويتهم ، وإقصائهم عن الخير الذي أعده الله للمبايعين وأرجائهم إلى خير يسنح من بعدُ إن هم صدقوا التوبة وأخلصوا النية .
فقد أنال الله المبايعين رضوانَه وهو أعظم خير في الدنيا والآخرة قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] والشهادة لهم بإخلاص النية ، وإنزاله السكينة قلوبهم ووعدهم بثواب فتح قريب ومغانم كثيرة .
وفي قوله : { عن المؤمنين إذ يبايعونك } إيذان بأن من لم يبايع ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس حينئذٍ بمؤمن وهو تعريض بالجدّ بن قيس إذ كان يومئذٍ منافقاً ثم حَسن إسلامه .
وقد دعيت هذه البيعة بيعةَ الرضوان من قوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } . و { إذ يبايعونك } ظرف متعلّق ب { رضي } ، وفي تعليق هذا الظرف بفعل الرضى ما يفهم أن الرضى مسبب عن مفاد ذلك الظرف الخاص بما أضيف هو إليه ، مع ما يعطيه توقيت الرضى بالظرف المذكور من تعجيل حصول الرضى بحدثان ذلك الوقت ، ومع ما في جعل الجملة المضاف إليها الظرفُ فِعليةً مضارعيّةً من حصول الرضى قبل انقضاء الفعل بل في حال تجدده . فالمضارع في قوله { يبايعونك } مستعمل في الزمان الماضي لاستحضار حالة المبايعة الجليلة ، وكون الرضى حصل عند تجديد المبايعة ولم ينتظر به تمامها ، فقد علمت أن السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية .
والتعريف في { الشجرة } تعريف العهد وهي : الشجرة التي عهدها أهل البيعة حين كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلها ، وهي شجرة من شجر السَّمُر بفتح السين المهملة وضم الميم وهو شجر الطلح . وقد تقدم أن البيعة كانت لما أُرجف بقتل عثمان بن عفان بمكة فعن سلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمر ، يزيدُ أحدهما على الآخر « بينما نحن قائلون يوم الحديبية وقد تفرق الناس في ظلال الشجر إذ نادى عمر بن الخطاب : أيّها الناس البيعةَ البيعةَ ، نَزَل روحُ القدُس فاخرُجوا على اسم الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي دعا الناس إلى البيعة فثار الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه كلهم إلا الجدَّ بن قيس » .
وعن جابر بن عبد الله بعدَ أن عمي لو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة .
وتواتر بين المسلمين علم مكان الشجرة بصلاة الناس عند مكانها . وعن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال : فلما خرجنا من العام المقبل أي في عمرة القضية نسيناها فلم نقدر عليها وعن طارق بن عبد الرحمان قال : انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسولُ الله بيعة الرضوان . فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم أفأنتم أعلم » .
والمراد بقول طارق : ما هذا المسجد : مكانُ السجود ، أي الصلاة ، وليس المراد البيت الذي يبني للصلاة لأن البناء على موضع الشجرة وقع بعد ذلك الزمن فهذه الشجرة كانت معروفة للمسلمين وكانوا إذا مروا بها يصلون عندها تيمنا بها إلى أن كانت خلافة عمر فأمر بقطعها خشية أن تكون كذاتتِ أنواط التي كانت في الجاهلية ، ولا معارضة بين ما فعله المسلمون وبين ما رواه سعيد بن المسيب عن أبيه أنه وبعض أصحابه نسوا مكانها لأن الناس متفاوتون في توسُّم الأمكنة واقتفاء الآثار .
والمروي أن الذي بنى مسجداً على مكان الشجرة أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي ولكن في المسجد المذكور حجر مكتوب فيه « أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله ببناء هذا المسجد مسجد البيعة وأنه بني سنة أربع وأربعين ومائتين ، وهي توافق مدة المتوكّل جعفر بن المعتصم وقد تخرب فجدده المستنصر العباسي سنة 629 ثم جدده السلطان محمود خان العثماني سنة 1254 وهو قائم إلى اليوم .
وذكر { تحت الشجرة } لاستحضار تلك الصورة تنويهاً بالمكان فإن لذكر مواضع الحوادث وأزمانها معاني تزيد السامع تصوراً ولما في تلك الحوادث من ذكرى مثل مواقع الحروب والحوادث كقول عبد الله بن عباس « ويوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه » الحديث . ومواقع المصائب وأيامها .
و { إذ } ظرف يتعلق بفعل { رضي } ، أي رضي الله عنهم في ذلك الحين . وهذا رضى خاص ، أي تعلّق رضى الله تعالى عنهم بتلك الحالة .
والفاء في قوله : { فعلم ما في قلوبهم } ليست للتعقيب لأن علم الله بما في قلوبهم ليس عقب رضاه عنهم ولا عقب وقوع بيعتهم فتعين أن تكون فاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر بعدها . والتقدير : فلما بايعوك علم ما في قلوبهم من الكآبة ، ويجوز أن تكون الفاء لتفريع الأخبار بأن الله علم ما في قلوبهم بعد الإخبار برضى الله عنهم لما في الإخبار بعلمه ما في قلوبهم من إظهار عنايته بهم . ويجوز أن يكون المقصود من التفريع قوله : { فأنزل السكينة عليهم } ويكون قوله : { فعلم ما في قلوبهم } توطئة له على وجه الاعتراض .
والمعنى : لقد رضي الله عن المؤمنين من أجل مبايعتهم على نصرك فلما بايعوا وتحفزوا لقتال المشركين ووقع الصلح حصلت لهم كآبة في نفوسهم فأعلمهم الله أنه اطلع على ما في قلوبهم من تلك الكآبة ، وهذا من علمه الأشياء بعد وقوعها وهو من تعلق علم الله بالحوادث بعد حدوثها ، أي علمه بأنها وقعت وهو تعلق حادث مثل التعلقات التنجيزية . والمقصود بإخبارهم بأن الله علم ما حصل في قلوبهم الكآبة عن أنه قَدَر ذلك لهم وشكرهم على حبهم نصر النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل ولذلك رتب عليه قوله : { فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً } .
والسكينة هنا هي : الطمأنينة والثقة بتحقيق ما وعدهم الله من الفتح والارتياض على ترقبه دون حسرة فترتب على علمه ما في قلوبهم إنزاله السكينة عليهم ، أي على قلوبهم فعبر بضميرهم عوضاً عن ضمير { قلوبهم } لأن قلوبهم هي نفوسهم .
وعطف { أثابهم } على فعل { رضي اللَّه } . ومعنى أثابهم : أعطاهم ثواباً ، أي عوضاً ، كما يقال في هبة الثواب ، أي عوضهم عن المبايعة بفتح قريب . والمراد : أنه وعدهم بثواب هو فتح قريب ومغانم كثيرة ، ففعل { أثابهم } مستعمل في المستقبل . وهذا الفتح هو فتح خيبر فإنه كان خاصاً بأهل الحديبية وكان قريباً من يوم البيعة بنحو شهر ونصف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين" إذْ يُبايِعُونَكَ تحْتَ الشّجَرَةِ "يعني بيعة أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رسولَ الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفرّوا، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة. وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش، فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء، فظنّ أنه قد قتل، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت، فبايعوه على ذلك، وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان، وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم: ألفا وأربع مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وخمس مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وثلاث مئة... وقوله: "فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم" يقول تعالى ذكره: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة، من صدق النية، والوفاء بما يبايعونك عليه، والصبر معك.
"فأَنْزَل السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ" يقول: فأنزل الطمأنينة، والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له...
وقوله: "وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا" يقول: وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا، وذلك فيما قيل فتح خيبر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لقد رضي الله عن المؤمنين} لما عزموا من الوفاء على ما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق لذلك والتحقيق لما عاهدوا من الوفاء. لذلك أخبر الله أن قد رضي الله عنهم لذلك. فنحن نستدل به على تصديق ذلك وتحقيقه...
{فعلم ما في قلوبهم} هذا يحتمل وجوها:
أحدها: ما ذكرنا: علم ما في قلوبهم من العزم على الوفاء والتصديق لما أعطوا بأيديهم من أنفسهم.
والثالث: علم ما في قلوبهم من الكراهة التي يذكرها أهل التأويل. لكن تلك الكراهة كراهة الطبع لا كراهة الاختيار لأنهم طمِعوا الوصول إلى البيت، ورَجَوا دخوله. فلما جرى الصلح بينهم على ألاّ يدخلوا عامهم ذلك، فانصرفوا، فاشتدّ ذلك عليهم، فكرِهوا ذلك كراهة الطبع لا كراهة الاختيار، وقد يكره طبع الإنسان شيئا، والخيار غيره كقوله عز وجل: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء: 19] وكقول يوسف: {رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} [الآية: 33] محبة الاختيار لا محبّة الطبع إلى ما يدعونه...
أي أنزل عليهم ما يسكُن به قلوبهم لما علم تحقيق الوفاء لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق ما أعطوا من أنفسهم {وأثابهم} فكان ما كانوا يرجون، ويطمعون، من دخول مكة وما كرهت أنفسهم من الرجوع {فتحا قريبا} وهو فتح مكة، أو فتح خبير، والله أعلم...
فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصِدْقِ بصائرهم... فدلّ على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء لله، إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان. وقد أكّد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أخبر أنه علم من قلوبهم صحة البصيرة وصدق النية وأن ما أبطنوه مثل ما أظهروه...
وقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني الصبر بصدق نياتهم؛ وهذا يدلّ على أن التوفيق يصحب صدق النية...
{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم} من الصدق كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض {فأنزل السكينة عليهم} حتى بايعوا على الموت، وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآية {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات} فجعل طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله الجنة في تلك الآية، وفي هذه الآية بين أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان، أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله {لقد رضي الله عن المؤمنين} وأما طاعة الرسول فبقوله {إذ يبايعونك تحت الشجرة} بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة كما قال تعالى: {ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لقد رضي الله} أي الذي له الجلال والجمال {عن المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان...
{إذ} أي حين، وصور حالهم إعلاماً بأنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال: {يبايعونك} في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت... {تحت الشجرة} واللام للعهد الذهني، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان...
{فعلم} أي لما له من الإحاطة {ما في قلوبهم} أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين... {فأنزل السكينة} أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله...
. {وأثابهم} أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء... {قريباً} بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه، فسيكون الفتح الأعظم فتح لمكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الدرس كله حديث عن المؤمنين، وحديث مع المؤمنين. مع تلك المجموعة الفريدة السعيدة التي بايعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تحت الشجرة. والله حاضر البيعة وشاهدها وموثقها، ويده فوق أيديهم فيها. تلك المجموعة التي سمعت الله تعالى يقول عنها لرسوله [صلى الله عليه وسلم]: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).. وسمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول لها: "أنتم اليوم خير أهل الأرض"..
حديث عنها من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله [صلى الله عليه وسلم] وحديث معها من الله سبحانه وتعالى:يبشرها بما أعد لها من مغانم كثيرة وفتوح؛ وما أحاطها به من رعاية وحماية في هذه الرحلة، وفيما سيتلوها؛ وفيما قدر لها من نصر موصول بسنته التي لا ينالها التبديل أبدا. ويندد بأعدائها الذين كفروا تنديدا شديدا. ويكشف لها عن حكمته في اختيار الصلح والمهادنة في هذا العام. ويؤكد لها صدق الرؤيا التي رآها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن دخول المسجد الحرام. وأن المسلمين سيدخلونه آمنين لا يخافون. وأن دينه سيظهر على الدين كله في الأرض جميعا.
ويختم الدرس والسورة بتلك الصورة الكريمة الوضيئة لهذه الجماعة الفريدة السعيدة من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وصفتها في التوراة وصفتها في الإنجيل، ووعد الله لها بالمغفرة والأجر العظيم..
(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان الله عزيزا حكيما)..
وإنني لأحاول اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن أستشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كله ذلك التبليغ العلوي الكريم من الله العلي العظيم إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين. أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون؛ وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم، عن أولئك الرجال القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود.. وأحاول أن أستشعر بالذات شيئا من حال أولئك السعداء الذين يسمعون بآذانهم، أنهم هم، بأشخاصهم وأعيانهم، يقول الله عنهم: لقد رضي عنهم. ويحدد المكان الذي كانوا فيه، والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضى: (إذ يبايعونك تحت الشجرة).. يسمعون هذا من نبيهم الصادق المصدوق، على لسان ربه العظيم الجليل..
يالله! كيف تلقوا -أولئك السعداء- تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي؟ التبليغ الذي يشير إلى كل أحد، في ذات نفسه، ويقول له: أنت. أنت بذاتك. يبلغك الله. لقد رضي عنك. وأنت تبايع. تحت الشجرة! وعلم ما في نفسك. فأنزل السكينة عليك!
إن الواحد منا ليقرأ أو يسمع: (الله ولي الذين آمنوا).. فيسعد. يقول في نفسه: ألست أطمع أن أكون داخلا في هذا العموم؟ ويقرأ أو يسمع: (إن الله مع الصابرين).. فيطمئن. يقول في نفسه: ألست ارجو أن أكون من هؤلاء الصابرين؟ وأولئك الرجال يسمعون ويبلغون. واحدا واحدا. أن الله يقصده بعينه وبذاته. ويبلغه: لقد رضي عنه! وعلم ما في نفسه. ورضي عما في نفسه!
(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة).. (فعلم ما في قلوبهم. فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا)..
علم ما في قلوبهم من حمية لدينهم لا لأنفسهم. وعلم ما في قلوبهم من الصدق في بيعتهم. وعلم ما في قلوبهم من كظم لانفعالاتهم تجاه الاستفزاز، وضبط لمشاعرهم ليقفوا خلف كلمة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] طائعين مسلمين صابرين.
فانزل السكينة عليهم.. بهذا التعبير الذي يرسم السكينة نازلة في هينة وهدوء ووقار، تضفي على تلك القلوب الحارة المتحمسة المتأهبة المنفعلة، بردا وسلاما وطمأنينة وارتياحا.
(وأثابهم فتحا قريبا).. هو هذا الصلح بظروفه التي جعلت منه فتحا، وجعلته بدء فتوح كثيرة. قد يكون فتح خيبر واحدا منها. وهو الفتح الذي يذكره أغلب المفسرين على أنه هو هذا الفتح القريب الذي جعله الله للمسلمين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم). سكينة واطمئناناً لا حدّ لهما، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح، في حين أن المسلمين عُزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة» فوقفوا كالجبل الأشم لم يجد الخوف طريقاً إلى قلوبهم...