البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه .

والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم ، ولذا سميت : بيعة الرضوان ؛ وكانوا فيما روي ألفاً وخمسمائة وعشرين .

وقال ابن أبي أوفى : وثلاثمائة .

وأصل هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية ، بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة ، وحمله على جمل له يقال له : الثعلب ، يعلمهم أنه جاء معتمراً ، لا يريد قتالاً .

فلما أتاهم وكلمهم ، عقروا جمله وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد بعث عمر .

فقال : قد علمت فظاظتي ، وهم يبغضوني ، وليس هناك من بني عدي من يحميني ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني وأحب إليهم ، عثمان بن عفان .

فبعثه ، فأخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائراً لهذا البيت ، معظماً لحرمته .

وكان أبان بن سعيد بن العاصي حين لقيه ، نزل عن دابته وحمله عليها وأجاره ، فقالت له قريش : إن شئت فطف بالبيت ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه .

فقال : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من العسكر : قتل عثمان ، فحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقالو : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم .

فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : البيعة البيعة ، فنزل روح القدس ، فبايعوا كلهم إلا الجد بن قيس المنافق .

وقال الشعبي : أول من بايع أبو سنان بن وهب الأسدي ، والعامل في إذ رضي .

والرضا على هذا بمعنى إظهار النعم عليهم ، فهو صفة فعل ، لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت ، يحتمل أن يكون معمولاً ليبايعونك ، أو حالاً من المفعول ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان تحتها جالساً في أصلها .

قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائماً على رأسه ، وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه ، فرفعت الغصن عن ظهره .

بايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم : « أنتم اليوم خير أهل الأرض » وكانت الشجرة سمرة .

قال بكير بن الأشجع : يوم فتح مكة .

قال نافع : كان الناس يأتون تلك الشجرة يصلون عندها ، فبلغ عمر ، فأمر بقطعها .

وكانت هذه البيعة سنة ست من الهجرة .

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل النار من شهد بيعة الرضوان »

{ فعلم ما في قلوبهم } ، قال قتادة ، وابن جريج : من الرضا بالبيعة أن لا يفروا .

وقال الفراء : من الصدق والوفاء .

وقال الطبري ، ومنذر بن سعيد : من الإيمان وصحته ، والحب في الدين والحرص عليه .

وقيل : من الهم والانصراف عن المشركين ، والأنفة من ذلك ، على نحو ما خاطب به عمر وغيره ؛ وهذا قول حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض بالفتح القريب .

والسكينة تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى ، وعلى الأقوال السابقة قيل هذا القول ، لا يظهر احتياج إلى إنزال السكينة إلا أن يجازي بالسكينة والفتح القريب والمغانم .

وقال مقاتل : فعلم ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت ، { فأنزل السكينة عليهم } حتى بايعوا .

قال ابن عطية : وهذا فيه مذمة للصحابة ، رضي الله تعالى عنهم . انتهى .

{ وأثابهم فتحاً قريباً } قال قتادة ، وابن أبي ليلى : فتح خيبر ، وكان عقب انصرافهم من مكة .

وقال الحسن : فتح هجر ، وهو أجل فتح اتسعوا بثمرها زمناً طويلاً .

وقيل : فتح مكة والقرب أمر نسبي ، لكن فتح خيبر كان أقرب .

وقرأ الحسن ، ونوح القارىء : وآتاهم ، أي أعطاهم ؛ والجمهور : وأثابهم من الثواب .