8- الذي أعطى الرسول تلك المعجزة الكبرى هو الذي يعلم كل شيء ، ويعلم النفوس الإنسانية من وجودها نطفة في الرحم إلي موتها ، فيعلم ما تحمل كل أنثى من أجنة ليس فقط من ذكورة أو من أنوثة ، وإنما يعلم حال الجنين ومستقبله في حياته الدنيا شقي أم سعيد ، مؤمن أم كافر ، غنى أم فقير ، ومقدار أجله في الدنيا وكل ما يتصل بشئونه في الحياة .
قوله تعالى : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } ، من ذكر أو أنثى ، سوي الخلق أو ناقص الخلق ، واحدا أو اثنين أو أكثر { وما تغيض الأرحام } ، أي ما تنقص { وما تزداد } . قال أهل التفسير : غيض الأرحام : الحيض على الحمل ، فإذا خاضت الحامل كان نقصانا في الولد ، لأن دم الحيض غذاء الولد في الرحم ، فإذا أهرقت الدم ينقص الغذاء فينتقص الولد ، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتم ، فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم ، والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم . وقيل : إذا حاضت ينتقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر ظاهرا ، فإن رأت خمسة أيام دما وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام ، فالنقصان في الغذاء ، والزيادة في المدة . وقال الحسن : غيضها : نقصانها من تسعة أشهر ، والزيادة : زيادتها على تسعة أشهر . وقيل النقصان : السقط ، والزيادة : تمام الخلق . وأقل مدة الحمل : ستة أشهر ، فقد يولد المولود لهذه المدة ويعيش . واختلفوا في أكثرها : فقال قوم : أكثرها سنتان ، وهو قول عائشة رضي الله عنها ، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله . وذهب جماعة إلى أن أكثرها أربع سنين ، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله ، قال حماد بن سلمة . إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين . { وكل شيء عنده بمقدار } ، أي : بتقدير وحد لا يجاوزه ولا يقصر عنه .
ثم صور - سبحانه - سعة علمه تصويراً عميقاً ، تقشعر منه الجلود ، وترتجف له المشاعر ، وساق سنة من سننه التي لا تتغير ولا تتبدل ، فقال - تعالى - :
{ لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ . . . } .
قوله - سبحانه - { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } كلام مستأنف مسوق لبيان كمال علمه وقدرته - سبحانه - .
{ وتغيض } من الغيض النقص . يقال : غاض الماء إذا نقص .
و { ما } موصولة والعائد محذوف . أى : الله وحده هو الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها من علقة أو مضغة ومن ذكر أو أنثى . . . وهو وحده - سبحانه - الذي يعلم ما يكون في داخل الأرحام من نقص في الخلقة أو زيادة فيها ، ومن نقص في مدة الحمل أو زيادة فيها ، ومن نقص في العدد أو زيادة فيه . . .
قال ابن كثير : " قوله { وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } قال البخاري : حدثنا إبراهيم بن المنذر . حدثنا معن ، حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعملها إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتى المطر إلا الله ، ولا تدري نفس بأى أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله " .
وقال العوفى عن ابن عباس { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } يعنى السقط { وَمَا تَزْدَادُ } .
يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما . وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ، ومنهم من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص . فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله - تعالى - وكل ذلك بعلمه - سبحانه- .
وقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } أى : وكل شئ عنده - سبحانه - بقدر وحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كما قال - تعالى - { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وكما قال - تعالى - { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } فهو - سبحانه - يعلم كمية كل شئ وكيفيته وزمانه ومكانه وسائر أحواله .
ثم أردف ذلك بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره ، تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه وإنما لم ينزل لعلمه بأن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد ، وأنه قادر على هدايتهم وإنما لم يهدهم لسبق قضائه بالكفر فقال : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } أي حملها أو ما تحمله على أي حال هو من الأحوال الحاضرة والمترقبة . { وما تغيض الأرحام وما تزداد } وما تنقصه وما تزداده في الجنة والمدة والعدد ، وأقصى مدة الحمل أربع سنين عندنا وخمس عند مالك وسنتان عند أبي حنيفة . روي أن الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان لأربع سنين وأعلى عدده لا حد له . وقيل نهاية ما عرف به أربعة وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه ، وقال الشافعي رحمه الله أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة . وقيل المراد نقصان دم الحيض وازدياده ، وغاض جاء متعديا ولازما وكذا ازداد قال تعالى : { وازدادوا تسعا } فإن جعلتهما لازمين تعين إما أن تكون مصدرية . وإسنادهم إلى الأرحام على المجاز فإنهما لله تعالى أو لما فيها . { وكل شيء عنده بمقدار } بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين ، وهيأ له أسبابا مسوفة إليه تقتضي ذلك . وقرأ ابن كثير { هادٍ } { ووالٍ } و{ وواق } { وما عند الله باقٍ } بالتنوين في الوصل فإذا وقف وقف بالياء في هذه الأحرف الأربعة حيث وقعت لا غير ، والباقون يصلون ويقفون بغير ياء .
لما تقدم تعجب الكفار واستبعادهم البعث من القبور - قص في هذه الآيات المثل المنبهة على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث :
فمن ذلك هذه الواحدة من الخمس التي هي من مفاتيح الغيب ، وهي أن الله تعالى انفرد بمعرفة ما تحمل به الإناث ، من الأجنة من كل نوع من الحيوان ؛ وهذه البدأة{[6911]} تبين أنه لا تتعذر على القادر عليها الإعادة .
و { ما } في قوله : { ما تحمل } يصح أن تكون بمعنى الذي ، مفعولة { يعلم } ويصح أن تكون مصدرية ، مفعولة أيضاً ب { يعلم } ، ويصح أن تكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء ، والخبر : { تحمل } وفي هذا الوجه ضعف{[6912]} .
وفي مصحف أبي بن كعب : «ما تحمل كل أنثى وما تضع » .
وقوله : { وما تغيض الأرحام } معناه : ما تنقص ، وذلك أنه من معنى قوله : { وغيض الماء }{[6913]} [ هود : 44 ] وهو بمعنى النضوب فهي - هاهنا - بمعنى زوال شيء عن الرحم وذهابه ، فلما قابله قوله : { وما تزداد } فسر بمعنى النقصان : ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان : فقال مجاهد «غيض الرحم » أن يهرق دماً على الحمل ، وإذا كان ذلك ضعف الولد في البطن وشحب ، فإذا أكملت الحامل تسعة أشهر لم تضع وبقي الولد في بطنها زيادة من الزمن يكمل فيها من جسمه وصحته ما نقص بمهراقة الدم ، فهذا هو معنى قوله : { وما تغيض الأرحام وما تزداد } وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم الدم على الحمل .
وذهب بعض الناس إلى أن غيضه هو نضوب الدم فيه وامتساكه بعد عادة إرساله بالحيض ، فيكون قوله : { وما تزداد } - بعد ذلك - جارياً مجرى { تغيض } على غير مقابلة ، بل غيض الرحم هو بمعنى الزيادة فيه .
وقال الضحاك : غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة تاماً في خلقه .
وقال قتادة : الغيض : السقط ، والزيادة : البقاء بعد تسعة أشهر .
وقوله : { وكل شيء عنده بمقدار } لفظ عام في كل ما يدخله التقدير .