قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير رضي الله عنه كان يحدث أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : " اسق يا زبير ، ثم أرسل إلى جارك . فغضب الأنصاري ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير : اسق ، ثم احبس الماء حتى يرجع الجدر " فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار على الزبير رأيا أي أراد له سعةً له وللأنصار ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم . قال عروة : قال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك . { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية . وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة ، فلما خرجا مر على المقداد فقال : لمن كان القضاء ؟ فقال الأنصاري : قضى لابن عمته ، ولوى شدقيه ، ففطن له يهودي كان مع المقداد ، فقال : قاتل الله هؤلاء ، يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ؟ وايم الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا موسى إلى التوبة منه ، فقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا ، فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا . فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ، ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت ، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } . وقال مجاهد والشعبي : نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه .
قوله تعالى : { فلا } أي : ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ، ثم استأنف القسم .
قوله تعالى : { وربك لا يؤمنون } . ويجوز أن يكون { لا } في قوله { فلا } صلة كما في قوله { فلا أقسم } .
قوله تعالى : { حتى يحكموك } . أي يجعلوك حكماً .
قوله تعالى : { فيما شجر بينهم } ، أي : اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه ، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض .
قوله تعالى : { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً } ، قال مجاهد شكا ، وقال غيره : ضيقاً .
قوله تعالى : { مما قضيت } قال الضحاك : إثماً ، أي : يأثمون بإنكارهم ما قضيت .
قوله تعالى : { ويسلموا تسليماً } . أي : وينقادوا لأمرك انقياداً .
ثم بين - سبحانه - أن كل من يدعى الإِيمان لا يكون إيمانه صادقا إلا إذا تقبل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إذعان واقتناع فقال : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } .
والفاء فى قوله { فَلاَ } للإِفصاح عن شرط مقدر .
و { لاَ } يرى الزمخشرى أنها زائدة لتقوية الكلام وتأكيد معنى القسم ، فهى كقوله - تعالى - : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ويرى ان جرير أنها ليست زائدة ، وإنما هى رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم شريعة الإِسلام فقد قال :
" يعنى - جل ثناؤه - بقوله فلا : أى فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد . ثم استأنف القسم - جل ذكره - فقال : وربك يا محمد لا يؤمنون أى : لا يصدقون بى وبك حتى يحكموك فيما شجر بينهم .
وقوله { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أى فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس .
يقال : شجر بينهم الأمر يشجر شجرا وشجورا إذا تنازعوا فيه .
واصله التداخل والاختلاط . ومنه شجر الكلام ، إذ دخل بعضه فى بضع واختلط . ومنه الشجر : لتداخل أغصانه .
وقيل للمنازعة تشاجر ، لأن المتنازعين تختلف أقوالهم ، وتتعارض دعاويهم ، ويختلط بعضهم ببعض .
وقوله { حَرَجاً } أى ضيقا وشكا ، وأصل الحرج مجتمع الشئ ، ويقال للشجر الملتف الذى لا يكاد يوصل إليه حرج . ثم أطلق على ضيق الصدر لكراهته لشئ معين .
والمعنى : إذا ثبت ما أخبرناك به يا محمد قبل ذلك ، فإن هؤلاء المنافقين وحق ربك " لا يؤمنون " إيمانا حقا يقبله الله - تعالى - { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أى : حتى يجعلوك حاكما بينهم ، ويلجأوا إليك فيما اختلفوا فيه من أمور ، والتبس عليهم منها . { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ } بعد ذلك { حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } أى ضيقا وشكا فى قضائك بينهم { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أى : ويخضعوا لحكمك خضوعا تام إلا إباء مع ولا ارتياب .
وفى إضافة الاسم الجليل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله - سبحانك - { وَرَبِّكَ } تكريم للنبى صلى الله عليه وسلم وتشريف له ، وتنويه بمكانته .
وقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ } هو جواب القسم .
وقوله { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ } معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام . اى : حتى يحكموك فيما شجر بينهم فتحكم بينهم ثم لا يجدوا .
وقوله { تَسْلِيماً } تأكيد للفعل . بمنزلة تكريره . أى تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة فقد روى الحافظ أبو نعيم والطبرانى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذى نفسى بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
هذا ، وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما رواه البخارى عن الزهرى " عن عروة قال : خاصم الزبير رجلا من الأنصار فى شراج الحرة - أى فى مسيل مياه - .
فقال النبى صلى الله عليه وسلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك . فقال الأنصارى : يا رسول الله ! ! أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال : اسق يا زبير . ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " - والجدر هو ما يدار بالنخل من تراب كالجدار - . ثم أرسل الماء إلى جارك .
قال الزبير : فما أحسب هذه الآية إلا نزلت فى ذلك { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .
وهذا السبب الخاص فى نزول الآية الكريمة لا يمنع عمومها فى وجوب التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته ، وإلى الشريعة التى أتى بها بعد وفاته ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء .
ويبدو أن ما ذكرناه سابقا من تحاكم بعض المنافقين إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء فى البخارى من تخاصم الزبير مع الرجل الأنصارى يبدو أن هذه الحوادث قد حدثت فى زمن متقارب فنزلت الآيات لبيان وجوب التحاكم إلى شريعة الله دون سواها .
والمتأمل فى الآية الكريمة يراها قد بينت أن المؤمن لا يكون إيمانه تاما إلا إذا توفرت فيه صفات ثلاث :
أولها : أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته ، وإلى شريعته بعد وفاته .
وثانيها : أن يتقبل حكم الشريعة الإِسلامية التى جاء بها النبى صلى الله عليه وسلم برضا وطيب خاطر ، وأن يوقن إيقانا تاما بأن ما يقضى به هو الحق والعدل . قال - تعالى - : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } .
وثالثها : أن يذعن لأحكام شريعة الله إذعانا تاما فى مظهره وحسه . قال - تعالى - { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } . أى يخضوا خضوعا تاما .
فقوله - تعالى - { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } يمثل الانقياد الباطنى والنفسى .
وقوله - تعالى - { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } يمثل الانقياد الظاهرى والحسى .
وهكذا نرى الآية الكريمة تحذر المؤمنين من التحاكم إلى غير شريعة الله بأسلوب يبعث فى النفوس الوجل والخشية ، ويحملهم على الإِذعان لأحكام الله - تعالى - .
{ فلا وربك } أي فوربك ، ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله : { لا يؤمنون } لأنها تزاد أيضا في الإثبات كقوله تعالى : { لا أقسم بهذا البلد } .
{ حتى يحكموك فيما شجر بينهم } فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه . { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } ضيقا مما حكمت به ، أو من حكمك أو شكا من أجله ، فإن الشاك في ضيق من أمره . { ويسلموا تسليما } وينقادوا لك انقيادا بظاهرهم وباطنهم .
قال الطبري : قوله : { فلا } رد على ما تقدم ، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله ، { وربك لا يؤمنون } .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقال غيره : إنما قدم «لا » على القسم اهتماماً بالنفي ، وإظهاراً لقوته ، ثم كررها بعده تأكيداً للتهمم بالنفي ، و كان يصح إسقاط { لا } الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام{[4132]} ، و { شجر } معناه : اختلط والتف من أمورهم ، وهو من الشجر ، شبيه بالتفاف الأغصان ، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه{[4133]} ، وقرأ أبو السمال «شجْر » بإسكان الجيم .
قال القاضي أبو محمد : وأظنه فر من توالي الحركات ، وليس بالقوي ، لخفة الفتحة ، و { يحكموك } نصب بحتى ، لأنها هاهنا غاية مجردة . و { يجدوا } عطف عليه ، والحرج : الضيق والتكلف والمشقة ، قال مجاهد : { حرجاً } ، شكاً{[4134]} ، وقوله : { تسليماً } مصدر مؤكد ، منبىء على التحقيق في التسليم ، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة ، كما قال تعالى : { وكلم الله موسى تكليماً }{[4135]} [ النساء : 164 ] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع ، ومنه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وعجت عجيجاً من جدام المطارف{[4136]} .
وقال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت ، وفيهم نزلت ، ورجح الطبري هذا ، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة : نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب ذلك الرجل وقال آن كان ابن عمتك ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستوعب للزبير حقه ، فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء ، » فنزلت الآية{[4137]} ، واختلف أهل هذا القول في الرجل ، فقال قوم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر ، وقال مكي وغيره : هو حاطب بن أبي بلتعة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار ، وأن الزبير قال : فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك ، وقالت طائفة : لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ، بلغ ذلك النبي وعظم عليه ، وقال : ( ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن ){[4138]} ، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي ، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله .