المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

6- هذا شأن المهتدين ، أما الجاهلون الذين فقدوا الاستعداد للإيمان إعراضاً منهم وعناداً ، فلن يستجيبوا لله ، فيستوي عندهم تخويفك لهم وعدم تخويفك .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

قوله تعالى : { الذين كفروا } . يعني مشركي العرب ، قال الكلبي : يعني اليهود . والكفر هو الجحود وأصله من الستر ومنه سمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء بظلمته وسمي الزارع كافراً لأنه يستر الحب بالتراب ، فالكافر يستر الحق بجحوده . والكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار ، وكفر جحود ، وكفر عناد ، وكفر نفاق . فكفر الإنكار هو : أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به وكفر به ، وكفر الجحود هو : أن يعرف الله تعالى بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس وكفر اليهود . قال الله تعالى : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) وكفر العناد هو : أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول :

ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

وأما كفر النفاق فهو : أن يقر بلسانه ولا يعتقد بالقلب ، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له .

قوله تعالى : { سواء عليهم } . أي : متساو لديهم .

قوله تعالى : { أأنذرتهم } . خوفتهم وحذرتهم ، والإنذار إعلام مع تخويف ، المنذر معلم وليس كل معلم منذراً ، وحقق ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائي الهمزتين في ( أأنذرتهم ) وكذلك كل همزتين تقعان في أول الكلمة والآخرون يلينون الثانية .

قوله تعالى : { أم } . حرف عطف على الاستفهام .

قوله تعالى : { لم } . حرف جزم لا تلي إلا الفعل لأن الجزم يختص بالأفعال .

قوله تعالى : { تنذرهم لا يؤمنون } . وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

وبعد أن انتهى القرآن من بيان شأن الكتاب وأثره في الهداية والإرشاد ، وتصوير حال المتقين الذين اهتدوا به ، وما اكتسبوه بالهداية من أوصاف سامية ، وما كان لهم على ذلك من خير العاقبة وحسن الجزاء ، أقول بعد أن انتهى من بيان كل ذلك شرع في بيان حال الكافرين ، وما هم عليه من سوء الحال وقبيح الأوصاف فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ . . . }

في هاتين الآيتين بيان لأحوال طائفة ثانية من الناس ، على الضد في طبيعتها وأوصافها ومآلها من الطائفة الأولى التي فازت برضوان الله .

والكفر - بالضم - ضد الإيمان . وأصله المأخوذ منه الكفر - بالفتح - وهو ستر الشيء وتغطيته ، ومنه سمي الليل كافراً ، لأنه يغطي كل شيء بسواده ، وسمي السحاب كافراً لستره ضوء الشمس . ثم شاع الكفر في مجرد ستر النعمة ، كأن المنعم عليه قد غطى النعمة بجحوده لها ، ويستعمله الشارع في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وسمي من لم يؤمن بما يجب الإيمان به بعد الدعوة إليه - كافراً ، لأنه صار بجحوده لذلك الحق وعدم الإذعان إليه كالمغطى له . والمراد بالذين كفروا في الآية التي معنا ، طائفة معينة صمت آذانها عن الحق ، عناداً وحسداً ، وليس عموم الكافرين ، لأن منهم من دخل في الإسلام بعد نزول هذه الآية . وسواء : اسم مصدر بمعنى الاستواء والمراد به اسم الفاعل أي : مستو ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر ، كما في قوله - تعالى - : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : مستوية .

والإنذار : إخبار معه تخويف في مدة تتسع للتحفظ من المخوف ، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار ، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله - تعالى - . والمعنى : إن الذين كفروا برسالتك يا محمد مستو عندهم إنذارك وعدمه ، فهم لا يؤمنون بالحق ، ولا يستجيبون لداعي الهدى ، لسوء استعدادهم ، وفساد فطرهم .

وجاءت جملة " إن الذين كفروا " مستأنفة ولم تعطف على ما قبلها لاختلاف الغرض الذي سيق له الكلام ، إذ في الجمل السابقة حديث عن الكتاب وآثاره وعظمته ، وهنا حديث عن الكافرين وأحوالهم . وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " فإن قلت لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } وغيره من الآيات الكثيرة ؟ قلت : ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت . لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى المتقين ، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ؛ فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب ، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف " .

وقوله { سَوَآءٌ } خبر إن { عَلَيْهِمْ } متعلق به ، و { أَأَنذَرْتَهُمْ } مؤول بمصدر فاعل سواء .

أي : إن الذين كفروا سواء عندهم إنذارهم وعدم إنذارهم وإنما استوى لديهم الإنذار وعدمه ؛ مع أن الإنذار إنما يواجههم به نبي قوي أمين مؤيد من الله - تعالى - ، لأنهم لما جحدوا نعم الله ، وعموا عن آياته ، وحسدوا رسوله على ما آتاه الله من فضله ، صاروا بسبب ذلك في حضيض جمد معه شعورهم ، وبرد فيه إحساسهم ، فلا تؤثر فيهم موجعات القول ، ولا تنفذ إلى قلوبهم بالغات الحجج . فهم كما قال الشاعر :

لقد أسمعت إذ ناديت حيا . . . ولكن لا حياة لمن تنادي

ولم يذكر - سبحانه - التبشير مع الإنذار ، لأنهم ليسوا أهلا للبشارة ، ولأن الإنذار أوقع في القلوب ، والذي لا يتأثر به يكون عدم تأثره بغيره أولى .

ولم يقل - سبحانه - سواء عليك أأنذرتهم أم لم تنذرهم . . الخ ، لأنه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم لا يستوي الأمران ، إذ هو في حالة إنذاره لهم مثاب ومأجور ، أما في حالة عدم إنذاره فهو مؤاخذ من الله - تعالى - لأنه مكلف بتبليغ ما أنزل إليه من ربه .

وجملة { لاَ يُؤْمِنُونَ } مفسرة لمعنى الجملة التي قبلها ومؤكدة لها ، لأنه حيث كان الإنذار وعدمه سواء ، فلا يتوقع منهم الإيمان . ولذلك فصلت . وفي هذه الجملة إخبار بعدم إيمانهم ألبتة ، وذلك لأن حرف " لا " إذا دخل على الفعل المضارع - كما هنا - أفاد أن الفعل لا يقع في المستقبل حتى تقوم قرينة تقصر النفي في المستقبل على وقت محدد .

والحكمة في الإخبار بعدم إيمان هذه الطائفة المعينة من الكفار ، تسلية النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون في صدره حرج من تمردهم وعدم إيمانهم بعد أن قام بواجب دعوتهم ، وفي ذلك تذكرة لكل داع مصلح بأن لا يحترق قلبه أسفاً على قوم أعرضوا عن سلوك الصراط المستقيم ، بعد أن دعاهم إليه ، وبذل قصارى جهده في تبصيرهم وإرشادهم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : غَطوا الحق وستروه ، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك ، سواء عليهم إنذارك وعدمه ، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } الآية [ البقرة : 145 ] أي : إن من{[1225]} كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له ، ومن أضلَّه فلا هادي له ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وبلّغهم الرّسالة ، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهْمِدَنَّك ذلك ؛ { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] ، و{ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ هود : 12 ] .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بما أنزل إليك ، وإن قالوا : إنَّا قد آمنا بما جاءنا قبلك { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق ، فقد{[1226]} كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ !

وقال أبو جعفر الرّازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين قال الله فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } [ إبراهيم : 28 ، 29 ] .

والمعنى الذي ذكرناه أوّلا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة ، أظهر ، ويفسر{[1227]} ببقية الآيات التي في معناها ، والله أعلم .

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عبد الله بن المغيرة ، عن أبي الهيثم{[1228]} عن عبد الله بن عمرو ، قال : قيل : يا رسول الله ، إنَّا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ فنكاد أن نيأس ، فقال : «ألا أخبركم » ، ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } هؤلاء أهل النار » . قالوا : لسنا منهم يا رسول الله ؟ قال : «أجل »{[1229]} .

وقوله : { لا يُؤْمِنُونَ } محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي هم كفار في كلا الحالين ؛ فلهذا أكد ذلك بقوله : { لا يُؤْمِنُونَ } ويحتمل أن يكون { لا يُؤْمِنُونَ } خبرًا لأن تقديره : إن الذين كفروا لا يؤمنون ، ويكون قوله : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } جملة معترضة ، والله أعلم ]{[1230]} .

/خ20


[1225]:في جـ: "إلا أنه من".
[1226]:في جـ، ط، ب: "وقد".
[1227]:في جـ: "وتفسيره"، وفي طـ، ب: "ويفسره".
[1228]:في جـ: "القسم".
[1229]:تفسير ابن أبي حاتم (1/42).
[1230]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( 6 )

معنى الكفر( {[181]} ) مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر ، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة : [ الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في ليلة كفر النجوم غمامُها( {[182]} )

أي سترها ومنه سمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر : [ ثعلبة بن صغيرة ] : [ الكامل ] .

فتذكر ثقلاً رثيداً بعدما . . . ألقت ذكاءَ يمينها في كافر( {[183]} )

ومنه قيل للزراع كفار ، لأنهم يغطون الحب ، ف «كفر » في الدين معناه غطى على قلبه( {[184]} ) بالرِّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله وأفعاله .

واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود كفار قد أسلموا بعدها .

فقال قوم : «هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحد »( {[185]} ) .

وقال ابن عباس : «نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب ، وأبي ياسر وابن الأشرف ونظارائهم » وقال الربيع بن أنس : «نزلت في قادة الأحزاب( {[186]} ) وهم أهل القليب ببدر » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا حكي هذا القول ، وهو خطأ ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم ، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب ، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه ، وكل من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية . وقوله : { سواء عليهم } معناه معتدل عندهم( {[187]} ) ، ومنه قول الشاعر( {[188]} ) : [ أعشى قيس ] : [ الطويل ] .

وليل يقول الناس من ظلماتِهِ . . . سواء صحيحاتُ العيونِ وعورُها

قال أبو علي : في اللفظة أربع لغات : سوى( {[189]} ) بكسر السين ، وسواء بفتحها والمد ، وهاتان لغتان معروفتان ، ومن العرب من يكسر السين ويمد ، ومنهم من يضم أوله ويقصره ، وهاتان اللغتان أقل من تينك . ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا : «قيي( {[190]} ) ، وقواء » .

و { سواء } رفع على خبر { إن } ، أو رفع على الابتداء( {[191]} ) وخبره فيما بعده ، والجملة خبر { إن } ، ويصح أن يكون خبر { إن } { لا يؤمنون } .

وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع : «آنذرتهم » بهمزة مطولة( {[192]} ) ، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن ، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خففت ، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير ، لأنه يدخل بين الهمزتين ألفاً ، وابن كثير لا يفعل ذلك . وروى قالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية . وروى عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين ، فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر : فبالهمزتين «أأنذرتهم » ، وما كان مثله في كل القرآن .

وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما .

وقرأ الزهري وابن محيصن «أنذرتهم » بحذف الهمزة الأولى ، وتدل { أم } على الألف المحذوفة ، وكثر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها ، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء . والإنذار إعلام بتخويف ، هذا حده ، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين .

قال الله عز وجل : { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }( {[193]} ) [ فصلت : 13 ] وقال : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً }( {[194]} ) [ النساء : 40 ] وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه .

وقوله تعالى : { آنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء عليّ أقعدت أم ذهبت ، وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام ، فقد استوى الأمران عندك ، هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عمتهما التسوية جرى عل هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام ، وكل استفهام تسوية ، وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً . ( {[195]} )


[181]:- الكفر في الدين: كفر التوحيد والإيمان، وكفر النعمة والإحسان، والمراد هنا الأول.
[182]:- البيت من معلقة لبيد بن ربيعة وصدره: يعلو طريقة متْنِها متواترا ................................
[183]:- هو لثعلبة بن صعيرة المازني يصف النعامة والظليم ورواحهما إلى بيضها عند غروب الشمس، والثقيل هنا: البيض المصون: والرَّثيد المنسق بعضه إلى بعض، وذُكاء اسم للشمس، وألقت يمينها في كافر: عبارة عن كونها بدأت في المغيب.
[184]:- في هذه الفقرة قلق فقوله (على قلبه) مربوط بالرين، وقوله (عن الإيمان) معلق بغطى والمعنى أنه غطى قلبه عن الإيمان بما كسبه من الرين.
[185]:- في بعض النسخ: دون أن يعيِّن أحدا.
[186]:- أي أحزاب الكفر، روى ابن جرير، وابن المنذر، عن أبي العالية في قوله تعالى: [إن الذين كفروا] قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية [ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا] قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر، ولم يدخل من القادة في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان، والحكم بن العاص.
[187]:- اعتدل الشيء توسط بين حالين، وتناسب، واستوى، فسواء بمعنى مستو.
[188]:- هو أعشى قيس الملقب بالأعشى الأكبر.
[189]:- منه قوله تعالى: [فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سُوى] قرئ فيالسبع "بالكسر والضم".
[190]:- القيي والقواء قفر الأرض.
[191]:- الكلام محمول على المعنى، فسواء وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو خير في المعنى، أي "الإنذار أو عدمه سواء عليهم". كقولك: سواء علي أقمت أم قعدت- أي "قعودك أو قيامك سواء علي"
[192]:- اعلم أن القراء اختلفوا في الهمزة الثانية التي هي فاء الكلمة من قوله تعالى: [أأندرتَهُمْ] فقالون والبصري يسهلانها ويدخلان بين الهمزتين ألفا. وورش وابن كثير يسهلانها من غير إدخال، ولورش أيضا إبدالها ألفا فيلتقي مع سكون النون إلا أن المد لازم في هذه الحالة-والباقون يحققون من غير إدخال إلا هشاما فله التحقيق والتسهيل مع الإدخال. ولقد طعن الزمخشري في قراءة ورش من حيث أنها تؤدي إلى الجمع بين الساكنين على غير حدّه، ولا شاهد له على ذلك. والحق أن هذه القراءة صحيحة ومتواترة، وهذا أقوى شاهد على ذلك- وأيضا فقد أجاز الكوفيون ذلك، ويكفي مذهبهم في ذلك، ومن هنا أنبه إلى أن الزمخشري سامحه الله كثير الطعن في القراءات، فلا تحفل بكلامه في هذا المقام، ولا تخدعنك شقشقة الكلام، والتوفيق بيد الله تعالى.
[193]:- من الآية (13) من سورة (فصلت).
[194]:- من الآية (40) من سورة (النبأ).
[195]:- قال أبو عبيدة في كتاب "مجاز القرآن" في هذه الآية الكريمة- هذا كلام هو إخبار خرج مخرج الاستفهام، وليس هذا إلا في ثلاثة مواضع هذا أحدها والثاني: "ما أبالي أقْبَلْت أم أدبرْتَ". والثالث: "ما أدري أوليَّيت أم جاء فلان". انتهى، وقد أثنى أبو (ح) رحمه الله على ما قاله ابن عطية إلا أنه ناقشه في قوله: ومعناه الخبر، انظره وتأمله. وكما يجيء الاستفهام بمعنى الخبر يأتي الخبر بمعنى الاستفهام كقوله تعالى: [وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل].