هذه السورة مدنية نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وهي أطول سورة في القرآن الكريم حسب ترتيب المصحف ، وقد ابتدأت هذه السورة بتفصيل ما انتهت إليه سورة الفاتحة ، فقد ذكرت أن القرآن مصدر الهدى ، وذكرت الذين أنعم الله عليهم بالرضا ، والذين غضب عليهم من الكفار والمنافقين .
وقد تحدثت السورة عن صدق القرآن ، وأن دعوته حق لا ريب فيها ، ثم تحدثت عن أصناف الناس الثلاثة : المؤمنين ، والكافرين ، والمنافقين ، وعن الدعوة إلى عبادة الله وحده ، وعن إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين ، ثم خصت بني إسرائيل بالدعوة والمراجعة ، وجاء فيها تذكيرهم بأيام الله وبحوادثهم مع موسى عليه السلام ، وتذكيرهم كذلك بإبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة ، واستغرق ذلك نحو نصف السورة ، وتخلله حديث موجه إلى المؤمنين للاعتبار بما حدث لليهود والنصارى .
وانتقل الحديث إلى خطاب أهل القرآن بذكر ما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد من فضل إبراهيم وهدايته ونسبه ، وبذكر مسألة القبلة ونحوها .
ثم جاء الحديث عن التوحيد والتذكير بآيات الله الدالة عليه ، وجاء الحديث عن الشرك ، وعن المحرمات من الطعام ، وأن التحريم والتحليل من حق الله وحده .
وتعرضت السورة لبيان أصول البر ، وذكر بعض أحكام الصيام والوصية وأكل أموال الناس بالباطل ، والقصاص والقتال والحج والخمر والميسر والنكاح والطلاق والرضاع والعدة وغيرها ، كما تعرضت للحديث عن العقائد العامة كالرسالة والتوحيد والبعث ، وتحدثت عن الإنفاق وعن تحريم الربا والتجارة وكتابة الدّين ، ثم ختمت السورة بدعاء من المؤمنين لربهم أن ينصرهم ويؤيدهم .
وقد تضمنت هذه السورة عدة قواعد منها :
أن اتباع سبيل الله وإقامة دينه هما الموجبان للسعادة في الدنيا والآخرة ، وأنه لا يليق بعاقل أن يدعو إلى البر والفضيلة وينسى نفسه ، وأنه يجب إيثار الخير على الشر ، وترجيح الأعلى على الأدنى .
وأن أصول الدين ثلاثة ، وهي : الإيمان بالله ، والإيمان بالبعث ، والعمل الصالح .
وأن الجزاء على الإيمان والعمل معا ، وأن شرط الإيمان هو : الإذعان النفسي والتسليم القلبي لكل ما جاء به الرسول ، وأن غير المسلمين لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبع المسلمون دين هؤلاء .
وأن الولاية العامة الشرعية يجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل ، لا لأهل الكفر والظلم . وأن الإيمان بدين الله كما أنزله يستلزم الوحدة والاتفاق ، وأن ترك الاهتداء بذلك يورث الاختلاف والشقاق ، وأن تحقيق الأمور الجليلة يستعان عليه بالصبر والصلاة ، وأن التقليد الأعمى باطل يؤدي إلى الجهالة والعصبية .
وأن الله أحل لعباده الطيبات من المطعم ، وحرم أشياء خبيثة محدودة ، ولا يجوز لغير الله أن يحل أو يحرم ، وأن المحرمات تباح للمضطر لأن الضرورات تبيح المحظورات وتقدر الضرورة بقدرها ، وأن الدين مبني على اليسر ورفع الحرج ، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يأمر عباده إلا بما يطيقون ، وأن إلقاء النفس إلى التهلكة حرام لا يجوز ، وأن الأشياء تطلب بأسبابها ووسائلها المؤدية إليها ، وأن الإكراه في الدين ممنوع ، وأن القتال مشروع في الإسلام للدفاع ، ولتأمين حرية الدين ، وتأمين سيادة الإسلام في مجتمعه .
وأن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا ، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة ، وأن سد الذرائع وتقرير المصالح من مقاصد الشريعة .
وأن الإيمان والصبر سببان لنصرة القلة العادلة على الكثرة الباغية ، وأن أكل أموال الناس بالباطل حرام ، وأن الإنسان مجزي بعمله لا بعمل غيره ، وأن حكمة التشريع يدركها العقل السليم لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد .
1- ألف لام ميم : هذه حروف ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها ليشير بها إلى إعجاز القرآن الكريم المؤلف من حروف كالحروف التي يؤلِّف منها العرب كلامهم ، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ، وهى مع ذلك تنطوي على التنبيه للاستماع لتميز جرسها .
قوله تعالى : { الم } . قال الشعبي وجماعة : الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سر القرآن ، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى ، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها . قال أبو بكر الصديق : في كل كتاب سر وسر الله في القرآن أوائل السور ، وقال علي : لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي . قال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داود إن لكل كتاب سراً ، وإن سر القرآن فواتح السور ، فدعها وسل عما سوى ذلك . وقال جماعة : هي معلومة المعاني ، فقيل : كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص : الكاف من كاف والهاء من هاد والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق . وقيل في ( المص ) أنا الله الملك الصادق ، وقال الربيع بن أنس : في الم الألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه اللطيف ، والميم مفتاح اسمه المجيد . وقال محمد بن كعب : الألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم ملكه . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال معنى ( الم ) : أنا الله أعلم : ومعنى ( المص ) : أنا الله أعلم وأفصل ، ومعنى ( الر ) : أنا الله أرى ، ومعنى ( المر ) : أنا الله أعلم وأرى . قال الزجاج : وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة يريدها كقولهم :
قلت لها قفى لنا فقالت لي قاف *** . . . . . . . .
أي : وقفت ، وعن سعيد بن جبير قال : هي أسماء الله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ، ألا ترى أنك تقول ( الر ، وحم ، ون ) ، فيكون الرحمن ، وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها ، وقال قتادة : هذه الحروف أسماء القرآن . وقال مجاهد و ابن زيد : هي أسماء السور ، وبيانه : أن القائل إذا قال : قرأت ( المص ) . عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت ب ( المص ) ، وروى عن ابن عباس أنها أقسام ، وقال الأخفش : إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة ، ومبادي أسمائه الحسنى .
سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم ، فقد استغرقت جزءين ونصف جزء تقريباً من ثلاثين جزءاً قسم إليها القرآن . وتبلغ آياتها ستاً وثمانين ومائتي آية . وقيل سبع وثمانون ومائتا آية .
وسميت بذلك لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي كلف قوم موسى بذبحها بعد أن قتل فيهم قتيل ولم يعرفوا قاتله .
وهي مدنية بإجماع الآراء ، وقد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة ، واستمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة قليلة . وكانت آخر آية من القرآن نزولا منها ، هي قوله –تعالى- :
[ واتقوا يوماً تُرجعُون فيه إلى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍِ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون ] .
مناسبتها لسورة الفاتحة : هناك مناسبة ظاهرة بين السورتين ، لأن سورة الفاتحة قد اشتملت على أحكام الألوهية والعبودية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم اشتمالا إجمالياً ، فجاءت سورة البقرة ففصلت تلك المقاصد ، ووضحت ما اشتملت عليه سورة الفاتحة من هدايات وتوجيهات .
فضلها : وقد ورد فضل سورة البقرة أحاديث متعددة ، وآثار متنوعة منها ما جاء في مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان .
وروى ابن حيان في صحيحه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة ، وإن من قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاث أيام " .
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذوو عدد فاستقرأ كل واحد منهم عما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال : ما معك يا فلان ؟ فقال : معي كذا وكذا وسورة البقرة . فقال : أمعك سورة البقرة ؟ قال : نعم . قال : اذهب فأنت أميرهم . فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا القرآن وتعلموه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب أوكى أي أغلق –على مسك .
قال القرطبي : وهذه السورة فضلها عظيم ، وثوابها جسيم ، ويقال لها فسطاط القرآن وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها( {[1]} ) .
مقاصدها : عندما نفتح كتاب الله فنطالع فيه سورة البقرة بتدبر وعناية ، نراها في مطلعها تنوه بشأن القرآن الكريم ، وتصرح بأنه حق لا ريب فيه ، وتبين لنا أن الناس أمام هدايته على ثلاثة أقسام :
قسم آمن به وانتفع بهدايته فكانت عاقبته السعادة والفلاح .
[ أولئك على هُدىً منْ رَبِّهم وأُولَئك هُم المفلحُون ] .
وقسم جحد واستكبر واستحب العمى على الهدى ، فأصبح لا يرجى منه خير ولا إيمان ، فكانت عاقبته الحرمان والخسران .
[ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ] .
ثم فصلت السورة الحديث عن قسم ثالث هو شر ما تبتلى به الأمم وهم المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون . وقد تحدثت السورة عنهم في ثلاث عشرة آية ، كشفت فيها عن خداعهم ، وجبنهم ، ومرض قلوبهم ، وبينت ما أعده الله لهم من سوء المصير ، ثم زادت في فضيحتهم وهتك سرائرهم فضربت مثلين لحيرتهم واضطرابهم ، قال –تعالى- :
[ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ] .
إلى أن يقول : [ ولو شَاءَ الله لذهبَ بِسَمْعِهم وأَبْصَارِهم إن الله عَلَى كُلِّ شيء قدير ] .
ثم وجهت السورة نداء إلى الناس جميعاً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده وأقامت لهم الأدلة الساطعة على صدق هذه القضية ، وتحدثهم –إن كانوا في ريب من القرآن- أن يأتوا بسورة من مثله . وبينت لهم أنهم لن يستطيعوا ذلك لا في الحاضر ولا في المستقبل .
ثم ختم الربع الأول منها ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، جمعت لذائذ المادة والروح ، وهم فيها خالدون . ثم قررت السورة الكريمة أن الله –تعالى- لا يمتنع عن ضرب الأمثال بما يوضح ويبين دون نظر إلى قيمة الممثل به في ذاته أو عند الناس ، كما قررت أن المؤمنين يقابلون هذه الأمثال بالإيمان والإذعان ، أما الكافرون فيقابلونها بالاستهزاء والإنكار .
وقد وبخت السورة بعد ذلك أولئك الكافرين على كفرهم ، مع وضوح الدلائل على وحدانية الله في أنفسهم وفي الآفاق فقالت :
[ كيفَ تكفُرون باللَّه وكنتُم أَمواتاً فَأَحْياكُم ثم يُمِيتُكم ، ثم يُحْييكُم ، ثم إليه تُرْجَعُون . هو الَّذي خلق لكُم ما في الأَرْضِ جَميعاً ، ثم اسْتَوَى إِلى السَّمَاء فَسَواهُنَّ سبع سموات وهو بكل شيء عليم ] .
ثم ذكرت السورة بعد ذلك جانبا من قصة آدم ، وقد حدثتنا فيه عن خلافة آدم في الأرض ، وعما كان من الملائكة من استفسار بشأنه –وعن سكن آدم وزوجه الجنة ، ثم عن خروجهما منها بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة .
[ وإِذْ قال ربُّك لِلْمَلاَئِكة إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَة ، قالُوا : أَتَجْعَل فيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ونحن نُسبح بِحَمْدِك ونقدس لك ، قال : إني أعلم ما لا تعلمون ] . . الخ . الآيات الكريمة .
هذا ، وقد عرفنا قبل ذلك أن سورة البقرة نزلت بالمدينة بعد أن هاجر المسلمون إليها ، وأصبحت لهم بها دولة فتية ، وكان يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود الذين كان أحبارهم يبشرون . بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم . فأخذت السورة الكريمة تتحدث عنهم –في أكثر من مائة آية- حديثاً طويلا متشعبا . .
فنراها في أواخر الربع الثاني توجه إليهم نداء محبباً إلى نفوسهم ، تدعوهم فيه إلى الوفاء بعهودهم ، وإلى الإيمان بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم فتقول :
[ يا بني إِسْرَائِيل اذكرُوا نعْمَتي الَّتي أَنْعَمْتُ عليكم ، وأَوْفُوا بعهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكم وإيَّاي فارْهبُون . وآمنُوا بما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقا لما معكم ولا تكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ، ولا تَشْتَرُوا بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فاتَّقُون ] .
ثم تذكرهم في الربع الثالث بنعم الله عليهم ، وبموقفهم الجحودي من هذه النعم ، تذكرهم بنعمة تفضيلهم على عالمي زمانهم ، وبنعمة إنجائهم من عدوهم ، وبنعمة فرق البحر بهم ، وبنعمة عفو الله عنهم مع تكاثر ذنوبهم ، وبنعمة بعثهم من بعد موتهم ، وبنعمة تظليلهم بالغمام ، وبنعمة إنزال المن والسلوى عليهم . الخ .
ولقد كان موقف بني إسرائيل من هذه النعم يمثل بالجحود والعناد والبطر ، فكانت نتيجة ذلك أن .
[ ضُرِبت عليهم الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ ، وباءُوا بغضبٍ منَ اللَّه ] .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك حديثاً مستفيضاً عن رذائلهم وقبائحهم ودعواهم الباطلة ، والعقوبات التي حلت بهم جزاء كفرهم وجحودهم .
فنراها في الربع الرابع تذكر لنا تنطعهم في الدين وإلحاقهم في المسألة عندما قال لهم نبيهم موسى : [ إِنَّ اللَّه يأمرُكُم أَنْ تَذْبحُوا بَقَرَةً ] . ثم تذكر قسوة قلوبهم فتقول على سبيل التوبيخ لهم :
[ ثُمَّ قستْ قلوبُكم من بعد ذلِك فَهي كَالحِجَارَةِ أو أَشَدَّ قَسْوَةً ، وإنَّ من الحِجَارةِ لما يتفجر منه الأَنهارُ ، وإن منْها لما يَشقّقُ فيخرجُ منه الماء . وإن منْها لما يَهبطُ من خَشْيَةِ اللَّه ، وما اللَّهُ بغافلٍ عَمَّا تَعْملُون ] .
ونراها في الربع الخامس تحدثنا عن تحريفهم للكلم عن مواضعه عن تعمد وإصرار ، وتتوعدهم على ذلك بسوء المصير :
[ فويْلٌ للذين يكتبُون الكتابَ بأيديهم ثمَّ يقولُون هذَا من عنْدِ اللّه ليشْترُوا به ثَمَناً قليلاً ، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ] .
ثم تحدثنا عن قولهم الباطل : [ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودة ] .
وترد عليهم بما يبطل حجتهم ، وعن نقضهم لعهودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس ومع أنفسهم ، وعن عدائهم لرسول الله ، وعن جحودهم للحق بدافع الحسد والعناد فتقول :
[ ولما جاءهُم كتابٌ منْ عنْدِ الله ، مُصَدِّقٌ لِمَا معهُم وَكَانُوا من قبلُ يَسْتَفْتِحُون على الذين كفرُوا ، فَلما جاءَهُم ما عرفُوا كفرُوا به فلعنةُ اللّهِ على الكافرين . بئْسَما اشْتَرَوْا به أنفسهم أن يكفرُوا بِمَا أنزلَ اللّهُ بغياً ، أَن ينزل اللّه من فضلِه على من يشَاءُ من عباده ، فباءُوا بغضب على غضبٍ وللكَافِرين عَذَابٌ مُهِينٌ ] .
ثم نراها في الربع السادس تحكي لنا نماذج من مزاعمهم الباطلة ، ومن ذلك زعمهم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس ، ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويصور جبنهم وحرصهم المشين على أية حياة حتى لو كانت ملطخة بالذل والهوان .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي ذلك بأسلوبه البليغ فيقول :
[ قل إن كانتْ لكُم الدارُ الآخرةُ عندَ اللهِ خالصةً مِن دونِ النَّاس فتمنوا الموتَ إِن كُنتُم صادقين . ولن يَتَمَنوه أبداً بمَا قَدَّمت أيديهم واللهُ عليمٌ بالظالمين ولتجِدَنَّهم أحرصَ النَّاس على حياةٍ ، ومن الذين أَشركُوا ، يودُّ أحدُهم لو يُعمّرُ ألفَ سنةٍ ، وما هو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذَاب أن يُعَمَّر واللّهُ بصيرٌ بما يعملون ] .
ثم تسوق لنا نماذج من سوء أدبهم مع الله ، وعداوتهم لملائكته ؛ ونبذهم كتاب الله ، واتباعهم للسحر والأوهام .
ثم نراها في الربع السابع تقص علينا بعض الصور من المجادلات الدينية ، والمخاصمات الكلامية ، التي استعملوها مع النبي صلى الله عليه وسلم لحرب الدعوة الإسلامية ، كجدالهم في قضية النسخ ، وفي كون الجنة لن يدخلها لا من كان هودا أو نصارى ، وفي كون القرآن ليس معجزة –في زعمهم- وإنما هم يريدون معجزة كونية . . الخ .
وقد رد القرآن عليهم بما يزهق باطلهم ، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم .
وكما ابتدأ القرآن الحديث معهم ابتداء محببا إلى نفوسهم [ يا بني إسرائيل ] ، فقد اختتمه –أيضاً- بالنداء نفسه ، لكي يستحثهم على الإيمان فقال :
[ يا بَنِي إسرائيلَ اذكرُوا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأَنِّي فضلتكُم على العالمين . واتَّقٌوا يوماً لا تجزِي نفسٌ عن نفْسٍ شيئاً ، ولا يقبلُ منها عدلٌ ، ولا تنفعُها شفاعةٌ ، ولا هم ينصرون ] .
ثم أخذت السورة بعد ذلك في الربع الثامن منها تحدثنا عن الكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم ، وعن قصة بنانء البيت الحرام ، وعن تلك الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم وإسماعيل يتضرعان بها إلى خالقهما وهما يقومان بهذا العمل الجليل .
[ رَبَّنَا تَقَبَّلْ منا إنك أننت السمِيعُ العلِيمُ . ربَّنا واجْعلنا مُسْلمَيْنِ لَكَ ومنْ ذُرِّيتنا أمةً مسلمةً لكَ ، وأَرِنَا مَنَاسِكَنا ، وتُبْ علينا ، إنك أنت التَّوابُ الرَّحِيمُ ] .
ثم أخذت تقيم الحجج الباهرة ، والأدلة الساطعة على أن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وعلى أن يعقوب قد وصى ذريته من بعده أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً .
ثم ختمت تلك المحاورات والمجادلات التي أبطلت بها دعاوى أهل الكتاب الباطلة ، ببيان سنة من سنن الله في خلقه ، هذه السنة تتلخص في بيان أن كل إنسان سيجازى بحسب عمله يوم القيامة ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وأن اتكال اليهود –أو غيرهم- على أنهم من نسل الأنبياء أو الصالحين دون أن يعملوا بعملهم لن ينفعهم شيئاً . فقال –تعالى- : [ تلك أمةٌ قدْ خلت ، لها ما كسَبتْ ولكُم ما كسبتُمْ ، ولا تُسْأَلُون عَمَّا كانُوا يَعْمَلُون ] .
ثم عادت السورة في الربع التاسع منها إلى الحديث عن الشبهات التي أثارها اليهود عند تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، وقد رد القرآن عليهم بما يدحض هذه الشبهات ، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق ، قال –تعالى- :
[ سيقولُ السُّفَهاءُ من النَّاس ما ولاَّهُم عن قِبْلتهم التي كانُوا عليها ، قل للّه المَشْرِقُ والمغربُ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ] إلى أن يقول : [ ومن حيثُ خرجتَ فَوَلِّ وجهك شطر المسجدِ الحرَامِ ، وحيثُ ما كنتُمْ فولُّوا وجوهكُم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة ، إلا الذين ظلَمُوا منهم فلا تَخْشَوْهُم واخْشَوْنِي ، ولأُتِمَّ نِعْمَتي عليكُم ولعلَّكم تَهْتَدُون ] .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن بني إسرائيل تفصيلا يحمل المسلمين على العظة والاعتبار ، ويعرفهم طبيعة أولئك القوم الذين خسروا أنفسهم حتى يأخذوا حذرهم منهم ، وينفروا من التشبه بهم .
أما المقدار الباقي من السورة الكريمة –وهو أكثر من نصفها بقليل- فعندما نراجعه بتفكر وتدبر ، نراه زاخراً بالتشريعات الحكيمة ، والآداب العالية ، والتوجيهات السامية .
نرى السورة الكريمة في هذا المقدار منها تحدثنا في الربع العاشر منها عن بعض شعائر الله التي تتعلق بالحج ، وعن الأدلة على وحدانية الله .
[ وإلهكُم إلهٌ واحدٌ لا إِله إلاَّ هو الرَّحْمَان الرَّحِيم . إن في خلقِ السَّموات والأرض واختلافِ الليلِ والنهارِ ، والفلكِ التي تجري في البحرِ بما ينفعُ النَّاس ، وما أنزلَ اللَّهُ من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرضَ بعد موتِهَا وبثَّ فيها من كل دابةٍ ، وتصريفِ الرِّياحِ والسَّحابِ المسخَّرِ بين السماء والأرضِ لآياتٍ لقومٍ يعقِلُون ] .
ثم بعد أن تصور لنا بأسلوب بليغ مؤثر حسرة المشركين يوم القيامة وهم يتبادلون التهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، بعد كل ذلك توجه نداء عاماً إلى الناس ، تأمرهم فيه أن يقيدوا أنفسهم بما أحل الله . . وأن يبتعدوا عن محارمه فتقول .
[ يأيها النَّاس كُلُوا مما في الأَرْض حلالاً طيباً ولا تتبعُوا خُطُوات الشَّيطان إِنه لكم عدوٌ مُبين . إنما يأمُركُم بالسُّوءِ والفَحْشَاءِ وأن تقولُوا على اللَّه ما لا تَعلمُون ] .
فإذا ما وصلنا إلى الربع الحادي عشر منها ، رأيناها تسوق لنا في مطلعه آية جامعة لألوان البر ، وأمهات المسائل الاعتقادية والعملية وهي قوله –تعالى- :
[ ليس البرَّ أنْ تُوَلُّوا وجوهَكُم قبل المشرِقِ والمغرِبِ ولكنَّ البرَّ من آمَنَ بالله واليومِ الآخِر والملائِكة والكتابِ والنبيين ] . الخ .
ثم أتبعت ذلك بالحديث عن القصاص ، وعن الوصية ، وعن الصيام وحكمته ، وعن الدعاء وآدابه ، ونهت المسلمين في ختامها عن مقارفة الحرام في شتى صوره وألوانه فقالت : [ ولا تأكُلُوا أموَالكُم بينكُم بالباطلِ وتُدْلُوا بها إلى الحكَّامِ ، لِتأكُلُوا فريقاً من أَمْوالِ النَّاسِ بالإثمِ وأنتم تعلمون ] .
وفي مطلع الربع الثاني عشر حكت بعض الأسئلة التي كان المسلمون يوجهونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجابت عنها بطريقة حكيمة تدعوهم إلى التدبر والاتعاظ ، ثم حضت المسلمين على الجهاد في سبيل الله ، ونهتهم عن البغي والاعتداء . استمع إلى القرآن وهو يحرض المؤمنين على القتال ويرسم لهم حدوده وآدابه فيقول :
[ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ، والفتنة أشد من القتل ، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم . كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ] .
ثم فصلت السورة الحديث عن الحج ، فتحدثت عن جانب من آدابه وأحكامه ، وحضت المسلمين على الإكثار من ذكر الله ، وأن يتجنبوا التفاخر بالأحساب والأنساب ، وأن يرددوا في دعائهم قوله –تعالى- :
[ ربَّنَا أَتِنَا في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النَّارِ ] .
وفي الربع الثالث عشر نراها تبين لنا ألوان الناس في هذه الحياة ، وأن منهم من يسعى في الإفساد وإهلاك الحرث والنسل ، فإذا ما نصح أخذته العزة بالإثم ، وتمادى في طغيانه وإفساده ، وأن منهم من يبيع نفسه عن طواعية واختيار ابتغاء مرضاة الله .
[ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، والله رءوف بالعباد ] .
ثم تبين لنا بأن الناس جميعاً كانوا أمة واحدة ، وأن هذه الحياة مليئة بالمصائب والمحن والفتن ، وأن العاقل هو الذي يقابل كل ذلك بإيمان عميق ، وصبر جميل ، حتى يفوز برضى الله يوم القيامة ، ويظفر بنصره في الحياة الدنيا .
[ أَمْ حسبْتُم أن تدخُلُوا الجنَّة ولما يأْتِكُم مَثَلُ الَّذين خَلَوا من قبلِكم مسَّتهُم البأساءُ والضراءُ وزُلزلُوا حتَّى يقولَ الرَّسُولُ والذين آمنُوا معه : متى نصرُ الله ؟ أَلا إِنَّ نصرَ اللَّهِ قريبٌ ] .
ثم تحدثنا السورة الكريمة في الربعين الرابع عشر والخامس عشر حديثاً جامعاً عن النكاح وما يتعلق به من أحكام ، فحدثتنا عن الإيلاء وعن الطلاق . وعن الرضاع ، وعن المعدة ، وعن الخطبة ، وعن غير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن ، ثم ختمت حديثها بهذه الآية الكريمة :
[ كذلك يُبينُ اللَّهُ لكُم آياتِهِ لعلَّكُم تَعقِلُون ] .
ثم عادت السورة في الربع السادس عشر منها إلى الحديث عن الملأ من بني إسرائيل : [ . . . قالُوا لنبيٍّ لهم : ابعثْ لَنَا مَلكاً نُقاتلُ في سبيلِ الله ] .
فساقت لنا قصتهم بأسلوب زاخر بالعظات والعبر ، التي من أهمها أن الدين هو أساس العزة والمنعة ، وأن الشدائد من شأنها أن تصهر النفوس فتجعلها تتجه إلى معالي الأمور ، وأن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل وقوة الجسم وسعة العلم ، وكمال التجربة –ما يقود به أمته إلى صالح الأمور ، وأن العاقل هو الذي يسلك الوسائل السليمة لبلوغ غايته الشريفة ، ثم يفوض الأمور بعد ذلك إلى الله .
وفي الربع السابع عشر منها أفاضت في الحديث عن مظاهر قدرة الله ووحدانيته ، وأقامت على ذلك من الأدلة ما يشفي الصدور ، ويطمئن القلوب ، ويزيد المؤمنين إيماناً ، استمع إلى آية الكرسي وهي تصور عظمة الله وقدرته فتقول .
[ الله لا إله إلا هو الحيُّ القَيُّومُ لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ ، له ما في السمواتِ ، وما في الأرضِ ، من ذا الذي يشفعُ عنده إلا بإذنه ، يعلمُ ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يُحيطُون بشيءٍ من علمه إلا بما شَاءَ وَسِع كُرْسيه السمواتِ والأرضَ ، ولا يؤودُهُ حفظهُمَا وهو العليُّ العظيمُ ] .
وبعد هذا الحديث عن مظاهر قدرة الله ساقت السورة في أواخرها أنماطاً من التوجيهات التي تسعد المجتمع ، وتنزع الأحقاد من قلوب الأفراد ، فقد حضت المسلمين في جملة من آياتها على الإنفاق والإحسان ، وضربت لذلك أروع الأمثال ونهتهم عن المن والأذى ، وصرحت بأن الكلمة الطيبة للسائل خير من العطاء الذي تتبعه الإساءة .
[ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ] .
ثم بعد أن عقدت مقارنه مؤثرة بين من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، وبين من ينفقونها رثاء الناس ، بعد كل ذلك مدحت الفقراء الذين يتعففون عن السؤال ، ولا يلجأون إليه إلا عند الضرورة القصوى فقالت :
[ ليس عليكم هُدَاهم ولكن اللَّه يهْدِي من يشاءُ ، وما تُنْفِقُوا من خير فلأنفسِكُم ، وما تنفقُون إلا ابْتغَاءَ وجْهِ اللَّهِ ، وما تنفقُوا من خيرٍ يُوفَّ إليكُم وأنتم لا تُظْلَمُون . للفقراء الذين أُحْصِرُوا في سبيل الله لا يستطيعُون ضرباً في الأرضِ يحسبُهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفّفِ ، تعرفهم بسيماهُم لا يسألُون النَّاسَ إِلحاقاً ، وما تُنفِقوا من خيرٍ فإن اللهَ به عليمٌ ] .
ثم حذرت السورة بعد ذلك المؤمنين من التعامل بالربا ، ووصفت آكليه بصفات تنفر منها القلوب ، وتعافها النفوس ، ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بتقوى الله ، وأنذرتهم بحرب من الله لهم إن لم يتوبوا عن التعامل بالربا فقالت :
[ يأيُّها الذين آمَنُوا اتقُوا اللّه وذرُوا ما بقِيَ من الرِّبَا إن كنتُم مؤمنين . فإنْ لم تفعلُوا فأذنُوا بحرْبٍ من اللهِ ورسولِهِ ، وإن تُبْتُمْ فلكُم رءوسُ أموالِكُم لا تَظلمُون ولا تُظلمون ] .
ثم تحدثت بعد ذلك عن الديون والرهون ، فصاغت للمؤمنين دستوراً هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل ، ثم ختمت السورة حديثها الجامع عن العقائد والشرائع والآداب والمعاملات ، بذلك الدعاء الخاشع :
[ ربَّنَا لا تُؤَاخِذْنا إن نَسِينَا أو أَخطأنا ، ربَّنا ولا تحملْ علينا إصراً كَما حملتَهُ علَى الَّذِين من قبلِنَا ، ربَّنَا ولا تحمِّلْنَا ما لا طاقَةَ لنا بِهِ ، واعفُ عَنَّا واغْفِرْ لنا وارْحَمْنا ، أنت مَوْلانا ، فانْصُرنا على القومِ الكَافِرِين ] .
تلك هي سورة البقرة ، أرأيت وحدتها في كثرتها ؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها ؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها ؟ أرأيت كيف ينادي كل عضو فيها بأنه قد أخذ مكانه المقسوم وفقاً لخط جامع مرسوم ، رسمه مربي النفوس ومزكيها ، ومنور العقول أشتاتها على هذه الصورة معجزة ، فكيف وكل نجم منها كان يوضع في رتبته من فور نزوله ، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظاراً لحلوله . وهكذا كان ما ينزل منها معروف الرتبة ، محدد الموقع قبل أن ينزل .
لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات ، وفي أساليب ترتيبه معجزات ، وفي نبوءاته الصادقة معجزات ، وفي تشريعاته الخالدة معجزات ، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات لعمري إنه في ترتيب آياته على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات( {[2]} ) .
وبعد : فهذا عرض سريع لأهم مقاصد سورة البقرة ، قدمناه بين يديها لنعطي القارئ الكريم صورة متميزة عنها . ومن هذا العرض نرى أنها بجانب احتوائها على أصول العقائد ، وعلى كثير من أدلة التوحيد ، قد وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضتهما حالة المسلمين ، بعد أن أصبحت لهم دولة بالمدينة يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود .
أما الأمر الأول فهو توجيه الدعوة إلى بني إسرائيل ، ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول الرسالة الإسلامية من مؤثرات . وإماطة اللثام عن تاريخهم المظلم ، وأخلاقهم المرذولة حتى يحذرهم المسلمون .
وأما الأمر الثاني فهو التشريع للدولة الإسلامية الفتية ، وقد رأينا أن سورة البقرة في النصف الثاني منها قد تحدثت عن تلك الجوانب التشريعية حديثاً مفصلا منوعاً تناول أحكام القصاص ، والوصية ، والصيام والاعتكاف والحج ، والعمرة ، والقتال ، والنكاح ، والإنفاق في سبيل الله . والمعاملات المالية . إلى غير ذلك من التشريعات التي سبق الحديث عنها . والآن فلنبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول –وبالله التوفيق- .
سورة البقرة من السور التي ابتدئت ببعض حروف التهجي . وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة . فالسور التي بدأت بحرف واحد ثلاثة وهي سورة ص ، ق ، ن . والسورة التي بدأت بحرفين تسعة وهي : طه ، يس ، طس ، { وحم } في ست سور هي : غافر ، فصلت ، الزخرف ، الجاثية ، الأحقاف . والسورة التي بدأت بثلاثه أحرف ثلاث عشرة سورة وهي : { ألم } في ست سور : البقرة ، وآل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة و { الر } في خمس سور هي : يونس ، هود ، يوسف ، الحجر ، إبراهيم { طسم } في سورتين هما : الشعراء ، القصص . وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما . الرعد ، { المر } ، والأعراف ، { المص } وسورتان - أيضاً - بدئنا بخمسة أحرف وهما : مريم { كهيعص } والشورى { حم عسق } . فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة .
هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين :
الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - في إحدى رواياته - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري ، وغيرهم من العلماء ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور . ويروى عن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ؟ . وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأي ، أنه كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ، لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها . وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين - ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور . وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأي يضيق المجال عن ذكرها . أما الرأي الثاني فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة ، من أهمها ما يأتي :
1- أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه .
2- وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .
3 - وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته ، فمثلاً { الاما } أصلها : أنا الله أعلم .
4 - وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال ، والتي أوصلها السيوطي في " الإتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .
5 - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة ، وفضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجارى كلامهم ، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيستمعوا حكما وحججاً قد يكون سبباً في هدايتهم واستجابتهم للحق . هذه خلاصة لأراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيداً لذلك فليرجع - مثلاً - إلى كتاب " الإتقان " للسيوطي ، وإلى كتاب " البرهان " للزركشي ، وإلى تفسير الألوسي .
[ بسم الله الرحمن الرحيم ]{[1]}
قال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبيه ، عن معقل بن يسار ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «البقرة سَنَام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون مَلَكًا ، واستخرجت : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] من تحت العرش ، فوصلت بها ، أو فوصلت بسورة البقرة ، ويس : قلب القرآن ، لا يقرؤها رجل يريد الله ، والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرؤوها على موتاكم » انفرد به أحمد{[2]} .
وقد رواه أحمد - أيضًا - عن عارم ، عن عبد الله بن المبارك ، عن سليمان التيمي{[3]} عن أبي عثمان - وليس بالنَّهْدي - عن أبيه ، عن مَعْقِل بن يَسَار ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اقرؤوها على موتاكم » يعني : يس{[4]} .
فقد بَيَّنَّا بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى . وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه{[5]} .
وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير ، وفيه ضعف ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لكل شيء سنام ، وإن سَنَام القرآن البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي »{[6]} .
وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سهيل{[7]} بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان »{[8]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثني ابن أبي مريم ، عن ابن{[9]} لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سِنان بن سعد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه »{[10]} .
سنان بن سعد ، ويقال بالعكس ، وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره .
وقال أبو عبيد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، يعني ابن مسعود ، قال : إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة . ورواه النسائي في اليوم والليلة ، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة{[11]} ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال ، حدثني أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن عجلان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ألْفَيَنَّ أحَدَكم ، يَضَع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ، ويدع سورة البقرة يقرؤها ، فإن الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه سورة البقرة ، وإن أصفْرَ البيوت ، الجَوْفُ الصِّفْر من كتاب الله » .
وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ، عن محمد بن نصر ، عن أيوب بن سليمان ، به{[12]} .
وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال : ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط{[13]} . وقال : إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن سورة البقرة ، وإن لكل شيء لبابًا ، وإن لباب القرآن المفصل{[14]} . وروى - أيضا - من طريق الشعبي قال : قال عبد الله بن مسعود : من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها{[15]} وفي رواية : لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق .
وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن البقرة ، من قرأها في بيته ليلة{[16]} لم يدخله الشيطان{[17]} ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهارًا لم يدخله الشيطان{[18]} ثلاثة أيام » .
رواه أبو القاسم الطبراني ، وأبو حاتم ، وابن حبان في صحيحه{[19]} .
وقد روى الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر ، عن سعيد المقبري ، عن عطاء مولى أبي أحمد ، عن أبي هريرة ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد ، فاستقرأهم فاستقرأ كُلّ واحد منهم ، يعني ما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنًا ، فقال : «ما معك يا فلان ؟ » قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة ، فقال : «أمعك سورة البقرة ؟ » قال : نعم . قال : «اذهب فأنت أميرهم » فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم البقرة{[20]} إلا أني خشيت ألا أقوم بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تعلموا القرآن واقرؤوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسْكًا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه ، فيرقد وهو في جوفه ، كمثل جراب أوكِي على مسك »{[21]} .
هذا لفظ رواية الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن . ثم رواه من حديث الليث ، عن سعيد ، عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا فالله أعلم{[22]} .
قال{[23]} البخاري : وقال الليث : حدثني يزيد بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أسَيد بن حُضَير{[24]} قال : بينما هو يقرأ من الليل{[25]} سورة البقرة ، وفرسه مربوطة عنده ، إذ جالت الفرس ، فسكت ، فسكَنتْ ، فقرأ{[26]} فجالت الفرس ، فسكت ، فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس ، فانصرف ، وكان ابنه يحيى قريبًا منها . فأشفق أن تصيبه ، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «اقرأ يا ابن حُضَير{[27]} » . قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى ، وكان منها قريبًا ، فرفعت رأسي وانصرفت إليه ، فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح ، فخرجت حتى لا أراها ، قال : «وتدري ما ذاك ؟ » . قال : لا . قال : «تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت{[28]} ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم{[29]} » .
وهكذا رواه الإمام العَالم أبو عبيد القاسم بن سلام ، في كتاب فضائل القرآن ، عن عبد الله بن صالح ، ويحيى بن بكير ، عن الليث به{[30]} .
وقد روي من وجه آخر{[31]} عن أسيد بن حضير ، كما تقدم{[32]} ، والله أعلم .
وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس{[33]} رضي الله عنه ، وذلك فيما رواه أبو عبيد [ القاسم ]{[34]} : حدثنا عباد بن عباد ، عن جرير بن حازم ، عن جرير{[35]} بن يزيد : أن أشياخ أهل المدينة حدثوه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل له : ألم تر ثابت بن قيس بن شماس ؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ، قال : «فلعله قرأ سورة البقرة » . قال : فسئل ثابت ، فقال : قرأت سورة البقرة{[36]} .
وهذا إسناد جيد ، إلا أن فيه إبهاما ، ثم هو مرسل ، والله أعلم . [ ذكر ]{[37]} ما ورد في فضلها مع آل عمران قال{[38]} الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا بشير بن مهاجر{[39]} حدثني عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : «تعلموا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة » . قال : ثم سكت ساعة ، ثم قال : «تعلموا سورة البقرة ، وآل عمران ، فإنهما الزهراوان ، يُظلان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان أو غيايتان ، أو فرْقان من طير صَوافّ ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب ، فيقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك . فيقول : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر ، وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته ، وإنك اليوم من وراء كل تجارة . فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، ويكسى والداه حلتين ، لا يقوم لهما{[40]} أهل الدنيا ، فيقولان : بم كسينا هذا ؟ فيقال : بأخذ ولدكما القرآن ، ثم يقال : اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها ، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا » .
وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر{[41]} بعضه{[42]} ، وهذا إسناد حسن{[43]} على شرط مسلم ، فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم ، ووثقه ابن معين ، وقال النسائي : ليس به بأس ، إلا أن الإمام أحمد قال فيه : هو منكر الحديث ، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تجيء بالعجب . وقال البخاري : يخالف في بعض حديثه . وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن عدي : روى ما لا يتابع عليه . وقال الدارقطني : ليس بالقوي .
قلت : ولكن لبعضه شواهد ؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي ؛ قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة ، اقرؤوا الزهراوين : البقرة وآل عمران ، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما »{[44]} ثم قال : «اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة{[45]} ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة »{[46]} .
وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام مَمْطور الحَبَشِيّ ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان [ الباهلي ]{[47]} ، به{[48]} .
الزهراوان : المنيران ، والغياية : ما أظلك من فوقك . والفِرْقُ : القطعة من الشيء ، والصواف : المصطفة المتضامة{[49]} . والبطلة السحرة ، ومعنى " لا تستطيعها " أي : لا يمكنهم حفظها ، وقيل : لا تستطيع النفوذ في قارئها ، والله أعلم .
ومن ذلك حديث النَّوّاس{[50]} بن سَمْعان . قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ، عن جُبَير بن نُفَير ، قال : سمعت النواس بن سمعان الكلابي ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران » . وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد ، قال : «كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق ، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف{[51]} يُحَاجَّان عن صاحبهما »{[52]} .
ورواه مسلم ، عن إسحاق بن منصور ، عن يزيد بن عبد ربه ، به{[53]} .
والترمذي ، من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ، به{[54]} . وقال : حسن غريب .
وقال أبو عبيد : حدثنا حجاج ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : قال حماد : أحسبه عن أبي منيب ، عن عمه ؛ أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران ، فلما قضى صلاته قال له كعب : أقرأت البقرة وآل عمران ؟ قال : نعم . قال : فوالذي نفسي بيده ، إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب{[55]} . قال : فأخبرني به . قال : لا والله لا أخبرك ، ولو أخبرتك لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت{[56]} .
[ قال أبو عبيد ]{[57]} : وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن سليم بن عامر : أنه سمع أبا أمامة يقول : إن أخًا لكم{[58]} أرِي في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل ، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان : هل فيكم من يقرأ سورة البقرة ؟ وهل فيكم من يقرأ سورة آل عمران ؟ قال : فإذا قال الرجل : نعم . دنتا منه بأعذاقهما ، حتى يتعلق بهما فتُخطران به الجبل{[59]} .
[ قال أبو عبيد ]{[60]} وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي عمران : أنه سمع أم الدرداء تقول : إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له ، فقتله ، وإنه أقيدَ به{[61]} ، فقتل ، فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة ، حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ، ثم إن آل عمران انسلت منه ، وأقامت البقرة جمعة ، فقيل لها : { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] قال : فخرجت كأنها السحابة العظيمة{[62]} .
قال أبو عبيد : أراه ، يعني : أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه وتؤنسانه ، فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن .
وقال - أيضًا - : حدثنا أبو مُسْهِر الغساني ، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي : أن يزيد بن الأسود الجُرَشي كان يحدث{[63]} : أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم ، برئ من النفاق حتى يمسي ، ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح ، قال : فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه{[64]} .
[ قال أيضًا ]{[65]} : وحدثنا يزيد ، عن وقاء{[66]} بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان - أو كتب - من القانتين{[67]} .
فيه انقطاع ، ولكن ثبت في الصحيحين{[68]} : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما{[69]} في ركعة واحدة{[70]} .
[ ذكر ]{[71]} ما ورد في فضل السبع الطول
قال أبو عبيد : حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي ، عن محمد بن شعيب ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «أعطيت السبع الطُّوال مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني{[72]} مكان الزبور ، وفضلت بالمفصّل »{[73]} .
هذا حديث غريب ، وسعيد بن بشير ، فيه لين .
وقد رواه أبو عبيد [ أيضا ]{[74]} ، عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن سعيد بن أبي هلال ، قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال . . . فذكره ، والله أعلم . ثم قال{[75]} حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو{[76]} بن أبي عمرو ، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن حبيب بن هند الأسلمي ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من أخذ السبع فهو حَبْر »{[77]} .
وهذا أيضًا غريب ، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي ، روى عنه عمرو بن أبي عمرو وعبد الله بن أبي بكرة ، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا ، فالله أعلم .
وقد رواه الإمام أحمد ، عن سليمان بن داود ، وحسين ، كلاهما عن إسماعيل بن جعفر ، به{[78]} .
ورواه - أيضًا - عن أبي سعيد ، عن سليمان بن بلال ، عن حبيب بن هند ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من أخذ السبع الأوَل من القرآن فهو حَبْر »{[79]} .
قال أحمد : وحدثنا حسين ، حدثنا ابن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله{[80]} .
قال عبد الله بن أحمد : وهذا أرى فيه ، عن أبيه ، عن الأعرج ، ولكن كذا كان في الكتاب بلا " أبي " {[81]} ، أغفله أبي ، أو كذا هو مرسل ، ثم قال أبو عبيد : حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } [ الحجر : 87 ] ، قال : هي السبع الطول : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس . قال : وقال مجاهد : هي السبع الطول . وهكذا قال مكحول ، وعطية بن قيس ، وأبو محمد الفارسي{[82]} ، وشَداد بن عبيد الله ، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك ، وفي تعدادها ، وأن يونس هي السابعة .
والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف ، قال بعض العلماء : وهي مشتملة على ألف خبر ، وألف أمر ، وألف نهي .
وقال العادون : آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات ، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائة وإحدى وعشرون كلمة ، وحروفها خمسة{[83]} وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف ، فالله أعلم .
قال ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنزل بالمدينة سورة البقرة .
وقال خَصيف : عن مجاهد ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : أنزل بالمدينة سورة البقرة .
وقال الواقدي : حدثني الضحاك بن عثمان ، عن أبي الزِّناد ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، قال : نزلت البقرة بالمدينة .
وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء ، والمفسرين ، ولا خلاف فيه .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا الحسن بن علي بن الوليد [ الفارسي ]{[84]} حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا عُبيس{[85]} بن ميمون ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقولوا : سورة البقرة ، ولا سورة آل عمران ، ولا سورة النساء ، وكذا القرآن كله ، ولكن قولوا : السورة التي يذكر فيها البقرة ، والتي يذكر فيها آل عمران ، وكذا القرآن كله »{[86]} .
هذا حديث غريب لا يصح رفعه ، وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص ، وهو ضعيف الرواية ، لا يحتج به . وقد ثبت في الصحيحين{[87]} ، عن ابن مسعود : أنه رمى الجمرة من بطن الوادي ، فجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، ثم قال{[88]} : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة . أخرجاه{[89]} .
وروى ابن مَرْدُويه ، من حديث شعبة ، عن عقيل بن طلحة ، عن عتبة بن فرقد{[90]} قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرًا{[91]} ، فقال : «يا أصحاب سورة البقرة »{[92]} . وأظن هذا كان يوم حنين ، حين ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم : " يا أصحاب الشجرة " ، يعني أهل بيعة الرضوان . وفي رواية : " يا أصحاب البقرة{[93]} " ؛ لينشطهم بذلك ، فجعلوا يقبلون من كل وجه{[94]} . وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة ، جعل الصحابة يفرون لكثافة حَشْر{[95]} بني حنيفة ، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون : يا أصحاب سورة البقرة ، حتى فتح الله عليهم{[96]} . رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين .
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور ، فمنهم من قال : هي مما استأثر الله بعلمه ، فردوا علمها إلى الله ، ولم يفسروها [ حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم به ، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خثيم ، واختاره أبو حاتم بن حبان{[1117]} ]{[1118]} .
ومنهم من فسَّرها ، واختلف هؤلاء في معناها ، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنما هي أسماء السور [ قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره : وعليه إطباق الأكثر ، ونقله عن سيبويه أنه نص عليه ]{[1119]} ، ويعتضد هذا بما ورد في الصحيحين ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة : الم السجدة ، وهل أتى على الإنسان{[1120]} .
وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : أنه قال : الم ، وحم ، والمص ، وص ، فواتح افتتح الله بها القرآن .
وكذا قال غيره : عن مجاهد . وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عنه ، أنه قال : الم ، اسم من أسماء القرآن .
وهكذا قال قتادة ، وزيد بن أسلم ، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد : أنه اسم من أسماء السور{[1121]} ، فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن ، فإنه يبعد أن يكون " المص " اسما للقرآن كله ؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول : قرأت " المص " ، إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف ، لا لمجموع القرآن . والله أعلم .
وقيل : هي اسم من أسماء الله تعالى . فقال الشعبي : فواتح السور من أسماء الله تعالى ، وكذلك قال سالم بن عبد الله ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، وقال شعبة عن السدي : بلغني أن ابن عباس قال : الم اسم من أسماء الله الأعظم . هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة .
ورواه ابن جرير عن بُنْدَار ، عن ابن مَهْدِي ، عن شعبة ، قال : سألت السدي عن حم وطس والم ، فقال : قال ابن عباس : هي اسم الله الأعظم .
وقال ابن جرير : وحدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا شعبة ، عن إسماعيل السدي ، عن مُرَّة الهمداني قال : قال عبد الله ، فذكر نحوه [ وحكي مثله عن علي وابن عباس ]{[1122]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله تعالى .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن عُلية ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة أنه قال : الم ، قسم .
ورويا{[1123]} - أيضًا - من حديث شريك بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس : الم ، قال : أنا الله أعلم .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال السُّدِّي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس – وعن مرّة الهمذاني عن ابن مسعود . وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الم . قال : «أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى » .
وقال أبو جعفر الرّازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { الم } قال : هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفًا دارت فيها الألسن كلها ، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم . قال عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، وعَجب ، فقال : وأعْجَب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه ، فكيف يكفرون به ؛ فالألف مفتاح اسم الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف{[1124]} والميم مفتاح اسمه مجيد{[1125]} فالألف آلاء الله ، واللام لطف الله ، والميم مجد الله ، والألف{[1126]} سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون [ سنة ]{[1127]} . هذا لفظ ابن أبي حاتم . ونحوه رواه ابن جرير ، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها ، وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر ، وأن الجمع ممكن ، فهي أسماء السور ، ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور ، فكل حرف منها دَلّ على اسم من أسمائه وصفة من صفاته ، كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه . قال : ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله ، وعلى صفة من صفاته ، وعلى مدة وغير ذلك ، كما ذكره الرّبيع بن أنس عن أبي العالية ؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة ، كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين ، كقوله تعالى : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [ الزخرف : 22 ، 23 ] . وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله ، كقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] وتطلق ويراد بها الجماعة ، كقوله : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] ، وقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا } [ النحل : 36 ] وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] أي : بعد حين على أصح القولين ، قال : فكذلك هذا .
هذا حاصل كلامه موجهًا ، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية ، فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا ، وعلى هذا ، وعلى هذا معًا ، ولفظة الأمة وما أشبهها{[1128]} من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح ، إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام ، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ، ليس هذا{[1129]} موضع البحث فيها ، والله أعلم ؛ ثم إن لفظ الأمة تدل على كل{[1130]} معانيه في سياق الكلام بدلالة الوضع ، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره ، فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف ، والمسألة مختلف فيها ، وليس فيها إجماع حتى يحكم به .
وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة ، فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا ، كما قال الشاعر :
قلنا قفي لنا فقالت قاف *** لا تَحْسَبِي أنا نَسينا الإيجاف{[1131]}
ما للظليم عَالَ كَيْفَ لا يا *** ينقَدُّ عنه جلده إذا يا{[1132]}
قال ابن جرير : كأنه أراد أن يقول : إذا يفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من يفعل ، وقال الآخر :
بالخير خيرات وإن شرًّا فا *** ولا أريد الشر إلا أن تا{[1133]}
يقول : وإن شرًّا فشر ، ولا أريد الشر إلا أن تشاء ، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام ، والله أعلم .
[ قال القرطبي : وفي الحديث : «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة »{[1134]} الحديث . قال شقيق : هو أن يقول في اقتل : اق ]{[1135]} .
وقال خصيف ، عن مجاهد ، أنه قال : فواتح السور كلها " ق وص وحم وطسم والر " وغير ذلك هجاء موضوع . وقال بعض أهل العربية : هي حروف من حروف المعجم ، استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها ، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا ، كما يقول القائل : ابني يكتب في : ا ب ت ث ، أي : في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها . حكاه ابن جرير .
قلت : مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفًا ، وهي : ا ل م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن ، يجمعها قولك : نص حكيم قاطع له سر . وهي نصف الحروف عدداً ، والمذكور منها أشرف من المتروك ، وبيان ذلك من صناعة التصريف .
[ قال الزمخشري : وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ، ومن الرخوة والشديدة ، ومن المطبقة والمفتوحة ، ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة . وقد سردها مفصلة ثم قال : فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ، وهذه الأجناس المعدودة ثلاثون بالمذكورة منها ، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله ]{[1136]} .
ومن هاهنا لحظ{[1137]} بعضهم في هذا المقام كلامًا ، فقال : لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثًا ولا سدى ، ومن قال من الجهلة : إنَّه في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية ، فقد أخطأ خطأ كبيرًا ، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر ، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به ، وإلا وقفنا حيث وقفنا ، وقلنا : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] .
ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين ، وإنما اختلفوا ، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه ، وإلا فالوقف حتى يتبين . هذا مقام .
المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ، ما{[1138]} هي ؟ مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها . فقال بعضهم : إنما ذكرت لنعرف بها أوائل السور . حكاه ابن جرير ، وهذا ضعيف ؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه ، وفيما ذكرت فيه بالبسملة تلاوة وكتابة .
وقال آخرون : بل ابتدئ بها لتُفْتَحَ لاستماعها أسماعُ المشركين - إذ{[1139]} تواصوا بالإعراض عن القرآن - حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلَّف منه . حكاه ابن جرير - أيضًا - ، وهو ضعيف أيضًا ؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا{[1140]} يكون في بعضها ، بل غالبها ليس كذلك ، ولو كان كذلك - أيضًا - لانبغي{[1141]} الابتداء بها في أوائل الكلام معهم ، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك . ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابًا للمشركين ، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه .
وقال آخرون : بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، هذا مع أنه [ تركب ]{[1142]} من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها .
ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته ، وهذا معلوم بالاستقراء ، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ، ولهذا يقول تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 1 ، 2 ] . { الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ آل عمران : 1 - 3 ] . { المص كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } [ الأعراف : 1 ، 2 ] . { الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } [ إبراهيم : 1 ]{ الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ السجدة : 1 ، 2 ] . { حم تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [ فصلت : 1 ، 2 ] . { حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الشورى : 1 - 3 ] ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن{[1143]} النظر ، والله أعلم .
وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد ، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم ، فقد ادعى ما ليس له ، وطار في غير مطاره ، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف ، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته . وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار ، صاحب المغازي ، حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، قال : مر أبو ياسر{[1144]} بن أخطب ، في رجال من يهود ، برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ هدى للمتقين ]{[1145]} } [ البقرة : 1 ، 2 ] فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود ، فقال : تعلمون - والله - لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عليه : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } فقال : أنت سمعته ؟ قال : نعم . قال : فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود{[1146]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقالوا : يا محمد ، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك : { الم ذلك الكتاب لا [ ريب ] }{[1147]} ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بلى » . فقالوا : جاءك{[1148]} بهذا جبريل من عند الله ؟ فقال : «نعم » . قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه{[1149]} بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك . فقام{[1150]} حيي بن أخطب ، وأقبل على من كان معه ، فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين نبي ، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيره ؟ فقال : «نعم » ، قال : ما ذاك ؟ قال : «المص » ، قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد سبعون{[1151]} ، فهذه إحدى وثلاثون{[1152]} ومائة سنة . هل مع هذا يا محمد غيره{[1153]} ؟ قال : «نعم » قال : ما ذاك{[1154]} ؟ قال : " الر " . قال : هذا{[1155]} أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان . فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة . فهل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : «نعم » ، قال : ماذا ؟ قال : «المر » . قال : فهذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتان ، ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا . ثم قال : قوموا عنه . ثم قال أبو ياسر{[1156]} لأخيه حيي بن أخطب ، ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم ؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون{[1157]} ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع سنين{[1158]} . فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ]{[1159]} .
فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي ، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها ، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة ، وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم{[1160]} والله أعلم .
بحول الله تعالى ومعونته هذه السورة مدنية ، نزلت في مدد شتى ، وفيها آخر آية( {[1]} ) نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ] ، ويقال لسورة البقرة : ( فسطاط القرآن ) لعظمها وبهائها ، وما تضمنت من الأحكام والمواعظ .
وتعلمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلوم في ثمانية أعوام( {[2]} ) ، وفيها خمسمائة حكم( {[3]} ) ، وخمسة عشر مثلا ، وروى الحسن ابن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال : ( أي القرآن أفضل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلمن قال : سورة البقرة ) ، ثم قال : ( وأيها أفضل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : آية الكرسي ) ( {[4]} ) ، ويقال : إن آيات الرحمة والرجاء والعذاب تنتهي فيها معانيها إلى ثلاثمائة وستين معنى . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت طه والطواسين( {[5]} ) من ألواح موسى ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش ) ( {[6]} ) .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غيايتان بينهما شرق ، أو غمامتان سودوان ، أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما ) ( {[7]} ) وفي البخاري أنه عليه السلام قال : ( من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) ( {[8]} ) .
وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان ) ( {[9]} ) . وروي عنه عليه السلام أنه قال : ( لكل شيء سنام ، وسنام القرآن سورة البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن ، وهي آية الكرسي ) ( {[10]} ) .
وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية ، وقيل : وست وثمانون آية ، وقيل : وسبع وثمانون .
اختلف في الحروف التي في أوائل السورة على قولين :
قال الشعبي عامر بن شراحيل وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين : «هي سرّ الله في القرآن ، وهي من المتشابه( {[152]} ) الذي انفرد الله بعلمه ، ولا يجب أن يتكلم فيها ، ولكن يؤمن بها وتُمَرُّ كما جاءت » .
وقال الجمهور من العلماء : «بل يجب أن يُتكلم فيها وتُلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها » واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولاً : ( {[153]} )
فقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : «الحروف المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم ، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها » .
وقال ابن عباس أيضاً : «هي أسماء الله أقسم بها » .
وقال زيد بن أسلم : «هي أسماء للسور » .
وقال قتادة : «هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر » .
وقال مجاهد : «هي فواتح للسور » . قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد : «بل » و «لا بل » . نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش .
وقال قوم : «هي حساب أبي جاد لتدل على مدة ملة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حيي بن أخطب( {[154]} ) » وهو قول أبي العالية رفيع وغيره .
وقال قطرب وغيره : «هي إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم ، فقوله { الم } بمنزلة قولك أ ، ب ، ت ، ث ، لتدل بها على التسعة والعشرين حرفاً » .
وقال قوم : «هي أمارة قد كان الله تعالى جعلها لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاباً في أول سور منه حروف مقطعة » .
وقال ابن عباس : «هي حروف تدل على : أنا الله أعلم ، أنا الله أرى ، أنا الله أفصّل »( {[155]} ) .
وقال ابن جبير عن ابن عباس : «هي حروف كل واحد منها إما أن يكون من اسم من أسماء الله ، وإما من نعمة من نعمه ، وإما من اسم ملك من ملائكة ، أو نبي من أنبيائه » .
وقال قوم : «هي تنبيه ك " يا " في النداء » .
وقال قوم : «روي أن المشركين لما أعرضوا( {[156]} ) عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحوا لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة » .
قال القاضي أبو محمد : والصواب ما قاله الجمهور أن تفسر هذه الحروف ويلتمس لها التأويل : لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً لها ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقول الشاعر : [ الواليد بن المغيرة ] [ الرجز ] .
قلنا لها قفي فقالت قاف . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[157]} )
أراد قالت : وقفت . وكقول القائل( {[158]} ) : [ زهير بن أبي سلمى ] [ الرجز ] .
بالخير خيرات وإن شرّاً فا . . . ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد : وإن شرّاً فشر ، وأراد : إلا أن تشاء . والشواهد في هذا كثيرة ، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرْتَ عنها أو عطفْتَها فإنك تُعربها .
وموضع { الم } من الإعراب رفع على أنه خبر ابتداء مضمر ، أو على أنه ابتداء ، أو نصب بإضمار فعل ، أو خفض بالقسم ، وهذا الإعراب( {[159]} ) يتجه الرفع منه في بعض الأقوال المتقدمة في الحروف ، والنصب في بعض ، والخفض في قول ابن عباس رضي الله عنه أنها أسماء لله أقسم بها .