78- إن الموت الذي تَفِرُّون منه ملاقيكم أينما كنتم ، ولو كانت إقامتكم في حصون مشيدة وإن هؤلاء الخائرين لضعف إيمانهم يقولون : إن أصابهم فوز وغنيمة هي من عند الله ، وإن أصابهم جدب أو هزيمة يقولوا لك - يا محمد - هذا من عندك وكان بشُؤْمك . فقل لهم : كل ما يصيبكم مما تحبون أو تكرهون هو من تقدير اللَّه ومن عنده اختبار وابتلاء ، فما لهؤلاء الضعفاء لا يدركون قولاً صحيحاً يتحدث به إليهم .
قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت } أي : ينزل بكم الموت ، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } فرد الله تعالى عليهم بقوله : { أينما تكونوا يدرككم الموت } .
قوله تعالى : { ولو كنتم في بروج مشيدة } ، والبروج : الحصون والقلاع ، والمشيدة : المرفوعة المطولة ، قال قتادة : معناه في قصور محصنة ، وقال عكرمة : مجصصة ، والشيد : الجص .
قوله تعالى : { وإن تصبهم حسنة } ، نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ، ومزارعنا ، منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال الله تعالى : { وإن تصبهم } يعني : اليهود { حسنة } أي خصب ورخص في السعر .
قوله تعالى : { يقولوا هذه من عند الله } ، لنا .
قوله تعالى : { وإن تصبهم سيئة } يعني : الجدب وغلاء الأسعار .
قوله تعالى : { يقولوا هذه من عندك } أي : من شؤم محمد وأصحابه ، وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر ، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ، ( يقولوا هذه من عندك ) أي : أنت الذي حملتنا عليه يا محمد ، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين . قوله تعالى : { قل } لهم يا محمد .
قوله تعالى : { كل من عند الله } . أي : الحسنة والسيئة كلها من عند الله ، ثم عيرهم بالجهل فقال قوله تعالى : { فمال هؤلاء القوم } يعني : المنافقين واليهود قوله تعالى { لا يكادون يفقهون حديثاً } أي : لا يفقهون قولاً ، وقيل : الحديث هاهنا هو القرآن أي : لا يفهمون معاني القرآن . قوله : { فمال هؤلاء } قال الفراء : كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهموا أن اللام متصلة بها ، وأنهما حرف واحد ، ففصلوا اللام مما بعدها في بعضه ، ووصلوها في بعضه ، والاتصال القراءة ، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة .
ثم بين - سبحانه - أنه لا مفر لهم من الموت ، وأنهم مهما فروا منه فإنه سيلقاهم آجلا أو عاجلا فقال - تعالى - : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } .
والبروج : مع برج وهو الحصن المنيع الذى هو نهاية ما يصل إليه البشر فى التحصن والمنعة . وأصل البروج من التبرج بمعنى الظهور . يقال : تبرجت المرأة ، إذا أظهرت محاسنها . والمراد بها الحصون والقلاع الشاهقة المنيعة .
والمشيدة : أى المحكة البناء ، والعظيمة الارتفاع من شاد القصر إذا رفعه ، والمعنى : إنكم أيها الخائفون من القتال إن ظننتم أن هذا الخوف منه أو القعود عنه سينجيكم من الموت ، فأنتم بهذا الظن مخطئون ، لأن الموت حيثما سيدرككم ، ولو كنتم فى أقوى الحصون ، وأمنعها وأحكمها بناء ، وما دام الأمر كذلك فليكن موتكم وأنتم مقبلون بدل أن تموتوا وأنتم مدبرون .
والجملة الكريمة لا محل لها من الإِعراب ، لأنها مسوقة على سبيل الاستئناف لتبكيت هؤلاء الكارهين للقتال ، وتحريض غيرهم من المؤمنين على الإِقدام عليه من أجل نصرة الحق .
ويحتمل أنها فى محل نصب ، فتكون داخلة فى حيز القول المأمور به الرسول صلى الله عليه وسلم أى : قل لهم يا محمد متاع الدنيا قليل . وقل لهم { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } .
وأين : اسم شرط جازم ظرف مكان يجزم فعلين ، و " ما " زائدة للتأكيد ، وتكونوا فعل الشرط ويدرككم جوابه .
والتعبير بقوله { يُدْرِككُّمُ } للإِشعار بأن الموت كأنه كائن حى يطلب الإِنسان ويتبعه حيثما كان ، وفى أى وقت كان ، فهو طالب لابد أن يدرك ما يطلبه ولا بد أن يصل إليه هما تحصن منه ، أو هرب من لقائه .
وجواب ( لو ) محذوف اعتماداً على دلالة ما قبله عليه أى : ولو كنتم فى بروج مشيدة لأدرككم الموت .
وقريب فى المعنى من هذه الآية قوله - تعالى - { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل } وقوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } فالجملة الكريمة صريحة فى بيان أن الموت أمر لا مفر منه ، ولا مهرب عنه سواء أقاتل الإِنسان أم لم يقاتل . وما أحسن قول زهير بن أبى سلمى :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه . . . ولو رام أسباب السماء بسلم
ثم حكى - سبحانه - ما كان يتفوه به المنافقون وإخوانهم فى الكفر من باطل وزور فقال - تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } .
أى : إن هؤلاء المنافقين وأشباههم ، من ضعاف الإِيمان وإخوانهم فى الكفر بلغ بهم الفجور أنهم إذا أصابتهم حال حسنة من نعمة أو رخاء أو خصب أو غنيمة أو ظفر قالوا هذه الحال من عند الله ، وإذا أصابتهم حال سيئة من جدب أو مصيبة أو هزيمة قالوا هذه الحال من عندك يا محمد بسبب شؤمك وسوء قيادتك - وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم - .
وهذا القول منهم قريب من قول قوم فرعون لموسى - عليه السلام - كما حكاه القرآن عنهم فى قوله : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } قال القرطبى : نزلت هذه الآية فى اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا : ما زلنا نعرف النقص فى ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال ابن عباس : ومعنى { مِنْ عِندِكَ } أى : بسوء تدبيرك . وقيل { مِنْ عِندِكَ } أى بشؤمك الذى لحقنا ، قالوه على جهة التطير .
وقوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد على مزاعمهم الباطلة . أى قل لهم يا محمد كل واحدة من النعمة والمصيبة هى من جهة الله - تعالى خلقا وإيجاداً من غير أن يكون لى مدخل فى وقوع شئ منها بوجه من الوجوه كما تزعمون :
وقوله { فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } جملة معترضة مسوقة لتعييرهم بالجهل والغباوة ، والفاء فى قوله { فَمَالِ } لترتيب ما عدها على ما قبلها والمعنى . وإذا كان الأمر كذلك وهو أن كل شئ من عند الله ، فمال هؤلاء القوم من المنافقين وإخوانهم فى الكفر وضعف الإِيمان لا يكادون - لانطماس بصيرتهم - يفقهون ما يلقى عليهم من مواعظ ، ولا يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون ، إذ لو فقهوا شيئا مما يوعظون به لعلموا أن الله هو القابض الباسط ، وأنه المعطى المانع .
قال - تعالى - { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم }
وقوله : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ، ولا ينجو منه أحد منكم ، كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ ]{[7906]} } [ الرحمن : 26 ، 27 ] وقال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] والمقصود : أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء ، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد ، فإن له أجلا محتوما ، وأمدا مقسوما ، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفا ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء{[7907]} .
وقوله : { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : حصينة منيعة عالية رفيعة . وقيل : هي بروج في السماء . قاله السدي ، وهو ضعيف . والصحيح : أنها المنيعة . أي : لا يغني حذر وتحصن من الموت ، كما قال زهير بن أبي سلمى :{[7908]}
وَمَن خَاف أسبابَ المَنيّة يَلْقَهَا*** ولو رَامَ أسبابَ السماء بسُلَّم{[7909]}
ثم قيل : " المشَيَّدَة " هي المَشِيدَة كما قال : " وَقَصْرٍ مَشِيدٍ " [ الحج : 45 ] وقيل : بل بينهما فرق ، وهو أن المُشَيَّدة بالتشديد ، هي : المطولة ، وبالتخفيف هي : المزينة بالشيد وهو الجص .
وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد : أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطَّلْقُ ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار ، فخرج ، فإذا هو برجل واقف على الباب ، فقال : ما ولدت المرأة ؟ فقال : جارية ، فقال : أما إنها ستزني بمائة رجل ، ثم يتزوجها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت . قال : فَكَرَّ راجعا ، فبعج الجارية بسكين في بطنها ، فشقه ، ثم ذهب هاربا ، وظن أنها قد ماتت ، فخاطت أمها بطنها ، فبرئت وشبت وترعرعت ، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها{[7910]} فذهب ذاك [ الأجير ]{[7911]} ما ذهب ، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج ، فقال لعجوز : أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة . فقالت له : ليس هنا أحسن من فلانة . فقال : اخطبيها علي . فذهبت إليها فأجابت ، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدًا ، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه{[7912]} ؟ فأخبرها خبره ، وما كان من أمره في هربه . فقالت : أنا هي . وأرته مكان السكين ، فتحقق ذلك فقال : لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما ، إحداهما : أنك قد زنيت بمائة رجل . فقالت : لقد كان شيء من ذلك ، ولكن لا أدري ما عددهم ؟ فقال : هم مائة . والثانية : أنك تموتين بالعنكبوت . فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ، ليحرزها من ذلك ، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف ، فأراها إياها ، فقالت : أهذه التي تحذرها علي ، والله لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء{[7913]} فوقع بين ظفرها ولحمها ، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها{[7914]} .
ونذكر هاهنا قصة صاحب الحَضْر ، وهو " الساطرون " لما احتال عليه " سابور " حتى حصره فيه ، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين ، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها :
وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دج*** لة تُجْبَى إليه والخابورُ
شاده مَرْمَرا وجلله كلْ***سا فللطير في ذُرَاه وُكُور
لم تَهَبْهُ أيدي المنون فباد ال***مُلْكُ عنه فبابُه مَهْجور
ولما دخل على عثمان جعل يقول : اللهم اجمع أمة محمد ، ثم تمثل بقول الشاعر :
أرى الموتَ لا يُبقي عَزيزا ولم يَدَعْ*** لعاد ملاذَّا في البلاد ومَرْبَعا . . .
يُبَيَّتُ أهلُ الحِصْن والحصنُ مغلقٌ*** ويأتي الجبالَ في شَماريخها معا{[7915]}
وقوله : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } أي : خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو{[7916]} ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك . كما يقوله أبو العالية والسدي . { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك . كما قال تعالى عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] وكما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ]{[7917]} } الآية [ الحج : 11 ] . وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ؛ ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال{[7918]} السدي : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } قال : والحسنة الخصب ، تُنْتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } والسيئة : الجدْب والضرر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } يقولون : بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فقوله { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البَرّ والفاجر ، والمؤمن والكافر .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : الحسنة والسيئة . وكذا قال الحسن البصري .
ثم قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب . وقلة فهم وعلم ، وكثرة جهل وظلم : { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }
ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا السَّكن بن سعيد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن حماد ، عن مقاتل بن حَيَّان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وجلس عمر قريبا من أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم ارتفعت أصواتكما ؟ " فقال رجل : يا رسول الله ، قال أبو بكر : الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما قلت يا عمر ؟ " قال : قلت : الحسنات والسيئات من الله . تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل ، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر ، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال : نختلف فيختلف أهل السماء{[7919]} وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض . فتحاكما إلى إسرافيل ، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله " . ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال " احفظا قضائي بينكما ، لو أراد الله ألا يُعْصَى لم يخلق إبليس " .
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيميّة : هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة{[7920]} .
و { أينما تكونوا يدرككم الموت } جزاء وجوابه ، وهكذا قراءة الجمهور ، وقرأ طلحة بن سليمان «يدركُكُم » بضم الكافين ورفع الفعل ، قال أبو الفتح : ذلك على تقدير دخول الفاء كأنه قال : فيدرككم الموت{[4153]} ، وهي قراءة ضعيفة ، وهذا إخبار من الله يتضمن تحقير الدنيا ، وأنه لا منجى من الفناء والتنقل . واختلف المتأولون في قوله : { في بروج } فالأكثر والأصح أنه أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية ، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة ، فمثل الله لهم بها ، قال قتادة : المعنى في قصور محصنة ، وقاله ابن جريج والجمهور ، وقال السدي : هي بروج في السماء الدنيا مبنية ، وحكى مكي هذا القول عن مالك ، وأنه قال : ألا ترى إلى قوله { والسماء ذات البروج }{[4154]} وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : { في بروج مشيدة } ، معناه في قصور من حديد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يعطيه اللفظ ، وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنة بذكر السماء بروج المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها ، وبرج معناه ظهر ، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة ، ومنه تبرج المرأة ، و { مشيدة } قال الزجّاج وغيره : معناه مرفوعة مطولة ، لأن شاد الرجل البناء إذا صنعه بالشيد وهو الجص إذا رفعه ، وقالت طائفة : { مشيدة } معناه : محسنة بالشيد ، وذلك عندهم أن «شاد الرجل » معناه : جصص بالشيد ، وشيد معناه : كرر ذلك الفعل فهي للمبالغة ، كما تقول : كسرت العود مرة ، وكسرته في مواضع منه كثيرة مراراً ، وخرقت الثوب وخرقته ، إذا كان الخرق منه في مواضع كثيرة ، فعلى هذا يصح أن تقول : شاد الرجل الجدار مرة وشيد الرجل الجدار إذا أردت المبالغة ، لأن التشييد منه وقع في مواضع كثيرة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [ عدي بن زياد العبادي ] : [ الخفيف ]
شَادَهُ مَرْمَراً وَجَلَّلَهُ كِلْ . . . ساً فللطيرِ في ذُراهُ وكورُ{[4155]}
والهاء والميم في قوله : { وإن تصبهم } رد على الذين قيل لهم ، كفوا أيديكم وهذا يدل على أنهم المنافقون ، لأن المؤمنين لا تليق بهم هذه المقالة ، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي عليه السلام تحت أمر ، فتصيبهم بسببه أسواء ، ومعنى الآية ، وإن تصب هؤلاء المنافقين حسنة من هزم عدو أو غنيمة أو غير ذلك رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع الله ، لا أنه ببركة إتباعك والإيمان بك ، { وإن تصبهم سيئة } ، أي هزيمة أو شدة جوع وغير ذلك ، قالوا : هذه بسببك ، لسوء تدبيرك ، كذا قال ابن زيد ، وقيل لشؤمك علينا .
قاله الزجّاج وغيره ، وقوله : { قل كل من عند الله } إعلام من الله تعالى ، أن الخير والشر ، والحسنة والسيئة خلق له ومن عنده ، لا رب غيره ولا خالق ولا مخترع سواه ، فالمعنى : قل يا محمد لهؤلاء : ليس الأمر كما زعمتم من عندي ولا من عند غيري ، بل هو كله من عند الله ، قال قتادة : النعم والمصائب من عند الله ، قال ابن زيد ، النصر والهزيمة ، قال ابن عباس : السيئة والحسنة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله شيء واحد ، ثم وبخهم بالاستفهام عن علة جهلهم ، وقلة فهمهم وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق والفقه في اللغة الفهم ، وأوقفته الشريعة على الفهم في الدين وأموره ، وغلب عليه بعد الاستعمال في علم المسائل الإحكامية ، والبلاغة في الاستفهام عن قلة فقههم بينة ، لأنك إذا استفهمت عن علة أمر ما ، فقد تضمن كلامك إيجاب ذلك الأمر تضمناً لطيفاً بليغاً ، ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله { فما } ووقف الباقون على اللام في قوله : { فمال } ، إتباعا للخط ، ومنعه قوم جملة ، لأنه حرف جر فهي بعض المجرور ، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس ، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا .