حثت هذه السور الكريمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه ، وتعظيمه لله تعالى ، وترك ما لا يصح أن يصدر منه ، وتحدثت عن نفخ الصور وشدة العذاب على الكافرين ، وأمرته صلى الله عليه وسلم أن يترك من جحد فضله عليه ثم يطمع في الزيادة بدون اعتراف ولا شكر ، وبينت كيف كان تفكير ذلك الجاحد وإنكاره للقرآن ، وفصلت كيف يكون عذابه في سقر التي وصفت بما يزعج ويخيف ، وذكرت الأنفس بما تكسب من خير أو شر ، وأخبرت عن حال أصحاب اليمين وتبكيتهم للمجرمين بسؤالهم عما سلكهم في سقر ، وختمت بالحديث عن القرآن بأنه لمن شاء أن يتذكر وأن من يتذكر به هم أهل التقوى وأهل المغفرة .
1 - يا أيها المتدثر بثيابه قم من مضجعك فحذر الناس من عذاب الله إن لم يؤمنوا ، وخُصَّ ربك - وحده - بالتعظيم ، وثيابك فطهرها بالماء من النجاسة .
{ يا أيها المدثر } أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : " سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ؟ قال : { يا أيها المدثر } ، قلت : يقولون : { اقرأ باسم ربك الذي خلق }( العلق - 1 ) ؟ قال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلت له مثل الذي قلت ، فقال جابر : لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري هبطت ، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ، ونظرت من خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني وصبوا علي ماء بارداً ، قال : فدثروني وصبوا علي ماء بارداً ، قال فنزلت : { يا أيها المدثر* قم فأنذر * وربك فكبر } " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، عن عقيل قال ابن شهاب : سمعت أبا سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله قال : " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي ، قال : فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فخشيت منه رعبا حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني فزملوني ، فأنزل الله تعالى :{ يا أيها المدثر * قم فأنذر } إلى قوله : { فاهجر } قال أبو سلمة : والرجز الأوثان ، ثم حمي الوحي وتتابع " .
1- سورة " المدثر " من أوائل السور التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ويغلب على الظن أن نزولها كان بعد نزول صدر سورة " اقرأ " .
ويشهد لذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة –رضي الله عنها- : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الوحي وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال له : [ اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق . ] .
وروى الشيخان –أيضا- وغيرهما ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ؟ فقال : يأيها المدثر . قلت : يقولون : اقرأ باسم ربك . .
فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، فقال : يأيها المدثر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري : هبطت الوادي ، فنوديت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا . . فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرجعت على أهلي فقلت : دثروني ، دثروني ، فنزلت [ يأيها المدثر ، قم فأنذر . ] .
قال الآلوسي ما ملخصه : وظاهر هذا الحديث يقتضي نزول هذه السورة قبل سورة اقرأ ، مع أن المروي في الصحيحين عن عائشة أن سورة " اقرأ " أول ما نزل على الإطلاق ، وهو الذي ذهب إليه أكثر الأمة ، حتى قال بعضهم وهو الصحيح .
وللجمع بين هذين الحديثين وجوه منها : أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة ، بما نزل بعد فترة الوحي ، لا أولية مطلقة كما هو الحال بالنسبة لسورة اقرأ . أو أن السؤال في حديث جابر ، كان عن نزول سورة كاملة ، فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها . أو أن جابرا قد قال ذلك باجتهاده ، ويقدم على هذا الاجتهاد ما ذكرته عائشة من أن أول ما نزل على الإطلاق ، هو صدر سورة اقرأ . . ( {[1]} ) .
أقول : وفي هذا الحديث ما يدل على أن الملك قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل رؤيته في هذه المرة ، وفي غار حراء بدأ الوحي ونزل قول الله تعالى : " اقرأ باسم ربك الذي خلق . . . " وذلك يدل على أن " اقرأ " أول ما نزل على الإطلاق ، وهو ما جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
وعلى أية حال فسورة المدثر تعتبر من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن ، كما يرى ذلك من تدبر آياتها التي تحض الرسول صلى الله عليه وسلم على إنذار الناس بدعوته .
وعدد آياتها : ست وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وخمس وخمسون في البصري .
ومن أهم مقاصدها : تكريم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمره بتبليغ ما أوحاه الله –تعالى- إليه إلى الناس ، وتسليته عما أصابه من أذى ، وتهديد أعدائه بأشد ألوان العقاب ، وبيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، والرد عليهم بما يبطل دعاواهم . .
قد افتتح الله - تعالى - سورة المدثر ، بالملاطفة والمؤانسة فى النداء والخطاب ، كما افتتح سورة المزمل . والمدثر اسم فاعل من تدثر فلان ، إذا لبس الدثار ، وهو ما كان من الثياب فوق الشعار الذى يلى البدن ، ومنه حديث : " الأنصار شعار والناس دثار " .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { ياأيها المدثر } ملاطفة فى الخطاب من الكريم إلى الحبيب ، إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه ، كما تقدم فى سورة المزمل . ومثله قول النبى صلى الله عليه وسلم لِعَلىٍّ إذ نام فى المسجد " قم أبا تراب " .
وكان قد خرج مغاضبا لفاطمة - رضى الله عنها - ، فسقط رداؤه وأصابه التراب . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان ليلة الخندق " قم يا نومان " .
والمراد بالقيام فى قوله - تعالى - : قم فأنذر ، المسارعة والمبادرة والتصميم على تنفيذ ما أمره - سبحانه - به ، والإِنذار هو الإِخبار الذى يصاحبه التخويف .
أى : قم - أيها الرسول الكريم - وانهض من مضجعك ، وبادر بعزيمة وتصميم ، على إنذار الناس وتخويفهم من سوء عاقبتهم ، إذا ما استمروا فى كفرهم ، وبلغ رسالة ربك إليهم دون أن تخشى أحدا منهم ، ومرهم بأن يخلصوا له - تعالى - العبادة والطاعة .
والتعبير بالفاء فى قوله : { فَأَنذِرْ } للإِشعار بوجوب الإِسراع بهذا الإِنذار بدون تردد .
وقال : فأنذر ، دون فبشر ، لأن الإِنذار هو المناسب فى ابتداء تبليغ الناس دعوة الحق حتى يرجعوا عما هم فيه من ضلال .
ومفعول أنذر محذوف . أى : قم فأنذر الناس ، ومرهم بإخلاص العبادة لله .
ثبت في صحيح البخاري [ من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ]{[29456]} عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل من القرآن : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }
وخالفه{[29457]} الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } كما سيأتي [ بيان ]{[29458]} ذلك هناك .
قال البخاري : حدثنا يحيى ، حدثنا وَكِيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ، قال : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } قلت : يقولون : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ؟ فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلتُ له مثل ما قلتَ لي ، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاورت بحرَاء ، فلما قضيت جواري هبطتُ فنُوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا . فرفعت رأسي فرأيت شيئًا ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني . وصبوا علي ماء باردا . قال : فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال : فنزلت { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } {[29459]}
هكذا ساقه من هذا الوجه . وقد رواه مسلم{[29460]} من طريق عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي : " فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قبَلَ السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجَثَثْتُ{[29461]} منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض ، فجئت إلى أهلي ، فقلت : زملوني زملوني . فزملوني ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } إلى : { فَاهْجُرْ } -
قال أبو سلمة : والرجز : الأوثان - ثم حَميَ الوحيُ وتَتَابع " .
هذا لفظ البخاري{[29462]} وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا ، لقوله : " فإذا الملك الذي جاءني{[29463]} بحراء " ، وهو جبريل حين أتاه بقوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثم إنه حصل بعد هذا فترة ، ثم نزل الملك بعد هذا . ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا حجاج ، حدثنا لَيْث ، حدثنا عُقَيل ، عن ابن شهاب{[29464]} قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثم فتر الوحي عني فترة ، فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قِبَل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني [ بحراء الآن ]{[29465]} قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجُثت{[29466]} منه فَرَقًا ، حتى هَوَيت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت لهم : زملوني زملوني . فزملوني ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } ثم حمي الوحي [ بعدُ ]{[29467]} وتتابع " . أخرجاه من حديث الزهري ، به{[29468]} .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثنا الحسن بن بشر{[29469]} البَجَلي ، حدثنا المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن يزيد ، سمعت ابن أبي مُلَيْكة يقول : سمعت ابن عباس يقول : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا . قال : ما تقولون في هذا الرجل ؟ فقال بعضهم : ساحر . وقال بعضهم ليس بساحر . وقال بعضهم : كاهن . وقال بعضهم : ليس بكاهن . وقال بعضهم : شاعر . وقال بعضهم ليس بشاعر . وقال بعضهم : [ بل ]{[29470]} سحر يُؤثر . فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه ، وتَدَثَّر ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } {[29471]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبّكَ فَكَبّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ * وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ } .
يقول جلّ ثناؤه : يا أيّها المُدّثّرُ : يا أيها المتدثر بثيابه عند نومه .
وذُكر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذلك ، وهو متدثر بقطيفة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم يا أيّها المُدّثّرُ قال : كان متدثرا في قطيفة .
وذُكر أن هذه الاَية أوّل شيء نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه قيل له : يا أيّها المُدّثّرُ ، كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث عن فترة الوحي : «بَيْنا أنا أمْشِي سَمِعْت صَوْتا مِنَ السّماءِ فَرَفَعْتُ رأسِي ، فإذَا المَلَك الّذِي جاءَنِي بِحِرَاءَ جالِسٌ على كُرْسِيّ بَينَ السّماءِ والأرْضِ » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقا ، وجِئْتُ أهْلي فَقُلْتُ : زَمّلُونِي زَمّلُوني ، فدَثّرُونِي » فأنزل الله : يا أيّها المُدّثّرُ قُمْ فأنْذِرْ وَرَبّكَ فَكَبّرْ . . . إلى قوله : وَالرّجْزَ فاهْجُرْ قال : ثم تتابع الوحي .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : ثني يحيى بن أبي كثير ، قال : سألت أبا سلمة : أيّ القرآن أُنزل أوّل ، فقال : يا أيّها المُدّثّرُ فقلت : يقولون اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذي خَلَقَ ، فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله : أيّ القرآن أنزل أوّل ؟ فقال : يا أيّها المُدّثّرُ ، فقلت يقولون : اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ فقال : لا أخبرك إلا ما حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «جاورت في حِراء فلما قضيت جواري هبطت ، فاستبطنت الوادي ، فنوديت ، فنظرت عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدّامي ، فلم أر شيئا ، فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض ، فخشيت منه » هكذا قال عثمان بن عمرو ، إنما هو : «فجثثت منه ، ولقيت خديجة ، فقلت : دثروني ، فدثروني ، وصبوا عليّ ماءً ، فأنزل الله عليّ : يا أيّها المُدّثّرُ قُمْ فأنْدِرْ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عليّ بن مبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : سألت أبا سلمة عن أوّل ما نزل من القرآن ، قال : نزلت يا أيّها المُدّثّرُ أوّل قال : قلت : إنهم يقولون اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ، فقال : سألت جابر بن عبد الله ، فقال : لا أحدّثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «جاوَرْتُ بِحِرَاءً فلمّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ ، فَسَمِعْتُ صَوْتا ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِيِني فَلَمْ أرَ شَيْئا ، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أرَ شَيْئا ، فَرَفَعْتُ رأسي فرأيْتُ شَيْئا ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ ، فَقُلْتُ : دَثّرُونِي وَصبّوا عَليّ ماء بارِدا ، فنزلت يا أيّها المُدّثّرُ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة ، فحزن حزنا ، فجعل يعدو إلى شواهق رؤوس الجبال ليتردّي منها ، فكلما أوفي بذروة جبل تبدّى له جبريل عليه السلام فيقول : إنك نبيّ الله ، فيسكن جأشه ، وتسكن نفسه فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدّث عن ذلك ، قال : «بَيْنَما أنا أمْشِي يَوْما إذْ رأيْتُ المَلَكَ الّذِي كان يأتِيني بِحرَاءَ على كُرْسِيّ بَينَ السّماءِ والأرْضِ ، فَجُثِثْتُ مِنْهُ رُعْبا ، فَرَجَعْتُ إلى خَدِيجَةَ فَقُلْتُ : زَمّلُونِي ، فزمّلناه » : أي فدثرناه ، فأنزل الله يا أيّها المُدّثّرُ ، قُمْ فأنْذِرْ ، وَرَبّكَ فَكَبّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال الزهري : فكان أوّل شيء أنزل عليه : اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ . . . حتى بلغ ما لَمْ يَعْلَمْ .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : يا أيّها المُدّثّرُ ، فقال بعضهم : معنى ذلك : يا أيها النائم في ثيابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها المُدّثّرُ قال : يا أيها النائم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها المُدّثّرُ يقول : المتدثر في ثيابه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يا أيها المتدثر النبوّة وأثقالها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : وسُئل داود عن هذه الاَية : يا أيّها المُدّثّرُ فحدثنا عن عكرمة أنه قال : دثّرت هذا الأمر فقم به .
اختلف القراء في { المدثر } على نحو ما ذكرناه في { المزمل } [ المزمل : 1 ] ، وفي حرف أبيّ بن كعب { المدثر } ومعناه المتدثر بثيابه ، و «الدثار » ، ما يتغطى الإنسان به من الثياب ، واختلف الناس لم ناداه ب { المدثر } ، فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال : زملوني زملوني نزلت { يا أيها المدثر }{[11408]} ، وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله . وروي أنه كان يدثر في قطيفة . وقال آخرون : معناه أيها النائم . وقال عكرمة معناه { يا أيها المدثر } للنبوة وأثقالها ، واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو { يا أيها المدثر } الآيات . وقال الزهري والجمهور هو { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] وهذا هو الأصح . وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك{[11409]} .