قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها } ، بالعذاب ، و{ كم } للتكثير ، ورب للتقليل .
قوله تعالى : { فجاءها بأسنا } ، عذابنا .
قوله تعالى : { بياتاً } ، ليلاً .
قوله تعالى : { أو هم قائلون } من القيلولة ، تقديره : فجاءها بأسنا ليلاً وهم نائمون ، أو نهاراً وهم قائلون ، أي نائمون ظهيرة ، والقيلولة استراحة نصف النهار ، وإن لم يكن معها نوم ، ومعنى الآية : إنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له إما ليلاً أو نهاراً . قال الزجاج : ( أو ) لتصريف العذاب ، أي مرة ليلاً ومرة نهاراً ، وقيل : معناه من أهل القرى من أهلكناهم ليلاً ، ومنهم من أهلكناهم نهارا ، أي حكمنا بهلاكها . فإن قيل : ما معنى أهلكناها فجاءها بأسنا ؟ فكيف يكون مجيء البأس بعد الهلاك ؟ قيل : معنى ( أهلكنا ) أي : حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا . وقيل : فجاءها بأسنا هو بيان قوله ( أهلكناها ) مثل قول القائل : أعطيتني فأحسنت إلي ، لا فرق بينه و بين قوله : أحسنت إلي فأعطيتني ، فيكون أحدهما بدلاً من الآخر .
ثم ساق لهم بعد ذلك على سبيل الإنذار والتخويف جانبا من العذاب الذي نزل بمن سبقوهم بسبب ظلمهم وعنادهم فقال - تعالى - :
{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } .
كم هنا خبرية بمعنى كثير . وهى في محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ، و { مِّن قَرْيَةٍ } تمييز .
والقرى تطلق على مكان اجتماع الناس . وبأسنا : أى عذابنا وعقابنا . وبياتا : أى ليلا ومنه البيت لأنه يبات فيه . يقال : بات يبيت بيتا وبياتا . وقائلون من القائلة وهى القيلولة وهى نوم نصف النهار . وقيل : هى الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم . ودعواهم ، أى : دعاؤهم واستغاثتهم بربهم أو قولهم .
والمعنى : وكثيراً من القرى الظالمة أردنا إهلاكها ، فنزل على بعضها عذابنا في وقت نوم أهلها بالليل كما حصل لقوم لوط ، ونزل على بعضها في وقت استراحة أهلها بالنهار كما حصل لقوم شعيب ،
ولأن المحاولة ضخمة . . وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية : تصوراتها وأفكارها ، وقيمها وأخلاقها ، وعاداتها وتقاليدها ، ونظمها ، وأوضاعها ، واجتماعها واقتصادها ، وروابطها بالله ، وبالكون ، وبالناس . .
لأن المحاولة ضخمة على هذا النحو ؛ يمضي السياق فيهز الضمائر هزاً عنيفاً ؛ ويوقظ الأعصاب إيقاظاً شديداً ؛ ويرج الجبلات السادرة في الجاهلية ، المستغرقة في تصوراتها وأوضاعها رجاً ويدفعها دفعاً . . وذلك بأن يعرض عليها مصارع الغابرين من المكذبين في الدنيا ، ومصائرهم كذلك في الآخرة :
( كم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون . فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين . . فلنسألن الذين أرسل إليهم ، ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم ، وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق ، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ) . .
إن مصارع الغابرين خير مذكر ، وخير منذر . . والقرآن يستصحب هذه الحقائق ، فيجعلها مؤثرات موحية ، ومطارق موقظة ، للقلوب البشرية الغافلة .
إنها كثيرة تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها . أهلكت وهي غارة غافلة . في الليل وفي ساعة القيلولة ، حيث يسترخي الناس للنوم ، ويستسلمون للأمن :
( وكم من قرية أهلكناها ، فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) .
وكلتاهما . . البيات والقيلولة . . ساعة غرّة واسترخاء وأمان ! والأخذ فيهما أشد ترويعاً وأعنف وقعا . وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر والتوقي والاحتياط !
{ كم } في موضع رفع بالابتداء والخبر { أهلكناها } ، ويصح أن يكون الخبر في قوله { فجاءها } و { أهلكناها } صفة ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مقدر بعدها تقديره وكم أهلكنا من قرية أهلكناها ، وقدر الفعل بعدها - وهي خبرية - تشبيهاً لها بالاستفهامية في أن لها في كل حال صدر الكلام . وقالت فرقة المراد وكم من أهل قرية ، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقام المضاف ، وقالت فرقة إنما عبر بالقرية لأنها أعظم في العقوبة إذا هلك البشر وقريتهم ، وقد بين في آخر الآية بقوله { أوهم } أن البشر داخلون في الهلاك ، فالآية على هذا التأويل تتضمن هلاك القرية وأهلها جميعاً ، وعلى التأويل الأول تتضمن هلاك الأهل ولا معنى لذكر القرية ، والمراد بالآية التكثير ، وقرأ ابن أبي عبلة : «وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا » . وقوله { فجاءها } يقتضي ظاهره أن المجيء بعد الإهلاك ، ، وذلك مستحيل فلم يبق إلا أن يعدل على ظاهر هذا التعقيب فقيل الفاء قد تجيء بمنزلة الواو ولا تعطى رتبة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وقيل عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك ، قال مكي في المشكل : مثل قوله { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتج به في تأويل من قال الفاء في هذه الآية لتعقيب القول ، وقيل المعنى «أهلكناها » بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك ، وقال الفراء وحكاه الطبري أن الإهلاك هو مجيء البأس ، ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيهما قدم في الرتبة ، وقيل إن الفاء لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس .
و { بياناً } نصب على المصدر في موضع الحال ، و { قائلون } من القائلة ، وإنما خص وقتي الدعة والسكون لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول لما فيه من البغت والفجأة ، و { أو } في هذا الموضع كما تقول : الناس في فلان صنفان حامد أو ذام ، فكأنه قال جاءهم بأسنا فرقتين بائتين أو قائلين ، وهذا هو الذي يسمى اللف ، وهو إجمال في اللفظ يفرقه ذهن المخاطب دون كلفة ، والبأس : العذاب ، وقيل : المراد : أو وهم قائلون ، فكره اجتماع حرفي العطف فحذفت الواو وهذا تكلف لأن معنى اللف باق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.