المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

3- وهؤلاء هم الذين يصدقون - في حزم وإذعان - بما غاب عنهم ، ويعتقدون فيما وراء المحسوس كالملائكة واليوم الآخر ، لأن أساس التدين هو الإيمان بالغيب ، ويؤدون الصلاة مستقيمة بتوجه إلى الله وخشوع حقيقي له ، والذين ينفقون جانبا مما يرزقهم الله به في وجوه الخير والبر .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

قوله تعالى : { الذين يؤمنون } موضع الذين خفض نعتاً للمتقين . يؤمنون : يصدقون ويترك الهمزة أبو عمرو وورش ، والآخرون يهمزونه وكذلك يتركان كل همزة ساكنة هي فاء الفعل نحو يؤمن ومؤمن ، إلا أحرفاً معدودة . وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، قال الله تعالى : " وما أنت بمؤمن لنا " أي بمصدق لنا ، وهو في الشريعة : الاعتقاد بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، فسمي الإقرار والعمل إيماناً ، لوجه من المناسبة ، لأنه من شرائعه : والإسلام : هو الخضوع والانقياد ، فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً ، إذا لم يكن معه تصديق ، قال الله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) وذلك لأن الرجل قد يكون مستسلماً في الظاهر غير مصدق في الباطن ، ويكون مصدقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر . وقد اختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم عنهما حين سأله جبريل عليه السلام ، وهو ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد التوبة الزراد البخاري : أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، ثنا أبو أحمد عيسى ، بن أحمد العسقلاني ، أنا يزيد بن هارون ، أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من تكلم في القدر ، يعني بالبصرة ، معبد الجهني ، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه ما يقول هؤلاء فلقينا عبد الله بن عمر ، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله ، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه ، يزعمون أن لا قدر إنما الأمر أفق قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني براء ، والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره . ثم قال : حدثنا عمر بن الخطاب قال : " بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، ما يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبته تمس ركبته فقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، فقال : صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه . ثم قال : فما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وحده . وملائكته وكتبه ورسله ، وبالبعث بعد الموت والجنة والنار ، وبالقدر خيره وشره فقال : صدقت . ثم قال : فما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك قال : صدقت ثم قال : فأخبرني عن الساعة ؟ فقال : ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل ، قال : صدقت قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر قال : صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمر هل تدري من الرجل ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه " .

قال الفراء : فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الإسلام في هذا الحديث اسماً لما ظهر من الأعمال ، والإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد ، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان ، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام ، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد ، وجماعها الدين ، ولذلك قال : ذاك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ؛ والدليل على أن الأعمال من الإيمان ، ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاة ، ثنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان ، ثنا بشر بن موسى ، ثنا خلف بن الوليد عن جرير الرازي عن سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " .

قيل : الإيمان مأخوذ من الأمان ، فسمي المؤمن مؤمناً لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله ، والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن العباد من عذابه .

قوله تعالى : { بالغيب } . والغيب مصدر وضع موضع الاسم ، فقيل للغائب غيب كما قيل للعادل عدل وللزائر زور ، والغيب ما كان مغيباً عن العيون ، قال ابن عباس : الغيب هاهنا كل ما أمرت بالإيمان به ، فيما غاب عن بصرك مثل الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان ؛ وقيل الغيب هاهنا : هو الله تعالى ، وقيل : القرآن ، وقال الحسن : بالآخرة وقال زر بن حبيش وابن جريح : بالوحي . نظيره أعنده علم الغيب وقال ابن كيسان : بالقدر . وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مسعود ، فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به ، فقال عبد الله : إن أمر محمد كان بيناً لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ آلم ذلك الكتاب إلى قوله المفلحون . قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ، وورش يؤمنون بترك الهمزة ، وكذلك أبو جعفر بترك كل همزة ساكنة ، إلا في أنبئهم ونبئهم ونبئنا ويترك أبو عمرو كلها إلا أن تكون علامة للجزم ، نحو نبئهم وأنبئهم وتسؤهم وتسؤكم وإن نشأ وننسأها ونحوها . أو يكون خروجاً من لغة إلى أخرى ، نحو مؤصدة ورئياً ويترك ورش كل همزة ساكنة كانت فاء الفعل ، إلا تؤوي وتؤويه ولا يترك من عين الفعل إلا الرؤيا وبابه ، إلا ما كان على وزن فعل .

قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها ، وأركانها وهيئاتها ، يقال : قام بالأمر ، وأقام الأمر ، إذا أتى به معطيا حقوقه ، أو المراد بها الصلوات الخمس ، ذكر بلفظ الواحد ، كقوله تعالى : ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ) يعني الكتب .

والصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : ( فصل عليهم ) أي ادع لهم ، وفي الشريعة اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء وثناء . وقيل في قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) الآية إن الصلاة من الله في هذه الآية الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن المؤمنين : الدعاء .

قوله تعالى : { ومما رزقناهم } أي أعطيناهم والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد ، وأصله في اللغة الحظ والنصيب .

{ ينفقون } يتصدقون ، قال قتادة : ينفقون في سبيل الله وطاعته . وأصل الإنفاق : الإخراج عن اليد والملك ، ومنه نفاق السوق ، لأنه تخرج فيه السلعة عن اليد ، ومنه : نفقت الدابة إذا أخرجت روحها . فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين ، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة ، فقال : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } أي : يصدقون بما غاب عن حواسهم ، كالصانع وصفاته ، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب .

والإيمان لغة التصديق والإذعان ، وهو إفعال من الأمن . وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . . . الخ ، وعدى { يُؤْمِنُونَ } بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف .

والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة . ومعناه : ما لا تدركه الحواس ، ولا يعلم ببداهة العقل . قال بعض العلماء : وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان ، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوى ، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة ، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر ، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة ، كما هو حال الماديين الذين يقولون : " ما يهلكنا إلا الدهر :

والإيمان بالغيب : يستلزم التصديق به على وجه الجزم ، وهو لا يحصل إلا عن دليل .

ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل ، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة ، والرسل الذين أرسلوا من قبل ، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب ، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول ، وسلامة القلوب ، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها ، وتقشعت عنها غشاواتها ، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً ، جعلها تسير بنظام محكم ، فهذه كواكب تظهر وتغيب ، وسماء مرفوعة بغير عمد ، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب . . . { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر ، وحكيم قدير ، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم .

والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوى ويعظم كلما قوى الإيمان في القلوب ، واستولى الصفاء على النفوس ، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة ، منها ما جاء عن خالد بن دريك ، عن ابن محيريز قال : قلت لابن جمعة : حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم أحدثك حديثاً . تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال : " يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك .

قال : نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " . قال ابن كثير : فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً .

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت ، فتحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أولئك قوم آمنوا بالغيب " تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب ، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَيُقِيمُونَ الصلاة } . الصلاة في اللغة الدعاء ، من صلى يصلى إذا دعا ، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء ، والإقامة في الأصل : الدوام والثبات ، من قولك : قام الحق أي : ظهر وثبت . ومعنى { وَيُقِيمُونَ الصلاة } : يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها ، مع تعديل أركانها ، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها ، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها الإخلاص ، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود ، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس ، وعفافها ، وتركها لكل الشرور والآثام ، كما قال - تعالى - { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب ، واعتداداً بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح .

وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق ، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات ، ولأنها صلة بين العبد وربه ، والإنفاق صلته بالناس ، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة . أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . أي : ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير ، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين .

والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً ، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق . والإنفاق : إخراج المال وإنفاده وصرفه ، يقال : نفق - كفرح ونصر - نفد وفني أو قلّ . وأنفق ماله أنفده ، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق فلان ، والنافقاء ، والنفق . وقال " ينفقون " ولم يقل أنفقوا ، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر . ولم يحدد وجوه الإنفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان .

وإيراد " من " في قوله تعالى - { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين ، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين ، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس .

هذا ، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير ، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً في عشرات الآيات ، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير ، لا بد أن تعز كلمتها ، وتسلم من كوارث شتى ، كالجهل ، والفقر ، والمرض .

فببذل المال تسد حاجات البؤساء ، وتشاد معاهد التعليم ، وتقام وسائل حفظ الصحة ، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء . قال تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

1

ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين ؛ وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين :

( الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون ) . .

إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة . الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب ، والقيام بالفرائض ، والإيمان بالرسل كافة ، واليقين بعد ذلك بالآخرة . . هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية ، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة ، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا ، ولتهيمن على البشرية جميعا ، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة ، شاملة للشعور والعمل ، والإيمان والنظام .

فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها ، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا . .

( الذين يؤمنون بالغيب ) . . فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها ، وصدر عنها هذا الوجود ؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات .

والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان ، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول .

وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له ، وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه . إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان ، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض ، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة ، تنظر فيها ، وتتعمقها وتتقصاها ، وتعمل وتنتج ، وتنمي هذه الحياة وتجملها ، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود ، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول . فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها ، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة ، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول . . فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا ، ومحاولة عابثة أخيرا . فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال . وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال . . ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى ، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق ، لزمه - احتراما لمنطقه ذاته - أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل ؛ وإن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون ؛ وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل ؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن ، والغيب والشهادة . . وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون ، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين .

لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان ، كجماعة الماديين في كل زمان ، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري . . إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا " تقدمية " وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها ، فجعل صفتهم المميزة ، صفة : ( الذين يؤمنون بالغيب ) والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين !

( ويقيمون الصلاة ) . . فيتجهون بالعبادة لله وحده ، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد ، وعبادة الأشياء . يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا للعبيد ؛ والقلب الذي يسجد لله حقا ، ويتصل به على مدار الليل والنهار ، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود ، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض ، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق . . وهذا كله مصدر قوة للضمير ، كما أنه مصدر تحرج وتقوى ، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية ، وجعلها ربانية التصور ، ربانية الشعور ، ربانية السلوك .

( ومما رزقناهم ينفقون ) . . فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم ، لا من خلق أنفسهم ؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق ، والتضامن بين عيال الخالق ، والشعور بالآصرة الإنسانية ، وبالأخوة البشرية . . وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح ، وتزكيتها بالبر . وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن ، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر ، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس ، لا بين أظفار ومخالب ونيوب !

والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة ، وسائر ما ينفق في وجوه البر . وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة ، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه . وقد ورد في حديث رسول الله [ ص ] بإسناده لفاطمة بنت قيس " إن في المال حقا سوى الزكاة " . . وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

{ الذين يؤمنون بالغيب } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك مالا ينبغي مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية ، والتصوير على التصقيل أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة ، فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالبا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } . وقوله عليه الصلاة والسلام : " الصلاة عماد الدين ، والزكاة قنطرة الإسلام " . أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين . وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى . أو على أنه مدح منصوب ، أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين . وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى ، فيكون الوقف على المتقين تاما . والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن ، كأن المصدق أمن من المصدق التكذيب والمخالفة ، وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشيء صار ذا أمن منه ، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب .

وأما في الشرع : فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، ومجموع ثلاثة أمور : اعتقاد الحق ، والإقرار به ، والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج . فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرار فكافر ، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة ، والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } ، { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، { ولم تؤمن قلوبهم } ، { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ، وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ، { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية ، إذ المعدى بالباء هو التصديق وفاقا . ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه ، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر ، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه . والغيب مصدر ، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيبا ، أو فيعل خفف كقيل ، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل ، وهو قسمان : قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } وقسم نصب موقع عليه دليل : كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية ، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به . وإن جعلته حالا على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء . والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا { لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } . أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ هذه الآية . وقيل المراد بالغيب : القلب لأنه مستور ، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . فالباء عل الأول للتعدية وعلى الثاني للمصاحبة . وعلى الثالث للآلة . { ويقيمون الصلاة } أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها ، من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة قال :

أقامت غزالة سوق الضراب *** لأهل العراقين حولا قميطا

فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه ، وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه ، أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد ، وضده قعد عن الأمر ، وتقاعد . أو يؤدونها .

عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام ، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح . والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب وأفيد ، لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن ، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى ، لا { المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون } ، ولذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة ، وفي معرض الذم فويل للمصلين ، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى ، كتبتا بالواو على لفظ المفخم ، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء .

وقيل : أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده ، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه ، وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد . { ومما رزقناهم ينفقون } الرزق في اللغة : الحظ قال تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } . والعرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه .

وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا الحرام ليس برزق ، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال المطلق . فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح ، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق ، والذم لتحريم ما لم يحرم . واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة . وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن قرة : " لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " . وبأنه لو لم يكن رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا ، وليس كذلك لقوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } .

وأنفق الشيء وأنفده أخوان ، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالا على معنى الذهاب والخروج ، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل . ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه ، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها . وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي ، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه . ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " إن علما لا يقال به ، ككنز لا ينفق منه " . وإليه ذهب من قال ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 )

{ يؤمنون } معناه يصدقون ويتعدى بالباء ، وقد يتعدى باللام كما قال تعالى : { ولاتؤمنوا إلا لمن تبع دينكم }( {[14]} ) [ آل عمران : 73 ] وكما قال : { فما آمن لموسى }( {[15]} ) [ يونس : 83 ] وبين التعديتين فرق ، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعدٍّ بالباء يفهم من المعنى( {[16]} ) . واختلف القراء في همز { يؤمنون } فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون «يؤمنون » وما أشبهه ، مثل يأكلون ، ويأمرون ، ويؤتون ؛ وكذلك مع تحرك الهمزة مثل «يؤخركم » و «يؤوده » إلا أن حمزة كان يستحب ترك الهمز إذا وقف ، والباقون يقفون بالهمز .

وروى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك . وقد روي عن عاصم أنه لم يكن يهمز الساكنة .

وكان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة ، إلا أنه يهمز حروفاً من السواكن بأعيانها ستذكر في مواضعها إن شاء الله . وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل { ننسأها } [ البقرة : 105 ] { وهيىء لنا } [ الكهف : 8 ] وما أشبهه .

وقوله : { بالغيب } قالت طائفة : معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا ، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا . وقال آخرون : معناه يصدقون( {[17]} ) بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع .

واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك ، فقالت فرقة : «الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل » وقال آخرون : «القضاء والقدر » وقال آخرون : «القرآن وما فيه من الغيوب » وقال آخرون : «الحشر والصراط والميزان والجنة والنار » .

قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال لا تتعارض ، بل يقع الغيب على جميعها( {[18]} ) . والغيب في اللغة : ما غاب عنك من أمر ، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله .

وقوله : { يقيمون } معناه يظهرونها ويثبتونها( {[19]} ) ، كما يقال : أقيمت السوق ، وهذا تشبيه بالقيام من حالة خفاء ، قعود أو غيره ، ومنه قول الشاعر( {[20]} ) : [ الكامل ] .

وإذا يقال أتيتُم يبرحوا . . . حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعان

ومنه قول الشاعر( {[21]} ) : [ المتقارب ]

أقمنا لأهل العراقين سوق الطِّ . . . طِعان فخاسوا وولّوا جميعا

وأصل { يقيمون } يقومون ، نقلت حركة الواو إلى القاف فانقلبت ياء لكون الكسرة قبلها . و { الصلاة } مأخوذة من صلى يصلي( {[22]} ) إذا دعا ، كما قال الشاعر( {[23]} ) : [ البسيط ]

عليكِ مثل الذي صلّيت فاغتمضي . . . يوماً فإنَّ لجنب المرءِ مُضْطَجعا

ومنه قول الآخر( {[24]} ) : [ الطويل ]

لها حارس لا يبرح الدهرَ بيتها . . . وإنْ ذبحت صلّى عليها وزمزما

فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء انضاف إليه هيئات وقراءة سمي جميع ذلك باسم الدعاء . وقال قوم : هي مأخوذة من الصَّلاَ وهو عِرْق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه ، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل ، لأنه يأتي مع صَلَوي السابق ، فاشتقّت الصلاة منه ، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلِّي من الخيل ، وإما لأن الراكع والساجد صَلَواه( {[25]} ) .

قال القاضي أبو محمد : والقول إنها من الدعاء أحسن .

وقوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } كتبت «مما » متصلة «وما » بمعنى «الذي » فحقّها أن تكون منفصلة ، إلا أن الجار والمجرور كشيء واحد ، وأيضاً فلما خفيت نون «من » في اللفظ حذفت في الخط . والرزق عند أهل السنة . ما صح الانتفاع به حلالاً كان أو حراماً ، بخلاف قول المعتزلة إن الحرام ليس برزق( {[26]} ) . و { ينفقون } معناه هنا يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وما ندبهم إليه من غير ذلك .

قال ابن عباس : { ينفقون } يؤتون الزكاة احتساباً لها .

قال غيره : الآية في النفقة في الجهاد .

قال الضحاك : هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يُسْرهم .

قال ابن مسعود وابن عباس أيضاً : هي نفقة الرجل على أهله .

قال القاضي أبو محمد : والآية تعمّ الجميع . وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف( {[27]} ) .

/خ4


[14]:- أي لأن الدليل الذي استدل به لا يشهد له، كما قال المؤلف بعد: «وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه». إلخ.
[15]:- هو إبراهيم بن أبي عبلة، بن يقظان، بن المرتحل، أبو إسماعيل المقدسي، تابعي، له حروف في القراءات، واختيار خالف فيه العامة، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، قال: قرأت القرآن عليه سبع مرات، ويقال: إنه قرأ على الزهري، وروى عنه وعن أبي أمامة، وروى عنه مالك بن أنس، وابن المبارك. توفي سنة 153هـ.
[16]:- جاء في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الجزء الثالث صفحة166 ما نصه: وقال الوزيري: وأعلم أنـني سأصير مـيتا *** إذا سار النواعج لا أسير وقال السائلون: من المُسَجَّى؟ *** فقال المخبرون لهم: وزير والمسجى الملتف في أكفانه، والنواعج الإبل السراع، جمع ناعجة، والبيتان في (الجامع لأحكام القرآن)1/118 بلفظ (القائلون)، بدلا من (المخبرون).
[17]:- قال في القاموس: كان غاوي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم، فبينما هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه، فقال البيت، ثم قال: يا معشر سليم، لا والله لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وبان من هذا أن قائل البيت بن عبد العزى، وأن كلمة (الثعلبان) هي تثنية (ثعلب) وفي حياة الحيوان للدميري إثبات أنه ليس بتثنية، وإنما هو ذكر الثعالب فتكون بضم الثاء واللام.
[18]:- الخبت: المطمئن من الأرض فيه رمل،والخبت والعرعر هنا مكانان معينان.
[19]:- بعده: و كنت امرءا لا أمدح الدهر سوقة فلست على خير أتاك بحاسد امتن عليه بمدحه، وجعله خيرا سيق إليه لا يحسده عليه، وهذا مما أخذ عليه والخَبَبُ ضرب من السير.
[20]:- هو الفرزدق – من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، وهو في البيت يذم قوما، ويشبههم ببدوية حمقاء، وضعت سمنها في زق غير صالح ففسد. وسلأت: معناها طبخت، يقال: سلأت السمن واستلأته، وذلك إذا طبخ وعولج. وحقنت معناه: صبت: من حقن اللبن في السقاء يحقنه حقنا: صبه فيه ليخرج زبده "والسلاء بالكسر ممدود": هو السمن.
[21]:- لما بلغ خبر هزيمة حنين إلى مكة سر بذلك قوم، وأظهروا الشماتة، وقال قائل منهم: ترجع العرب إلى دين آبائها. وقال آخر وهو أخ صفوان لأمه: «ألا قد بطل السحر اليوم»، فقال له صفوان وهو يومئذ مشرك: «اسكت، فض الله فاك، والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوزان». انظر السيرة الحلبية.
[22]:- بنو عمه "بنو أمية"، وغيرهم هم "بنو أسد"، فبنو أمية أقرب إلى ابن عباس نسبا من بني أسد، وإنما قال هذا لما كان بينه وبين ابن الزبير من سوء التفاهم.
[23]:- قائله علقمة بن عبدة، ويعني بقوله أفضت إليك، وصلت إليك ربابتي بكسر الراء، فصرت أنت الذي ترب أمري وتصلحه، لما خرجت من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك، فضيعوا أمري، وهم الربوب جمع رب، وفي رواية: "ومن قبل" وستأتي عند المؤلف، وفي اللسان: ربه يربه ربا: ملكه.
[24]:- فكل قرن وجيل منها يسمى عالما أيضا، ومن ثم حسن جميع الأجيال والقرون من كل شيء في العالمين.
[25]:- (مالك) اسم فاعل، و(ملك) صفة مشبهة أو مخفف من (مالك). و(مالك يوم الدين) هو للاستمرار الثبوتي، كما أن قوله تعالى (وجاعل الليل سكنا) هو للاستمرار التجددي، فالاستمرار عندهم قسمان تجددي وثبوتي.
[26]:- معاذ بن جبل بن عمرو، أحد الذين حفظوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (18)هـ. وطلحة بن عبيد الله بن عثمان، أسلم على يد أبي بكر، وكان واحدا من الستة أصحاب الشورى، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في غزوة أحد. وقد قتله مروان بن الحكم سنة (36)هـ. والزبير بن العوام –أحد المبشرين بالجنة، وابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، قتله عمرو بن جرموز غدرا سنة (36)هـ.
[27]:- هو عبد الوارث بن سعيد. أبو عبيدة العنبري مولاهم البصري المتوفي سنة 180هـ، قرأ القرآن وجوده على أبي عمرو بن العلاء.