{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } يعني أن لهم أجساماً ومناظر ، { وإن يقولوا تسمع لقولهم } فتحسب أنه صدق ، قال عبد الله بن عباس : كان عبد الله بن أبي جسيماً فصيحاً طلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله . { كأنهم خشب مسندة } أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام . قرأ أبو عمرو والكسائي : خشب بسكون الشين ، وقرأ الباقون بضمها . { مسندة } ممالة إلى جدار ، من قولهم : أسندت الشيء ، إذا أملته ، والثقيل للتكثير ، وأراد أنها ليست بأشجار تثمر ، ولكنها خشب مسندة إلى حائط ، { يحسبون كل صيحة عليهم } أي لا يسمعون صوتاً بأن نادى مناد أو انفلتت دابة وأنشدت ضالة ، إلا ظنوا -من جبنهم وسوء ظنهم- أنهم يرادون بذلك ، أنهم قد أتوا ، لما في قلوبهم من الرعب . وقيل : ذلك لكونهم على وجل من أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك أستارهم ويبيح دماءهم ثم قال : { هم العدو } وهذا ابتداء وخبره ، { فاحذرهم } ولا تأمنهم ، { قاتلهم الله } لعنهم الله { أنى يؤفكون } يصرفون عن الحق .
ثم رسم - سبحانه - لهم بعد ذلك صورة تجعل كل عاقل يستهزىء بهم ، ويحتقرهم ، ويسمو بنفسه عن الاقتراب منهم . فقال - تعالى - : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } .
قال القرطبى : قال ابن عباس : كان عبد الله بن أبى ، وسيما جسيما صحيحا صبيحا ، ذلق اللسان ، فإذا قال : سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - مقالته .
وقال الكلبى : المراد انب أبى ، وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر ، وفصاحة . . .
و { خُشُبٌ } - بضم الخاء والشين - جمع خَشَبة - بفتحهما - كثَمرة وثُمر .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائى : كأنهم خُشْب - بضم الخاء وسكون الشين - كبَدَنة وبُدْن .
أى : وإذا رأيت - أيها الرسول الكريم - هؤلاء المنافقين ، أعجبتك أجسامهم ، لكمالها وحسن تناسقها ، وإن يقولوا قولا حسبت أنه صدق ، لفصاحته ، وأحببت الاستماع إليه لحلاوته .
وعدى الفعل " تسمع " باللام ، لتضمنه معنى تصغ لقولهم .
وجملة : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } مستأنفة ، أو خبر لمبتدأ محذوف .
أى : كأنهم وهم جالسون فى مجلسك ، مستندين على الجدران ، وقد خلت قلوبهم من الخير والإيمان ، كأنهم بهذه الحالة ، مجموعة من الأخشاب الطويلة العريضة ، التى استندت إلى الحوائط ، دون أن يكون فيها حسن ، أو نفع ، أو عقل .
فهم أجسام تعجب ، وأقوال تغرى بالسماع إليها ، ولكنهم قد خلت قلوبهم من كل خير ، وامتلأت نفوسهم بكل الصفات الذميمة . فهم كما قال القائل :
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ . . . جسم البغال وأحلام العصافير
وشبههم - سبحانه - بالخشب المسندة على سبيل الذم لهم ، أى : كأنهم فى عدم الانتفاع بهم ، وخلوهم من الفائدة كالأخشاب المسندة إلى الحوائط الخالية من أية فائدة .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : فإن قلت : ما معنى { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } ؟
قلت : شبهوا فى استنادهم - وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحوائط لأن الخشب إذا انتفع به ، كان فى سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به ، وأسند إلى الحائط ، فشبهوا به فى عدم الانتفاع .
ويجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب ، المسندة إلى الحيطان ، وشبهوا بها فى حسن صورهم ، وقلة جدواهم ، والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يخاطب . .
فأنت ترى القرآن الكريم وصفهم بتلك الصفة البديعة فى التنفير منهم وعدم الاغترار بمظهرهم لأنهم كما قال القائل :
لا تخدعنك اللحى ولا الصور . . . تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشرا . . . وليس فيه لطالب مطر
فى شجر السرو منهم شبه . . . له رواء وماله ثمر
ثم وصفهم - سبحانه - بعد ذلك بالجبن والخور فقال : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ . . } .
والصيحة : المرة من الصياح ، والمراد بها ما ينذر ويخيف أى : يظنون لجبن قلوبهم ولسوء نواياهم ، وخبث نفوسهم - أن كل صوت ينادى به المنادى ، لنشدان ضالة ، أو انفلات دابة . . . إنما هو واقع عليهم ضار بهم مهلك لهم . . .
قال الآلوسى : قوله : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أى : واقعة عليهم ، ضارة لهم ، لجبنهم وهلعهم .
وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله - تعالى - فيهم ما يهتك أستارهم ، ويبيح دماءهم وأموالهم .
والوقف على " عليهم " الواقع مفعولا ثانيا ل " يحسبون " وهو وقف تام .
وقوله - تعالى - : { هُمُ العدو } استئناف . أى : هم الكاملون فى العداوة ، والراسخون فيها ، فإن أعدى الأعداء ، العدو المداجى .
{ فاحذرهم } لكونهم أعدى الأعداء ، ولا تغترن بظواهرهم .
وقوله - سبحانه - : { قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ } دعاء عليهم بالطرد من رحمة الله - تعالى - ، وتعجيب لكل مخاطب من أحوالهم التى بلغت النهاية فى السوء والقبح .
عن ابن عباس أن معنى { قَاتَلَهُمُ الله } طردهم من رحمته ولعنهم ، وكل شىء فى القرآن قتل فهو لعن .
و { أَنَّى } بمعنى كيف ، و { يُؤْفَكُونَ } بمعنى يصرفون ، من الأفك - بفتح الهمزة والفاء - بمعنى الانصراف عن الشىء .
أى : لعن الله - تعالى - هؤلاء المنافقين ، وطردهم من رحمته ، لأنهم بسبب مساكلهم الخبيثة ، وأفعالهم القبيحة ، وصفاتهم السيئة . . صاروا محل مقت العقلاء ، وعجبهم ، إذ كيف ينصرفون عن الحق الواضح إلى الباطل الفاضح ، وكيف يتركون النور الساطع ، ويدخلون فى الظلام الدامس ؟ !
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة : قد فضحت المنافقين ، وحذرت من شرورهم ، ووصفتهم بالصفات التى تخزيهم ، وتكشف عن دخائلهم المريضة .
ثم يرسم لهم السياق صورة فريدة مبدعة ؛ تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف الممسوخ المطموس من الناس ، وتسمهم بالفراغ والخواء والانطماس والجبن والفزع والحقد والكنود . بل تنصبهم تمثالا وهدفا للسخرية في معرض الوجود :
( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم . وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة . يحسبون كل صيحة عليهم . هم العدو فاحذرهم . قاتلهم الله ! أنى يؤفكون ? ) . .
فهم أجسام تعجب . لا أناسي تتجاوب ! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون . . فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة . . ( تسمع لقولهم كأنهم خشب ) . . ولكنها ليست خشبا فحسب . إنما هي ( خشب مسندة ) . . لا حركة لها ، ملطوعة بجانب الجدار !
هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح ! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم :
فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء . وهم يخشون في كل لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف . والتعبير يرسمهم أبدا متلفتين حواليهم ؛ يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف ، يحسبونه يطلبهم ، وقد عرف حقيقة أمرهم ! !
وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان . . إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال !
وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وللمسلمين :
هم العدو الحقيقي . العدو الكامن داخل المعسكر ، المختبئ في الصف . وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح . ( فاحذرهم ) . . ولكن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يؤمر هنا بقتلهم ، فأخذهم بخطة أخرى فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم - كما سيجيء نموذج من هذه المعاملة بعد قليل - . .
( قاتلهم الله أنى يؤفكون ) . .
فالله مقاتلهم حيثما صرفوا وأنى توجهوا . والدعاء من الله حكم بمدلول هذا الدعاء ، وقضاء نافذ لا راد له ولا معقب عليه . . وهذا هو الذي كان في نهاية المطاف .
{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي : كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة ، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم{[28871]} لبلاغتهم ، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخَور والهلع والجزع والجبن ؛ ولهذا قال : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي : كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف ، يعتقدون ، لجبنهم ، أنه نازل بهم ، كما قال تعالى : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [ الأحزاب : 19 ] فهم جَهَامات وصور بلا معاني . ولهذا قال : { هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يُصرَفون عن الهدى إلى الضلال .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا عبد الملك بن قُدَامة الجُمَحي ، عن إسحاق بن بكر{[28872]} بن أبي الفرات ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري . عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة ، وطعامهم نُهبَة ، وغنيمتهم غلول ، ولا يقربون المساجد إلا هُجْرا ولا يأتون الصلاة إلا دُبْرا ، مستكبرين لا يألَفون ولا يُؤلَفون ، خُشُبٌ بالليل ، صُخُب بالنهار " . وقال يزيد مَرةً : سُخُبٌ بالنهار{[28873]}
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم لضخامتها وصباحتها وإن يقولوا تسمع لقولهم لذلاقتهم وحلاوة كلامهم وكان ابن أبي جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع مثله فيعجب بهيكلهم ويصغي إلى كلامهم كأنهم خشب مسندة حال من الضمير المجرور في قولهم أي تسمع لما يقولونه مشبهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن العلم والنظر وقيل ال خشب جمع خشباء وهي الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في حسن المنظر وقبح المخبر وقرأ أبو عمرو الكسائي وقنبل عن ابن كثير بسكون الشين على التخفيف أو على أنه كبدن في جمع بدنة يحسبون كل صيحة عليهم أي واقعة عليهم لجبنهم واتهامهم ف عليهم ثاني مفعولي يحسبون ويجوز أن يكون صلته والمفعول هم العدو وعلى هذا يكون الضمير للكل وجمعه بالنظر إلى الخبر لكن ترتب قوله فاحذرهم عليه يدل على أن الضمير للمنافقين قاتلهم الله دعاء عليهم وهو طلب من ذاته أن يلعنهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك أنى يؤفكون كيف يصرفون عن الحق .
وقوله تعالى : { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، وإن يقولوا تسمع لقولهم } توبيخ لهم لأنهم كانوا رجالاً أجمل شيء وأفصحه ، فكان نظرهم يروق وقولهم يخيب ، ولكن الله تعالى جعلهم «كالخشب المسندة » ، وإنما هي أجرام لا عقول لها ، معتمدة على غيرها ، لا تثبت بأنفسها ، ومنه قولهم : تساند القوم إذا اصطفوا وتقابلوا للقتال ، وقد يحتمل أن يشبه اصطفافهم في الأندية باصطفاف الخشب المسندة وخلوهم من الأفهام النافعة خلو الخشب من ذلك ، وقال رجل لابن سيرين : رأيتني في النوم محتضناً خشبة ، فقال ابن سيرين : أظنك من أهل هذه الآية وتلا : { كأنهم خشب مسندة } . وقرأ عكرمة وعطية : «يُسمع » مضمومة بالياء ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وعاصم : «خُشُب » بضم الخاء والشين ، وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي : «خُشْب » بضم الخاء وإسكان الشين وهي قراءة البراء بن عازب واختيار ابن عبيد .
وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب : «خَشَب » بفتح الخاء والشين ، وذلك كله جمع خشبة بفتح الخاء والشين ، فالقراءتان أولاً كما تقول : بُدْنة وبَدْن وبُدْن : قاله سيبويه ، والأخيرة على الباب في تمرة وتمر .
وكان عبد الله بن أبي من أبهى المنافقين وأطولهم ، ويدل على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه ، وقد تقدم في سورة البقرة تحرير أمر المنافقين وكيف سترهم الإسلام .
وقوله تعالى : { يحسبون كل صيحة عليهم } ، فضح أيضاً لما كانوا يسرونه من الخوف ، وذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بقتلهم ، وقال مقاتل : فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان أو أخبروا بنزول وحي طارت عقولهم حتى يسكن ذلك . ويكون في غير شأنهم ، وجرى هذا اللفظ مثلاً في الخائف ، ونحو قول الشاعر [ بشار بن برد العقيلي ] : [ الوافر ]
يروّعه السرار بكل أرض . . . مخافة أن يكون به السرار{[11108]}
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم . . . خيلاً تكر عليهمُ ورجالا{[11109]}
ثم أخبر تعالى بأنهم { العدو } وحذر منهم ، و { العدو } يقع للواحد والجمع ، وقوله تعالى : { قاتلهم الله } دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة ، وتمني الشر لهم ، وقوله تعالى : { أنى يؤفكون } معناه : كيف يصرفون ، ويحتمل أن يكون { أنى } استفهاماً ، كأنه قال كيف يصرفون أو لأي سبب لا يرون أنفسهم ، ويحتمل أن يكون : { أنى } ظرفاً ل { قاتلهم } كأنه قال { قاتلهم الله } ، كيف انصرفوا أو صرفوا ، فلا يكون في القول استفهام على هذا .