فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (4)

{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } أي هيئاتهم ومناظرهم ، يعني أن لهم أجساما يعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق ، قال ابن عباس : كان ابن أبيّ جسيما صحيحا فصيحا ذلق اللسان ، وكان قوم من المنافقين مثله وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، ويستندون فيه إلى الجدر وكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم .

{ وإن يقولوا } أي يتكلموا في مجلسك { تسمع لقولهم } أي تستمع وتصغي وتميل ، فلذلك عُدي باللام ، والمعنى لتحسب أن قولهم حق وصدق لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم ، قال الكلبي : المراد عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومتعب بن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لكل من يصلح له ، ويدل عليه قراءة يسمع على البناء للمفعول .

وجملة { كأنهم خشب مسندة } خبر مبتدأ مضمر ، أي هم كأنهم ، أو مستأنفة لتقرير ما تقدم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر ، قالها الزمخشري أو في محل نصب على الحال ، وصاحب الحال الضمير في قلوبهم ، قاله أبو البقاء شبهوا في جلوسهم في مجالس النبي صلى الله عليه و سلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط ، التي لا تفهم ولا تعلم ، وهم كذلك لخلوهم عن الفهم النافع ، والعلم الذي ينتفع به صاحبه ، قال الزجاج : وصفهم بتمام الصور ، ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار ، وعظم الأجسام ، بمنزلة الخشب قرأ الجمهور خشب بضمتين ، وقرئ بإسكان الشين لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن ، وهما سبعيتان ، وقرئ بفتحتين .

ومعنى مسندة أنها أسندت إلى غيرها ، من قولهم : أسندت كذا إلى كذا والتشديد للتكثير ، قال ابن عباس في الآية : كأنهم نخل قيام ، وقيل : إنهم أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما " عن زيد بن أرقم قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة ، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا : كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقع في نفسي مما قالوا شدة ، حتى أنزل الله تصديقي في : إذا جاءك المنافقون ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم ، فلووا رؤوسهم ، وهو قوله : { كأنهم خشب مسندة } قال : كانوا رجالا أجمل شيء " ( {[1579]} ) .

وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي ، ثم عابهم الله سبحانه الجبن فقال :

{ يحسبون كل صيحة } يسمعونها واقعة { عليهم } نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم ، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان :

أولهما أنه عليهم ، ويكون جملة : { هم العدو } مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون .

والوجه الثاني أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله : { هم العدو } ، ويكون قوله : { عليهم } متعلقا بصيحة وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر ، وكان حقه أن يقال : هو العدو ، والوجه الأول أولى قال مقاتل والسدي : أي نادى مناد في العسكر ، أو انفلتت دابة ، أو أنشدت ضالة ، ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب ، وقيل : كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ، ويبيح دماءهم وأموالهم .

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ حذره منهم فقال : { فاحذرهم } أن يتمكنوا من فرصة منك ، أو يطلعوا على شيء من أسرارك ، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ، قال أبو السعود : الفاء لترتيب الأمر بالحذر على كونهم أعدى العداء ، وعلى هذا جعل قوله : { هم العدو } مفعولا ثانيا مما لا يساعده النظم الكريم أصلا ، ثم دعا عليهم بقوله :

{ قاتلهم الله } أي لعنهم الله ، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريق التعجب ، كقولهم : قاتله الله من شاعر ، أو ما أشعره ، وليس بمراد هنا ، بل المراد ذمهم وتوبيخهم ، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته عز وجل أن يلعنهم ويخزيهم ، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك ، وقيل : معناه أهلكهم وهذا ما جرى عليه أبو عيسى ومعنى { أنّى يؤفكون ؟ } كيف يصرفون عن الحق ؟ ويميلون عنه إلى الكفر بعد قيام البرهان على حقية الإيمان ؟ قال قتادة : يعدلون عن الحق ، وقال الحسن : معناه يصرفون عن الرشد .


[1579]:رواه البخاري.