الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (4)

قوله : { تَسْمَعْ } : العامَّةُ بالخطاب ، و " لِقولهم " متعلِّقٌ به وضُمِّنَ " تَسْمَعْ " معنى تُصْغي وتميلُ ، فلِذلك عُدِّيَ باللام . وقيل : بل هي مزيدةٌ ، أي : تسمعُ قولَهم . وليس بشيءٍ ؛ لنَصاعةِ معنى الأول . وقرأ عطيةُ العَوْفيُّ وعكرمةُ بالياء مِنْ تحت مبنياً للمفعول ، والقائم مَقامَ الفاعلِ الجارُّ لأجلِ التضمينِ المتقدِّمِ . ومَنْ اعتقد زيادةَ اللامِ أولاً لم يَجُزْ أَنْ يعتقدَها هنا ، أي : تَسمعْ قَوْلَهم ؛ لأنَّ اللامَ لا تُزادُ في الفاعلِ ولا فيما أشبهه .

قوله : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها مستأنفةٌ . والثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم كأنَّهم ، قالهما الزمخشري . والثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ في " قولِهم " قاله أبو البقاء . وقرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ وقنبلٌ " خُشْب " بضمٍ وسكونٍ ، وباقي السبعةِ بضمتين . وقرأ السعيدان : ابنُ جبير وابنُ المسيَّب بفتحتين ، ونسبها الزمخشريُّ لابن عباس ولم يذكُرْ غيرَه . فأمَّا القراءةُ بضمتَيْن فقيل : يجوزُ أَنْ تكونَ جمع خشَبَة نحو : ثَمَرَة وثُمُر ، قاله الزمشخريُّ ، وفيه نظرٌ ؛ لأن هذه الصيغةَ محفوظةٌ في فَعَلَة لا تَنْقاس نحو : ثَمَرَة وثُمُر . ونقل الفاسيُّ عن الزبيدي أنه جمعُ خَشْباء ، وأَحْسَبُه غَلِطَ عليه لأنه قد يكون قال " خُشْب " بالسكون جمع خَشْباء نحو : حَمْراء وحُمْر ؛ لأنَّ فَعْلاء الصفةَ لا تُجْمع على فُعُل بضمتين بل بضمةٍ وسكونٍ . وقوله " الزبيدي " تصحيفٌ : إمَّا منه وإمَّا من الناسخِ ، إنما هو اليزيديُّ تلميذُ أبي عمرو بن العلاء ، نقل ذلك الزمخشري . وقال أبو البقاء : " وخُشْب بالضمِّ والإِسكان جمعُ خَشَب مثل : أَسَد وأُسْد " انتهى . فهذا يُوهم أنه يقال : أُسُد بضمتين وليس كذلك .

وأمَّا القراءةُ بضمةٍ وسكونٍ فقيل : هي تخفيفُ الأُولى . وقيل : هي جمعُ خَشْباء وهي الخَشَبةُ التي نُخِر جَوْفُها ، أي : فُرِّغَ ، شُبِّهوا بها لفراغِ بَواطنِهم مِمَّا يُنْتَفَعُ به . وقيل : هي جمعُ خَشَبة نحو بَدَنَة وبُدْن ، قاله الزمخشري .

وأمَّا القراءةُ بفتحتَيْن فهو اسمُ جنسٍ ، وأُنِّثَتْ صفتُه كقولِه : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وهو أحدُ الجائزَين .

وقوله : { مُّسَنَّدَةٌ } تنبيهٌ على أنها لا يُنْتَفَعُ بها ، كما يُنتفع بالخَشَبِ في سَقْفٍ وغيرِه ، أو شبهوا بالأصنامِ ؛ لأنهم كانوا يُسْنِدونها إلى الحِيطان .

قوله : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } فيه وجهان ، أظهرهما : أنَّ " عليهم " هو المفعولُ الثاني للحُسْبان ، أي : واقعةً وكائنةً عليهم ، ويكون قولُه : " هم العدوُّ " جملةً مستأنفةً ، أخبر تعالى بذلك . والثاني : أَنْ يكونَ " عليهم " متعلقاً بصيحة ، و " هم العدوُّ " الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني للحُسبان . قال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يكونَ " هم العدوُّ " هو المفعولَ الثاني : كما لو طَرَحْتَ الضميرَ . فإنْ قلتَ : فحقُّه أن يُقالَ : هي العدو قلت : منظورٌ فيه إلى الخبر ، كما ذُكِر في قوله :

{ هَذَا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] ، وأَنْ يُقَدَّرَ مضافٌ محذوفٌ على " يَحْسَبُون كلَّ أهلِ صحيةٍ " انتهى . وفي الثاني بُعْدٌ بعيدٌ .

قوله : { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } " أنَّى " بمعنى كيف . وقال ابن عطية : ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ " أنَّى " ظرفاً ل " قاتَلَهم " كأنَّه قال : قاتلهم اللهُ كيف انصَرفوا ، أو صُرِفوا ؟ فلا يكونُ في القولِ استفهامٌ على هذا " انتهى . وهذا لا يجوزُ ؛ لأنَّ " أنَّى " إنما هي بمعنى كيف ، أو بمعنى أين الشرطيةِ أو الاستفهاميةِ ، وعلى التقادير الثلاثةِ فلا تَتَمَحَّضُ للظرفِ فلا يعملُ فيها ما قبلَها البتةَ ، كما لا تعمل في أسماءِ الشرطِ والاستفهامِ .