156- يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا في شأن إخوانهم - إذا أبعدوا في الأرض لطلب العيش فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا - : لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فقد جعل الله ذلك القول والظن حسرة في قلوبهم ، والله هو الذي يحيي ويميت ، وبيده مقادير كل شيء ، وهو مطلع على ما تعملون من خير أو شر ، ومجازيكم عليه .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } . يعني المنافقين ، عبد الله بن أبي وأصحابه ، ( وقالوا لإخوانهم ) في النفاق والكفر ، وقيل : في النسب .
قوله تعالى : { إذا ضربوا في الأرض } . أي سافروا فيها لتجارة أو غيرها .
قوله تعالى : { أو كانوا غزى } . أي غزاةً جمع غاز فقتلوا .
قوله تعالى : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك } . يعني قولهم وظنهم .
قوله تعالى : { حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير } . قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعملون بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء .
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .
قوله { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } الخ كلام مستأنف قصد به تحذير المؤمنين من التشبه بالكافرين ومن الاستماع إلى أقوالهم الذميمة .
والمراد بالذين كفروا المنافقون كعبد الله بن أبى بن سلول وأشباهه من المنافقين الذين سبق للقرآن أن حكى عنهم أنهم قالوا : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } وإنما ذكرهم بصفة الكفر للتصريح بمباينة حالهم لحال المؤمنين وللتنفير عن مماثلتهم ومسايرتهم . وقيل المراد بهم جميع الكفار .
والمراد بإخوانهم : إخوانهم فى الكفر والنفاق والمذهب أو فى النسب وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } أى سافروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا . وأصل الضرب : إيقاع شىء على شىء ثم استعمل فى السير ، لما فيه من ضرب الأرض بالأرجل ، ثم صار حقيقة فيه .
وقوله : { غُزًّى } جمع غاز كراكع وركع ، وصائم وصوم ، ونائم ونوم .
والمعنى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا بفزع وجزع من أجل إخوانهم الذين فقدوهم بسبب سفرهم للتجارة أو بسبب غزوهم فى سبيل الله .
قالوا على سبيل التفجع : لو كان هؤلاء الذين ماتوا فى السفر أو الغزو مقيمين معنا ، أو ملازمين بيوتهم ، ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا فيها لبقوا أحياء ولما ماتوا أو قتلوا .
وقولهم هذا يدل على جبنهم وعجزهم ، كما يدل على ضعف عقولهم وعدم إيمانهم بقضاء الله وقدره ، إذ لو كانوا مؤمنين بقضاء الله وقدره لعلموا أن كل شىء عنده بمقدار ، وأن العاقل هو الذى يعمل ما يجب عليه بجد وإخلاص ثم يترك بعد ذلك النتائج لله يسيرها كيف يشاء .
وقولهم هذا بجانب ذلك يدل على سوء نيتهم ، وخبث طويتهم ، لأنهم قصدوا به تثبيط عزائم المجاهدين عن الجهاد ، وعن السعى فى الأرض من أجل طلب الرزق الذى أحله الله .
والنهى فى قوله - تعالى { لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } يشعر بالتفاوت الشديد بين المقامين : مقام الإيمان ومقام الكفران ، وأنه لا يليق بالمؤمن أن ينحدر إلى المنحدر الدون وهو التشبه بالكافرين ، بعد أن رفعه الله بالإيمان إلى أعلى عليين ، وفى هذا تقبيح للمنهى عنه بأبلغ وجه وبأدق تصوير .
واللام فى قوله { لإِخْوَانِهِمْ } يرى صاحب الكشاف أنها للتعليل فقد قال : قوله : { وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } أى لأجل إخوانهم ، كقوله - تعالى - { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } ويجوز أن تكون اللام للدلالة على موضع الخطاب ، ويكون المعنى : لا تكونوا أيها المؤمنون كهؤلاء الذين كفروا وقالوا لإخوانهم الأحياء : لو كان أولئك الذين فقدناهم ملازمين لبيوتهم ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا لما أصابهم ما أصابهم من الموت أو القتل .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن قيل إن قوله { قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } يدل على الماضى ، وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما ؟
أولها : أن قوله { قَالُواْ } تقديره : يقولون ، فكأنه قيل : لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا .
وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضى للتأكيد وللإشعار بأن جدهم فى تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، وصار بسبب ذلك الجد ينظر لى هذا المستقبل كالكائن الواقع .
وثانيها : أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية . والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا فى الأرض ، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فمن أخبر عنهم بعد ذلك فلا بد أن يقول : قالوا .
وثالثها : قال " قطرب " كلمة " إذ " و " وإذا يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى وهو حسن لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى " .
وقوله { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } معطوف على { ضَرَبُواْ فِي الأرض } من عطف الخاص بعد العام ، اعتناء به لأن الغزو هو المقصود فى هذا المقام وما قبله توطئة له .
قالوا : على أنه قد يوجد الغزو بدون الضرب فى الأرض بناء على أن المراد بالضرب فى الأرض السفر البعيد ، فيكون على هذا بين الضرب فى الأرض وبين الغزو خصوص وعموم من وجه .
وإنما لم يقل أو غزوا : للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة ، أو لا نقضاء ذلك ، أى كانوا غزاة فيما مضى .
وقوله { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } فى محل نصب مقول القول .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على أقوالهم من عواقب سيئة فقال : { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } .
والحسرة - كما يقول الراغب - هى غم الإنسان على ما فاته ، والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذى حمله على ما ارتكبه ، أو انحسرت قواه - أى انسلخت - من فرط الغم ، وأدركه إعياء عن تدارك ما فرط " .
فالحسرة هى الهم المضنى الذى يلقى على النفس الحزن المستمر والألم الشديد ، واللام فى قوله { لِيَجْعَلَ } هى التى تسمى بلام العاقبة ، وهى متعلقة بقالوا أى قالوا ما قالوا لغرض من أغراضهم التى يتوهمون من ورائها منفعتهم ومضرة المؤمنين فكان عاقبة قولهم ومصيره إلى الحسرة والندامة لأن المؤمنين الصادقين لن يلتفتوا إلى هذا القول . بل سيمضون فى طريق الجهاد الذى كتبه الله عليهم وسيكون النصر الذى وعدهم الله إياه حليفهم وبذلك يزداد الكافرون المنافقون حسرة على حسرتهم .
ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويكون المعنى : أن الله - تعالى - طبع الكفار على هذه الأخلاق السيئة بسبب كفرهم وضلالهم لأجل أن يجعل الحسرة فى قلوبهم والغم فى نفوسهم والضلال بهذه الأقوال والأفعال فى عقولهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قتل ما متعلق ليجعل ؟ قلت : قالوا . أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة فى قلوبهم على أن اللام مثلها فى { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أو لا تكونوا بمعنى : لا تكونوا مثلهم فى النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله حسرة فى قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم . فإن قلت : ما معنى إسناد الفعلى إلى الله ؟ قلت : معناه أن الله - تعالى - عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة فى قلوبهم ويضيق صدورهم عقوبة لهم . كما قال - تعالى - { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دل عليه النهى ، أى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثهلم حسرة فى قلوبهم ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغمهم ويغيظهم " .
والجعل هنا بمعنى التصيير ، وقوله { حَسْرَةً } مفعول ثان له ، وقوله ، { فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بيجعل .
وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها ، لإرادة التمكن ، والإيذان بعدم الزوال .
وقوله { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } رد على قولهم الباطل أثر بيان سوء عاقبته وحض للمؤمنين على الجهاد فى سبيل الله وترغيب لهم فى العمل الصالح ، أى أن الأرواح كلها بيد الله يقبضها متى شاء ، ويرسلها متى شاء فالقعود فى البيوت لا يطيل الآجال كما أن الخروج للجهاد فى سبيل الله أو للسعى فى طلب الرزق لا ينقصها وما دام الأمر كذلك فعلى العاقل أن يسارع إلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، وأن يسعى فى الأرض ذات الطول والعرض ليأكل من رزق الله وأن يباشر الأسباب التى شرعها الله بدون عجز أو كسل وليعلم أن الله مطلع على أعمال الناس وأقوالهم وسيجازيهم عليها يوم القيامة بما يستحقون من خير أو شر .
ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة ، وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر ، مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء . ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات :
( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ، وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى - : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت . والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) . .
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة ، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة ، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ؛ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات . . وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد ، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم ، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .
إن قول الكافرين : ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها ، للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها : سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله ، متعرف إلى مشيئة الله ، مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ، ولا يتلقى السراء بالزهو ، ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك ؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا ، أو ليستجلب كذا ، بعد وقوع الأمر وانتهائه ! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة ، كله قبل الإقدام والحركة ؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج ، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم ؛ موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته ؛ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع ؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله ! . . توازن بين العمل والتسليم ، وبين الإيجابية والتوكل ، يستقيم عليه الخطو ، ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة ، فهو أبدا مستطار ، أبدا في قلق ! أبدا في " لو " و " لولا " و " يا ليت " و " وا أسفاه " !
والله - في تربيته للجماعة المسلمة ، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات ، كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق ، أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد :
( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . .
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية ، بسبب انقطاعهم عن الله ، وعن قدره الجاري في الحياة .
( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) . .
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا ، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا . . إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل ، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج ! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ، ونداء المضجع ، وقدر الله ، وسنته في الموت والحياة ، ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين ، ولفاءوا إلى الله راضين :
فبيده إعطاء الحياة ، وبيده استرداد ما أعطى ، في الموعد المضروب والأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم ، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء ، وعنده العروض ، عن خبرة وعن علم وعن بصر :
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد ، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار وفي{[5977]} الحروب : لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم . فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ } أي : عن إخوانهم { إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ } أي : سافروا للتجارة ونحوها {[5978]} { أَوْ كَانُوا غُزًّى } أي : في الغزو { لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا } أي : في البلد { مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا }{[5979]} أي : ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو .
وقوله : { لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتْلهم{[5980]} ثم قال تعالى ردا عليهم : { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : بيده الخلق وإليه يرجع الأمر ، ولا يحيا أحد ولا يموت إلا بمشيئته وقدره ، ولا يُزَاد في عُمُر أحد ولا يُنْقَص منه إلا بقضائه وقدره { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : وعلمه وبصره نافذ في جميع خلقه ، لا يخفى عليه من أمورهم شيء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرّوا بما جاء به محمد من عند الله، لا تكونوا كمن كفر بالله وبرسوله، فجحد نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال لإخوانه من أهل الكفر {إذا ضَرَبُوا في الأَرْضِ} فخرجوا من بلادهم سفرا في تجارة، {أو كَانُوا غُزّى} يقول: أو كان خروجهم من بلادهم غزاة، فهلكوا فماتوا في سفرهم، أو قتلوا في غزوهم، {لو كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وما قُتِلُوا} يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفار، أنهم يقولون لمن غزا منهم فقتل أو مات في سفر خرج فيه في طاعة الله أو تجارة: لو لم يكونوا خرجوا من عندنا، وكانوا أقاموا في بلادهم ما ماتوا وما قتلوا. {لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً في قُلُوبِهِمْ} يعني: أنهم يقولون ذلك، كي يجعل الله قولهم ذلك حزنا في قلوبهم وغمّا، ويجهلون أن ذلك إلى الله جلّ ثناؤه وبيده...
وأما قوله: {إذَا ضَرَبُوا في الأرْضِ} فإنه اختُلِف في تأويله؛ فقال بعضهم: هو السفر في التجارة، والسير في الأرض لطلب المعيشة... وقال آخرون: بل هو السير في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم... وأصل الضرب في الأرض: الإبعاد فيها سيرا. وأما قوله: {أوْ كانُوا غُزّى} فإنه يعني: أو كانوا غُزاة في سبيل الله. والغُزّى: جمع غاز، جمع على فُعّل كما يجمع شاهد: شُهّد، وقائل: قُوّل...
وأما قوله: {لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً في قُلُوبِهِمْ} فإنه يعني بذلك: حزنا في قلوبهم...
{وَاللّهْ يُحْيِي ويُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. يعني جلّ ثناؤه بقوله: {واللّهُ يُحْيي ويُمِيتُ}: والله المعجل الموت لمن يشاء من حيث يشاء، والمميت من يشاء كلما شاء دون غيره من سائر خلقه. وهذا من الله عزّ وجلّ ترغيب لعباده المؤمنين على جهاد عدوّه، والصبر على قتالهم، وإخراج هيبتهم من صدورهم، وإن قلّ عددهم، وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله، وإعلام منه لهم أن الإماتة والإحياء بيده، وأنه لن يموت أحد ولا يقتل إلا بعد فناء أجله الذي كتب له، ونهي منه لهم إذ كان كذلك أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قُتل منهم في حرب المشركين. ثم قال جلّ ثناؤه: {وَاللّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ} يقول: إن الله يرى ما تعملون من خير وشرّ، فاتقوه أيها المؤمنون، فإنه محص ذلك كله، حتى يجازي كل عامل بعمله على قدر استحقاقه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {والله يحيي ويميت} أي والله {يحيي} من ضرب في الأرض وغزا {ويميت} من أقام ولم يخرج غازيا، أي لا يتقدم الموت بالخروج في الغزو ولا يتأخر في المقام وترك الخروج، دعاهم إلى التسليم إنما هي أنفاس معدودة وأرزاق مقسومة وآجال مضروبة ما لم يفنها ويستوفها وينقص أجلها لا يأتها {والله بما تعلمون بصير} وعيد.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
اللام في قوله: (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) متعلقة ب (لا تكونوا) كهؤلاء الكفار في هذا القول منهم، (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) دونكم... والحسرة عليهم في ذلك من وجهين: أحدهما -الخيبة فيما أملوا من الموافقة لهم من المؤمنين، فلما لم يقبلوا منهم، كان ذلك حسرة في قلوبهم. والآخر- ما فاتهم من عز الظفر والغنيمة.
وقوله: (والله يحيي ويميت) معناه ههنا الاحتجاج على من خالف أمر الله في الجهاد طلبا للحياة، وهربا من الموت، لأن الله تعالى إذا كان هو الذي يحيي ويميت لم ينفع الهرب من أمره بذلك خوف الموت، وطلب الحياة.
(والله بما يعملون بصير) أي مبصر، ويحتمل أن يكون بمعنى عليم. وفيه تهديد، لأن معناه أن الله يجازي كلا منهم بعمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ تعوَّد أن يتلهف على ماضيه وسالفه، أو يتدبر في مستقبله وآنِفِه، فأقلُّ عقوبة له ضيق قلبه في تفرقة الهموم، وامتحاء نعت الحياة عن قلبه لغفلته وقالته ليت كذا ولعلَّ كذا، وثمرةُ الفكرة في ليت ولعلَّ -الوحشةُ والحسرةُ وضيق القلبِ والتفرقة.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} تكذيبا منهم بالقضاء والقدر... {والله يحيي ويميت} فليس يمنع الإنسان تحرزه من إتيان أجله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف قيل: {إِذَا ضَرَبُواْ} مع {قَالُواْ}؟ قلت: هو على حكاية الحال الماضية، كقولك: حين يضربون في الأرض فإن قلت: ما متعلق ليجعل؟ قلت: قالوا، أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} على أنّ اللام مثلها في {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] أو لا تكونوا، بمعنى: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم. فإن قلت: ما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى؟ قلت: معناه أنّ الله عز وجل عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة في قلوبهم، ويضيق صدورهم عقوبة، فاعتقاده فعلهم وما يكون عنده من الغم والحسرة وضيق الصدور فعل الله عز وجل كقوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء} [الأنعام: 125] ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلّ عليه النهى، أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، لأنّ مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادّتهم، مما يغمهم ويغيظهم {والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ} ردٌّ لقولهم. أي الأمر بيده، قد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد كما يشاء. وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال عند موته: ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وها أنا ذا أموت كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تكونوا مثلهم. وقرى بالياء، يعني الذين كفروا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نهى الله تعالى المؤمنين عن الكون مثل الكفار والمنافقين في هذا المعتقد الفاسد، الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين، وهو نحو منه.
وقوله تعالى: {لإخوانهم} هي أخوة نسب، لأن قتلى -أحد- كانوا من الأنصار، أكثرهم من الخزرج، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلى أربعة، وصرح بهذه المقالة فيما ذكر السدي ومجاهد وغيرهما، عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وقيل: بل قالها جميع المنافقين، ودخلت {إذا} في هذه الآية وهي حرف استقبال، من حيث {الذين} اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي، ومن يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان، ويطرد النهي للمؤمنين فيها، فوضعت {إذا} لتدل على اطراد الأمر في مستقبل الزمان، وهذه فائدة وضع المستقبل موضع الماضي، كما قال تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام} إلى نحوها من الآيات وكما قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد... كما أن فائدة وضعهم الماضي موضع المستقبل للدلالة على ثبوت الأمر، لأن صيغة الماضي متحققة الوقوع...
وقوله تعالى: {ليجعل الله ذلك} قال مجاهد: معناه يحزنهم قوله ولا ينفعهم. قال القاضي: فالإشارة في ذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم، جعل الله ذلك حسرة، لأن الذي يتقين أن كل موت وقتل فبأجل سابق، يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت، يتحسر ويتلهف، وعلى هذا التأويل مشى المتأولون، وهو أظهر ما في الآية.
وقال قوم: الإشارة بذلك إلى انتهاء المؤمنين ومخالفتهم الكافرين في هذا المعتقد، فيكون خلافهم لهم حسرة في قلوبهم، وقال قوم: الإشارة بذلك إلى نفس نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد لأنهم إذا رأوا أن الله تعالى قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم، ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً، فتأمله «والحسرة»: التلهف على الشيء والغم به، ثم أخبر تعالى خبراً جزماً أنه الذي {يحيى ويميت} بقضاء حتم، لا كما يعتقد هؤلاء... فهذا توكيد للنهي في قوله {لا تكونوا} ووعيد لمن خالفه ووعد لمن امتثله.
اعلم أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، ثم إنه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا الله بفضله عنهم، ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج إلى الجهاد: لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فإن الله هو المحيي والمميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد، ومن قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد، وهو المراد من قوله: {والله يحيى ويميت} وأيضا الذي قتل في الجهاد، لو أنه ما خرج إلى الجهاد لكان يموت لا محالة، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم، كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة، وهو المراد من قوله: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون} فهذا هو المقصود من الكلام.
المسألة الأولى: اختلفوا في المراد بقوله: {كالذين كفروا} فقال بعضهم: هو على إطلاقه، فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن، وقال آخرون: إنه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم... وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الإيمان ليس عبارة عن الإقرار باللسان، كما تقول الكرامية إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمنا، ولو كان مؤمنا لما سماه الله كافرا...
قوله: {وقالوا لإخوانهم} أي... أنهم لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول، فوجب أن يكون المراد من قوله: {وقالوا لإخوانهم} هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم، ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع إخوانهم...
المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد، وهو المراد بقوله: {إذا ضربوا في الأرض} والخارج إلى الغزو، وهو المراد بقوله: {أو كانوا غزى} إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو، وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد، وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل، فإذا قيل للمرء: إن تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش، وإن تقحمت أحدهما وصلت إلى الموت أو القتل، فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت، وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد. فان قيل: فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه؟ قلنا: لأن الضرب في الأرض يراد به الأبعاد في السفر، لا ما يقرب منه، وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وإن كان غازيا، فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض...
في الآية إشكال وهو أن قوله: {وقالوا لإخوانهم} يدل على الماضي، وقوله: {إذا ضربوا} يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما؟ بل لو قال: وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا في الأرض، أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال.
الأول: أن قوله: {قالوا} تقديره: يقولون فكأنه قيل: لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا، وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين:
أحدهما: أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى: {أتى أمر الله} وقال: {إنك ميت} فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي، دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية، وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع.
الفائدة الثانية: أنه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام، بل المقصود الإخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة، فهذا هو الجواب المعتمد عندي، والله أعلم.
الوجه الثاني في الجواب: أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية، والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وإن يقول: قالوا، فهذا هو المراد بقولنا: خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية...
قوله: {ما ماتوا وما قتلوا} يدل على موتهم وقتلهم. ثم قال تعالى: {ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} وفيه وجهان:
الأول: أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم، مثل ما يقال: ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}. إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها:
الأول: أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم، لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي...
الوجه الثاني: إن المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الأعداء. والفوز بالأماني، بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة.
الوجه الثالث: أن هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات وإعلاء الدرجات، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب.
الوجه الرابع: أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها، فرحوا بذلك، من حيث أنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة، فالله تعالى يقول: إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة.
الوجه الخامس: أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر، وهو المراد بالحسرة، كقوله: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا}.
الوجه السادس: أنهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم.
والقول الثاني في تفسير الآية: أن اللام في قوله: {ليجعل الله} متعلقة بما دل عليه النهي، والتقدير: لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم...
{والله يحيى ويميت} يريد: يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{والله بما تعملون بصير} قال الراغب: علق ذلك بالبصر لا بالسمع، وإنْ كان الصادر منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً. لما كان ذلك القول من الكافر قصداً منهم إلى عمل يحاولونه، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئاً وهو يقصد فعلاً يحاوله: أنا أرى ما تفعله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيداً بأعظم الثبات لما طبع عليه من الشيم الطاهرة والمحاسن الظاهرة، كان الأنسب البداءة بغيره، فنهى الذين آمنوا عن الانخداع بأقوالهم فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي أظهروا الإقرار بالإيمان! صدقوا قولكم بأن {لا تكونوا كالذين كفروا} أي بقلوبهم على وجه الستر {وقالوا} أي ما فضحهم {لإخوانهم} أي لأجل إخوانهم الأعزة عليهم نسباً أو مذهباً {إذا ضربوا} أي سافروا مطلق سفر {في الأرض} أي لمتجر أو غيره {أو كانوا غزّى} أي غزاة مبالغين في الغزو في سبيل الله بسفر أو غيره، جمع غازٍ، فماتوا أو قتلوا {لو كانوا عندنا} أي لم يفارقونا {ما ماتوا وما قتلوا} وهذا في غاية التهكم بهم، لأن إطلاق هذا القول منهم -لا سيما على هذا التأكيد- يلزم منه ادعاء أنه لا يموت أحد في المدينة، وهو لا يقوله عاقل ولما كان هذا القول محزناً اعتقاده وكتمانه علق سبحانه وتعالى بقوله:"قالوا" وبانتفاء الكون كالذين قالوا قوله: {ليجعل الله} أي الذي لا كفوء له {ذلك} أي القول أو الانفراد به عن مشارك {حسرة في قلوبهم} أي باعتقاده وعدم المواسي فيه، وعلى تقدير التعليق ب "قالوا "يكون من باب التهكم بهم، لأنهم لو لم يقولوه لهذا الغرض الذي لا يقصده عاقل لكانوا قد قالوه لا لغرض أصلاً، وذلك أعرق في كونه ليس من أفعال العقلاء {والله} أي لا تكونوا مثلهم والحال. أو قالوا ذلك والحال. أن الذي له الإحاطة الكاملة {يحيي} أي: من أراد في الوقت الذي يريد {ويميت} أي من أراد إذا أراد، لا يغني حذره من قدره {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {بما تعملون} أي بعملكم وبكل شيء منه {بصير} وعلى كل شيء منه قدير، لا يكون شيء منه بغير إذنه، ومتى كان على خلاف أمره عاقب عليه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما بين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين ان هزيمة من تولى منهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا أراد أن يحذرهم من مثل تلك الوسوسة التي أفسد الشيطان بها قلوب الكافرين، فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} أي لا تكونوا مثل هذا الفريق من الناس، وهم الذين كفروا وقالوا لأجل إخوانهم، أو في شأن إخوانهم في النسب أو المودة والمذهب، إذا هم ضربوا في الأرض- أي سافروا فيها للتجارة والكسب- فماتوا، أو كانوا غزى أي غزاة- وهو جمع لغاز من الجموع النادرة ومثله عفَّى جمع عاف- سواء كان غزوهم في وطنهم أو بلاد أخرى فقتلوا: لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا. أي ما مات أولئك المسافرون. وما قتل أولئك الغازون، وقرن هذا القول بالكفر مشعر بأن مثله لا ينبغي أن يصدر عن مؤمن لأنه إنما يصدر من الكافرين وبيان ذلك من وجهين:
أحدهما: إن هذا القول مخالف للمعقول مصادم للوجود، فإن من مات أو قتل فقد انتهى أمره وصار قول (لو كان كذا) عبثا لأن الواقع لا يرتفع، والحسرة على الفائت لا تفيد، ومن شأن المؤمن أن يكون صحيح العقل سليم الفطرة، ولذلك جعل سبحانه الخطاب في كتابه موجها إلى العقلاء، وبين أن أولي الألباب هم الذين يعقلونه ويتذكرون به ويقبلون هدايته، وقال فيمن لا إيمان لهم: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179].
ثانيهما: إن هذا القول يدل على جهل قائله بالدين أو جحوده، فإن الدين يرشد إلى تحديد الآجال وكونها بإذن الله كما تقدم قريبا في تفسير قوله تعالى: {و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} فارجع إليه. والمشهور في كتب التفسير المتداولة أن المراد بالذين كفروا المنافقون الذين تقدم ذكرهم في الآيات: وقال الأستاذ الإمام: يقول بعض المفسرين إن هذا القول وقع من بعض الكفار فعلا فنهى الله المؤمنين أن يقولوا مثله. والمختار أن هذا قول لا يصدر إلا عن كافر فلا يليق مثله بالمؤمنين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة، وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر، مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء. ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات: وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام؛ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات.. وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة -نتيجة لخروجهم- ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة. ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه. إن قول الكافرين: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).. ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها، للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها: سراؤها وضراؤها.. إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله، متعرف إلى مشيئة الله، مطمئن إلى قدر الله. إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع، ولا يتلقى السراء بالزهو، ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا، أو ليستجلب كذا، بعد وقوع الأمر وانتهائه! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة، كله قبل الإقدام والحركة؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير -في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه- فكل ما يقع من النتائج، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم؛ موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته؛ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله!.. توازن بين العمل والتسليم، وبين الإيجابية والتوكل، يستقيم عليه الخطو، ويستريح عليه الضمير.. فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة، فهو أبدا مستطار، أبدا في قلق! أبدا في "لو "و "لولا" و "يا ليت" و "وا أسفاه "! والله -في تربيته للجماعة المسلمة، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها- يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا. أولئك الذين تصيبهم الحسرات، كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق، أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).. يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري. فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية، بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة. (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم).. فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا.. إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل، ونداء المضجع، وقدر الله، وسنته في الموت والحياة، ما تحسروا. ولتلقوا الابتلاء صابرين، ولفاءوا إلى الله راضين: (والله يحيي ويميت).. فبيده إعطاء الحياة، وبيده استرداد ما أعطى، في الموعد المضروب والأجل المرسوم، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة. وعنده الجزاء، وعنده العروض، عن خبرة وعن علم وعن بصر: (والله بما تعملون بصير..)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضاً. والكلام استئناف. والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطّف بهم جميعاً بعد تقريع فريق منهم الَّذين تولّوا يوم التقى الجمعان...
والضرب في الأرض هو السفر، فالضرب مستعمل في السير لأنّ أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللَّه} [المزمل: 20]، وعلى مطلق السفر كما هنا، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} [النساء: 94] وقوله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأنّ ذلك هو الَّذي يلومهم عليه الكفار... وقوله: {ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} علّة ل (قَالوا) باعتبار ما يتضمّنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيهاً للنَّهي عن التشبيه بهم أي فإنَّكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحِقَكم أثره كما لحقهم، فالإشارة بقوله: (ذلك) إلى القول الدال على الاعتقاد، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه. وقيل: اللام لام العاقبة، أي: لا تكونوا كالَّذين قالوا فترتّب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم، فيكون قوله: {ليجعل} على هذا الوجه من صلة (الّذين)، ومن جملة الأحوال المشبّه بها، فيعلم أنّ النّهي عن التّشبّه بهم فيها لما فيها من الضرّ. والحَسرة: شدّة الأسف أي الحُزن، وكانَ هذا حسرة عليهم لأنَّهم توهّموا أنّ مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم، وأنَّهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا، فلا يزالون متلهّفين على ما فاتهم. والمؤمن يبذل جهده، فإذا خَابَ سَلَّم لحكم القدر. وقوله: {والله بما تعملون بصير} تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ما زالت النصوص القرآنية الكريمة تذكر العبر في هزيمة أحد، وكان هذه الهزيمة التي لم تكن فاصلة، بل رجع فيها المنتصرون لم يلووا على شيء- فيها دروس فائدتها أكبر من فائدة النصر، وفيها كشف لأحوال نفسية، ومعرفتها ذريعة إلى الاستمرار على القتال والانتصار فيه، وفي هذه الآيات بين الله سبحانه وتعالى الفرق بين النفس المؤمنة إذا فقدت أحبابها أو أصفياءها في جهاد أو ما يشبهه، والنفس الكفارة إذا أصيبت بمثل هذه الإصابة، وفي هذه الآيات أيضا يبين سبحانه أن النظر إلى الماضي المؤلم من غير الاقتصار على الاعتبار يؤدي إلى الحسرة والحزن الدائم، فالنفس الدبرية التي تلاحقها دائما بآلام الماضي لا تسعد في ذاتها، ولا تتأهب لعمل يحتاج إلى تضافر الهمم وتحفز العزائم، فإن تقرح القلب بآلام الماضي كفر بالله، وعدم تفويض إليه سبحانه، وعدم إيمان بالمستقبل الذي يكون يوم القيامة، ويكون المر فيه كله لله تعالى، وإن هذه الروح الدبرية هي روح الكافرين، وقد نهى الله سبحانه عن ان يكونوا مثلهم...
{والله بما تعملون بصير} أي ان الله تعالى عليم علم من يرى ويبصر بأعمالكم التي تعملونها، يعلم البواعث والنتائج ويعلم الحقائق والوقائع، فلا تذهب أنفسكم حسرات على الماضي، واستعدوا.
يختم الحق الآية بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فكأنهم قد بلغوا من الغباء أنهم لم يستتروا حتى في المعصية، ولكنهم جعلوها حركة تُرى، وهذا القول هنا أقوى من "عليم"؛ لأن "عليم" تؤدي إلى أن نفهم أنهم يملكون بعضاً من حياء ويسترون الأشياء، ولكن علم الله هو الذي يفضحهم لا، هي صارت حركة واضحة بحيث تُبْصَر. فجاء قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
نداء إلهي تحذيراً للمؤمنين من الأساليب الانهزامية: وهذا نداءٌ جديد من اللّه للمؤمنين يستهدف إفراغ مشاعرهم من السلبيّات العاطفية الضاغطة التي تهيمن على الروح والفكر والوجدان، فتنحرف بها عن الخطّ الإيماني الأصيل في التصوّر والشعور، فتدفعها إلى الاستسلام لحالات الضعف التي تهزم مواقفها من ناحية نفسية قبل أن تنهزم في معركتها من العدوّ، ولذلك أراد اللّه سبحانه أن يعيش المؤمن في مواقعه الإيمانية فكرياً وروحياً وعمليّاً، فيظلّ في وعي دائم لمقتضيات الإيمان، بعيداً عن الضغوط العاطفية السلبيّة، فيرصد مشاعره في اتجاهاتها الإيجابية والسلبيّة، ويُراقب الكلمات التي يسمعها في ما يختبئ في داخلها من خلفيّات خيّرة أو شرّيرة، ويربط ذلك كلّه بالموقف الإسلامي في خطواته العملية في الحياة، ليتعرف على مدى تأثير تلك الأشياء عليها في ما تستتبعه من اهتزازٍ أو ثبات. إنَّ اللّه يثير ذلك في ما نستوحيه في هذا النداء الذي يكشف للمؤمنين بعض الأوضاع التي يعيشها الكافرون الذين يخوضون المعارك المنطلقة من حالات الغزو فيفقدون فيها بعض إخوانهم في المعركة، أو يسافرون ويضربون في الأرض فيتعرّضون لبعض أخطار السفر فيموتون تحت تأثيرها؛ فإذا حدث ذلك كان ردّ الفعل لديهم أن يطلقوا التمنّيات الحزينة والافتراضات غير الواقعيّة، فيقولون: لو كان هؤلاء الذين ماتوا عندنا، فلم يخرجوا إلى الغزو وإلى السفر لظلّوا أحياءً، لأنَّهم يبتعدون بذلك عن أسباب الموت، كما ابتعدنا عنها فبقينا أحياء. وتتحوّل هذه الكلمات لديهم إلى مشاعر تتفاعل في وجدانهم وتملأ قلوبهم بالحسرة، في ما أودعه اللّه في تكوين الإنسان من ارتباط المشاعر السلبيّة بالأفكار غير الواقعية البعيدة عن خطّ الإيمان. ويبتعد الإنسان من خلال ذلك عن الحركة المستقبلية نحو أهدافه الكبيرة، وتتجمّد مشاريعه، فيخاف من السفر وأخطاره إذا دعته المصلحة إلى ذلك، فيتركه استسلاماً لحالة الخوف من الموت، ويخشى من نتائج المعركة التي تفرض عليه حياته أن يخوضها، فيبتعد عنها ويجلس في بيته مهزوماً، خشيةً من الموت، فتتجمّد أوضاعه تبعاً لذلك... إنَّ هذا النداء يحذّر المؤمنين الذين قد يعيشون في مجتمع الكافرين فيتأثّرون بأساليبهم العاطفية، لا سيّما في حالات الألم الشديد، فتتأثر بذلك مسيرتهم في الجهاد الذي يفرضه عليهم إيمانهم أمام التحدِّيات الدائمة الحاضرة والمستقبلة من قبل الكافرين، ويفقدون حركة إيمانهم في الداخل، فإنَّ المؤمن يعتقد أنَّ الحياة والموت بيد اللّه لا بيد الإنسان، وأنَّ ظروف الموت وأسبابه ليست محصورة في نطاق الأخطار التي تواجه الإنسان، بل ربَّما يموت الإنسان في حالة السلم وينجو في حالة الحرب، وقد يخرج سليماً من قبضة الخطر ويقع صريعاً في حالات الاسترخاء... وبذلك كانت القضية لدى المؤمن هي أن تكون حياته للّه، وأن يكون مماته للّه من حيث طبيعة الهدف الكبير الذي يشمل حياته، فلا مجال أمام ذلك للتراجع عن الخطر والابتعاد عن المعركة والاستسلام للانفعالات العاطفية التي تصيب الإنسان عندما يفقد حبيباً أو قريباً أو صديقاً، بل هو الصبر والثبات والرضى بقضاء اللّه والشكر على نعمة الجهاد، والفرح الروحي الذي يستشعره المؤمن في كلّ هذه الحالات بأنَّه تحت سمع اللّه وبصره، فتهتز مشاعره أمام النظرة الإلهية الراحمة عند مواقف الطاعة المخلصة الممتدة في خطوات الإيمان. [يا أيُّها الذين آمنوا] الذين لا تزال الرواسب التاريخية في مجتمعهم الذي كان يتخبط في تقاليد الجاهلية ويتأثر بمفاهيمها، تفرض نفسها عليهم بطريقةٍ لا شعورية، أو تتحرّك في الأحاديث العامّة الخاضعة لأجواء الحزن في مشاعره السلبية في مواجهة الإنسان للجانب العاطفي في حياته المتأثّر بالمصائب الطارئة عليه التي تصيبه في أقربائه وأصدقائه وأحبائه...
أيُّها المؤمنون، لا تتأثّروا بتلك الرواسب، واندفعوا إليها بوعي الإيمان الحقّ المنفتح على سنّة اللّه في الحياة وحكمته في تقديره للأمور، من حيث هو مالك كلّ شيء، والمهيمن على الأمر كلّه، لتطردوها من نفوسكم، فلا تسقطوا أمامها ولا تتأثّروا بها بعيداً عن الخطّ الإيماني الشعوري والفكري والعملي، و [لا تكونوا كالذين كفروا] باللّه وابتعدوا عن وعي الحياة في كلِّ أحداثها المتنوّعة في حركة الآلام في واقع الإنسان في مسيرته في الدُّنيا، من خلال تعقيداتها الكثيرة وتأثيراتها عليه، فلم يتعمقوا في معناها من حيث ارتباطها بإرادة اللّه وقدرته وتخطيطه للنظام الكوني والإنساني في سننه في الكون والحياة والإنسان، بل استغرقوا في الجانب الحسّي المحدود الذي يتطلّع إلى الأمور من جانب واحدٍ في الأفق الضيّق، لا من جميع جوانبها في الأفق الواسع، وهكذا واجهوا مسألة مصابهم بإخوانهم بهذا المنطق السطحي الانفعالي، فتحدّثوا [وقالوا لإخوانهم] الذين يلتقون معهم في النسب أو في النوع والخصائص القريبة، والمراد بقولهم لهم، هو الحديث عنهم لأجل التعبير عن تمنياتهم لهم بالأخذ بأسباب السلامة والتنديد باقتحامهم أخطار السفر والحرب، كما لو كانوا أحياءً معهم [إذا ضربوا في الأرض] وسافروا... وابتعدوا في قطع المسافات الشاسعة للتجارة أو غيرها، [أو كانوا غُزّى] في ساحة المعركة الضارية ضدَّ الأعداء، [لو كانوا عندنا] مقيمين بيننا في حالة الدعة والأمن والاسترخاء والبُعد عن مواقع الأخطار [ما ماتوا وما قتلوا] لأنَّ أسباب الحياة متوفرة لدينا، وعوامل الخطر بعيدة عنّا، ولذلك امتدت الحياة بنا بكلّ عناصرها ولذاتها. وهكذا كانوا يتحدّثون بأسلوب المتمني اليائس الحزين الذي يتطلّع إلى الأحداث من مواقع انفعاله لا من موقع تفكيره، ليوجه مشاعره نحو السقوط العاطفي، فيتحوّل ذلك إلى حالة قريبةٍ من اليأس [ليجعل اللّه ذلك حسرةً في قلوبهم] يجترونها في أحاديثهم الانفعالية. واللام هنا للعاقبة، أي لتكون عاقبة ذلك الحسرة النفسية بدلاً من الطمأنينة الروحية في مواجهة البلاء على أسلوب قوله تعالى: [فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً] (القصص: 8). وفي هذا تحذير للمسلمين أن لا يقولوا هذا القول، ولا يفكّروا بهذه الطريقة، لأنَّها تبتعد بالإنسان المؤمن عن عقيدته، وتملأ بالحسرة نفسه، فيسقط بروحه أمامها، وتعطل حركته نحو الجهاد في مواجهة الأعداء، وتسقط طموحه في الوصول إلى المواقع المتقدّمة في الحياة [واللّه يحيي ويميت] فهو الذي يملك أمر الحياة والموت من خلال سنته المتحرّكة من مواقع إرادته في خطّ حكمته وقدرته، فقد يموت الإنسان في داره في حالة الأمن والدعة، وقد يعيش الإنسان المتحرّك في مواقع الخطر في السفر الشاق والحرب الخطرة، [واللّه بما تعملون خبيرٌ] فهو المطلّع على كلّ أعمالكم في سرّكم وعلانيتكم، وعليكم مراقبته في كلّ حركة أفكاركم ومشاعركم وأقوالكم وأفعالكم، لتنسجموا مع إيمانكم الذي يحقّق لكم رضاه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كانت حادثة «أُحد» تحظى بأهمية كبيرة من وجهة نظر المسلمين وذلك من جهتين:
أولاً: لأنها كانت تعتبر خير مرآة تعكس حقيقة المسلمين في تلك المرحلة، وتساعدهم على رؤية نقاط ضعفهم، فإصلاحها وإزالتها، ولهذا السبب ركز القرآن على أحداث هذه الواقعة وملابساتها وقضاياها ذلك التركيز الكبير وأولاها ذلكم الاهتمام البالغ، فنحن نرى كيف نستفيد منها دروساً وعبراً كثيرة وكبيرة، في الآيات القادمة كما في الآيات السابقة.
ومن جهة أخرى هيأت أحداث هذه الواقعة أرضية وفرصة مناسبة للمنافقين بأن يقوموا بمحاولاتهم التشويشية، ومن أجل هذا نزلت آيات عديدة لإبطال مفعول هذه المحاولات وتفشيل هذه المساعي الماكرة، من جملتها الآيات المذكورة أعلاه.
فهذه الآيات تتوجه بالخطاب أولاً إلى المؤمنين بهدف تحطيم جهود المنافقين ومحاولاتهم التخريبية، وتحذير المسلمين منهم فتقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض، أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).
هذه الكلمات وإن كانوا يطلقونها في ستار من التعاطف وتحت قناع الإشفاق، إلاّ أنهم لم يكونوا في الحقيقة يقصدون منها إلاّ تسميم روحية المسلمين، وإضعاف معنوياتهم، وزعزعة إيمانهم، فينبغي ألا تقعوا تحت تأثيرها، وتكرروا نظائرها من العبارات.
(ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم).
إنكم أيها المؤمنون إذا وقعتم تحت تأثير هذه الكلمات المضلة الغاوية، وكررتم نظائرها ستضعف روحيتكم أيضاً، وستمتنعون أيضاً عن الخروج إلى ميادين الجهاد والسفر والرحيل من أجل الله وفي سبيله، وحينئذ سيتحقق للمنافقين ما يصبون إليه، ولكن لا تفعلوا ذلك، وتقدموا إلى سوح الجهاد وميادين القتال بمعنوية عالية، وعزم أكيد ودون تردد ولا كلل، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذلين، أبداً.
ثمّ إن القرآن الكريم يرّد على خبث المنافقين وتسويلاتهم وتشويشاتهم بثلاث أجوبة منطقية هي:
إن الموت والحياة بيد الله على كلّ حال، وإن الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغير من هذا الواقع شيئاً، وأن الله يعلم بأعمال عباده جميعها: (والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير).