قوله تعالى : { فمن حاجك فيه } أي جادلك في أمر عيسى وفي الحق .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءك من العلم } بأن عيسى عبد الله ورسوله .
قوله تعالى : { فقل تعالوا } أصله تعاليوا ، تفاعلوا ، من العلو ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ، قال الفراء : بمعنى تعال ، كأنه يقول : ارتفع .
قوله تعالى : { ندع } جزم لجواب الأمر ، وعلامة الجزم سقوط الواو .
قوله تعالى : { أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } . قيل : أبناءنا ، أراد الحسن والحسين ونساءنا فاطمة ، وأنفسنا عنى نفسه وعلياً رضي الله عنه ، والعرب تسمى ابن عم الرجل نفسه ، كما قال الله تعالى : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) . يريد إخوانكم ، وقيل : هو على العموم لجماعة أهل الدين .
قوله تعالى : { ثم نبتهل } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي نتضرع في الدعاء ، وقال الكلبي : نجتهد ونبالغ في الدعاء ، وقال الكسائي وأبو عبيدة : نبتهل ، والابتهال الالتعان يقال : عليه بهلة الله أي لعنته .
قوله تعالى : { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } منا ومنكم في أمر عيسى ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً ، فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم ، يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال : والله لقد عرفتكم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، والله مالا عن قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم . ولئن فعلتم ذلك لنهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً للحسين ، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض منكم نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن أبيتم المباهلة فأسلموا ؟ يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، فأبوا فقال : فإني أنابذكم فقالوا : مالنا بحرب العرب طاقة ، ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ، ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألفاً في صفر ، وألفاً في رجب ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال : " والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا " .
لقد لقن الله تعالى ، نبيه صلى الله عليه وسلم ، الجواب الذى يقطع لسان المجادلين بالباطل فى شأن عيسى عليه السلام ، فقال تعالى { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } . . . إلخ .
قال الفخر الرازى : اعمل أنه " سبحانه " بين أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد وأتبعهما بذكر الجواب على جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم أن يكون ابنا لله فكذلك لا يلزم من عدم الأب البشرى لعيسى أن يكون ابنا لله . ولما لم يبعد خلق آدم من التراب لم يبعد أيضاً خلق عيسى من الدم الذى كان يجتمع فى رحم أم عيسى . ومن أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى - فعند ذلك - قال سبحانه - { فَمَنْ حَآجَّكَ } بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند ، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة .
والفاء في قوله { فَمَنْ حَآجَّكَ } للتفريع على قوله - تعالى - { الحق مِن رَّبِّكَ } . . وقوله { مِن } الراجح فيها أنها شرطية . وقوله { حَآجَّكَ } من المحاجة وهى تبادل الحجة والمجادلة بين شخص وآخر .
والمعنى : فمن جادلك وخاصمك " يا محمد " من أهل الكتاب " فيه " أى فى شأن عيسى - عليه السلام - بأن زعموا أنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة أو غير ذلك من الأقاويل الكاذبة في شأنه .
وقوله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } أى فمن جادلك فى شأن عيسى من بعد الذى أنزلناه إليك وقصصناه عليك فى أمره ، فلا تبادله المجادلة ، فإنه معاند لا يقعنه الدليل مهما كان واضحا ، ولكن قل له ولأمثاله من الضالين :
{ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } .
وقوله { تَعَالَوْاْ } اسم فعل أمر لطلب القدوم . وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى " كترامى يترامى " إذا قصد العلو . فكأنهم أرادوا به فى الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور .
وقوله { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أى نتباهل ونتلاعن . فالافتعال هنا بمعنى الفاعلة أى بأن نقول : بهلة الله على الكاذب منا ومنكم . والبهلة بفتح الباء وضمها : اللعنة . يقال بهله الله يبهله بهلا لعنه الله وأبعده من رحمته ثم شاعت فى كل دعاء مجتهد فيه وإن لم يكن التعانا .
والمعنى : فإن جادلك أهل الكتاب فى شأن عيسى من بعد أن أخبرك ربك بما هو الحق من أمره فقل لهم { تَعَالَوْاْ } أى أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه الحق من الباطل ، وهو أن ندعو نحن وأنتم الأبناء والنساء ثم نجتمع جميعا في مكان واحد ، ثم نتضرع إلى الله ونبتهل إليه بأن يجعل لعنته على الكاذبين فى دعواهم المنحرفين عن الحق فى اعتقادهم .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد لقنت النبى صلى الله عليه وسلم الجواب الحاسم الذى يخرس ألسنة المجادلين في عيسى ، ويتحداهم - إن كانوا صادقين - أن يقبلوا هذه المباهلة ، ولكنهم نكصوا على أعقابهم فثبت كذبهم وضلالهم .
وهذه الآية الكريمة تسمى بآية المباهلة ، وقد ذكر العلماء أنها نزلت للرد على نصارى نجران الذين جادلوا النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن عيسى - عليه السلام - .
قال ابن كثير ما ملخصه . وكان نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا فى وفد نصارى نجران حين قدموا المدينة فجعلوا يحاجون فى عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والألوهية فأنزل صدر هذه السورة رداً عليهم . . وكانوا ستين راكبا منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم وهم : العاقب أميرهم واسمه عبد المسيح ، والسيد صاحب رحلهم واسمه الأبهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفى القصة أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله تعالى ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم . دعاهم إلى المباهلة فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر فى أمرنا . . . ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم ان محمدا لنبى مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط ، فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم .
. فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم . فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا ، فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم وأقرهم لعى خراج يؤدونه إليه .
وروى الحافظ ابن مردويه عن جابر قال : قدم على النبى صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده على وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج .
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى بعثنى بالحق لو لاعنا لأمطر عليهم الوادى ناراً " .
ثم قال : وروى البخارى عن حذيفة قال : " جاء العاقب والسيد صاحب نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، ثم قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا . . فقال : " لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " . فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : " قم يا أبا عبيدة بن الجراح " . فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا أمين هذه الأمة " " .
وقال صاحب الكشاف : إن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ؛ وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟
قلت : ذلك آكد فى الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له . وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن فى الحروب لتمنعهم من الهرب . . . وفى الآية دليل واضح على صحة نبوة النبى صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك ؟ .
وهنا - وقد وضحت القضية وظهر الحق جليا - يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى أن ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق البين وأن يدعوهم إلى المباهلة كما هي مبينة في الآية التالية :
( فمن حاجك فيه - من بعد ما جاءك من العلم - فقل : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم . ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) . .
وقد دعا الرسول [ ص ] من كانوا يناظرونه في هذه القضية إلى هذا الاجتماع الحاشد ، ليبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين . فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة . وتبين الحق واضحا . ولكنهم فيما ورد من الروايات لم يسلموا احتفاظا بمكانتهم من قومهم ، وبما كان يتمتع به رجال الكنيسة من سلطان وجاه ومصالح ونعيم ! ! ! وما كانت البينة هي التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين إنما هي المصالح والمطامع والهوى يصد الناس عن الحق الواضح الذي لا خفاء فيه .
{ فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَمَنْ حاجّكَ فِيهِ } : فمن جادلك يا محمد في المسيح عيسى ابن مريم . والهاء في قوله : { فِيهِ } عائدة على ذكر عيسى ، وجائز أن تكون عائدة على الحقّ الذي قال تعالى ذكره : { الحَقّ مِنْ رَبّكَ } . ويعني بقوله : { مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ } : من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بينته لك في عيسى أنه عبد الله . { فَقُلْ تَعَالَوْا } هلموا فلندعْ أبناءنا وأبناءكم ، ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم ، { ثم نَبْتَهِلْ } يقول : ثم نلتعن ، يقال في الكلام : ما له بَهَلَهَ الله ! أي لعنه الله ، وما له عليه بُهْلَة الله ! يريد اللعن . وقال لَبيد ، وذكر قوما هلكوا ، فقال :
*** نَظَرَ الدّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ ***
يعني دعا عليهم بالهلاك . { فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ } منا ومنكم في آية عيسى . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ } : أي في عيسى أنه عبد الله ورسوله من كلمة الله وروحه . { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْع أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ } إلى قوله : { على الكاذِبِينَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { فَمَنْ حاجّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ } : أي من بعد ما قصصت عليك من خبره ، وكيف كان أمره { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْناءَكُمْ } . . . الاَية .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { فَمَنْ حاجّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ } يقول : من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { ثُمّ تَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ على الكاذِبِينَ } قال : منا ومنكم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : وثني ابن لهيعة ، عن سليمان بن زياد الحضرمي عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي ، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ أهْلِ نَجْرَانَ حِجابا فَلا أرَاهُمْ وَلا يَرَوْنِي » من شدّة ما كانوا يمارون النبيّ صلى الله عليه وسلم .
تفريع على قوله : { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } لما فيه من إيماء إلى أنّ وفد نجران ممترون في هذا الذي بَيّن الله لهم في هذه الآيات : أي فإن استمرّوا على محاجتهم إياك مكابرةً في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة . ذلك أنّ تصْميمَهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محْضة بعد ما جاءك من العلم وبينتَ لهم ، فلم يبق أوضحُ مما حاجَجْتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة ، وقلة يقين ، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا .
و { تعالوا } اسم فعل لطلب القدوم ، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قَصد العلوّ ، فكأنّهم أرادوا به في الأصل أمراً بالصعود إلى مكان عالٍ تشريفاً للمدعُو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور ، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني :
أيَا جَارَتَا مَا أنْصَفَ الدهرُ بيننا *** تَعَالِي أقَاسِمْكِ الهُمُومَ تَعَالِي
ومعنى { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره ، والمقصود هو قوله : { ثم نبتهل } إلى آخره .
والابتهال مشتق من البَهْل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقاً لأنّ الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول .
ومعنى { فنجعل لعنت الله } فنَدْعُ بإيقاع اللعنة على الكاذبين . وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاءٌ لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يَكفُوا . روى المفسرون وأهل السيرة أنّ وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب : نلاعنه فوالله لئن كان نبيئاً فلاعننا لا نفلح أبداً ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي .
وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم .
وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء : لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا ، عُلم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب { أرَهْطِيَ أعَزُّ علَيكم من الله } وأنه يخشى سوء العيش ، وفقدان الأهل ، ولا يخشى عذاب الآخرة .
والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارَك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين ، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللاّئي كُنَّ معهم .
والنساء : الأزواج لا محالة ، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا وَرَد غير مضاف ، قال تعالى : { يا نساء النبيء لستُنّ كأحدٍ من النساء } [ الأحزاب : 32 ] وقال : { ونساء المؤمنين } وقال النابغة :
حِذارَا على أنْ لاَ تُنَالَ مَقَادَتِي *** ولاَ نِسْوَتِي حَتى يَمُتْن حَرائرا
والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم ، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم ، ويحتمل أنه يشمل الصبيان ، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة .
والابتهال افتعال من البهل ، وهو اللعن ، يقال : بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بَهلة وبُهلة بالضم والفتح ثم استعمل الابتهال مجازاً مشهوراً في مطلق الدعاء قال الأعشى :
لا تقعدنَّ وقد أكَّلّتَها حطباً . . . تعوذ من شرّها يوماً وتبتهل
وهو المراد هنا بدليل أنّه فرّع عليه قوله : { فنجعل لعنت الله على الكاذبين } .
وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلاّ واثق بأنه على الحق . وهذه المباهلة لم تقع لأنّ نصارى نجران لم يستجيبوا إليها . وقد روى أبو نعيم في الدلائل أنّ النبي هيأ علياً وفاطمةً وحَسَناً وحُسَيناً ليصحبهم معه للمباهلة . ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فمن حاجك فيه}: فمن خاصمك في عيسى، {من بعد ما جاءك من العلم}: يعني من البيان من أمر عيسى، يعني ما ذكر في هذه الآيات، {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل}: نخلص الدعاء إلى الله عز وجل، {فنجعل لعنة الله على الكاذبين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فَمَنْ حاجّكَ فِيهِ}: فمن جادلك يا محمد في المسيح عيسى ابن مريم، والهاء في قوله: {فِيهِ} عائدة على ذكر عيسى، وجائز أن تكون عائدة على الحقّ الذي قال تعالى ذكره: {الحَقّ مِنْ رَبّكَ}. {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ}: من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بينته لك في عيسى أنه عبد الله. {فَقُلْ تَعَالَوْا}: هلموا فلندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم. {ثم نَبْتَهِلْ} يقول: ثم نلتعن، يقال في الكلام: ما له بَهَلَهَ الله! أي لعنه الله، وما له عليه بُهْلَة الله! يريد اللعن. {فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ}: منا ومنكم في آية عيسى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين، فامتنعوا عن ذلك خوفا منهم لخوف اللعنة، فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم، لكنهم تعاموا، وكابروا، فلم يقروا بالحق. وفي الدعاء إلى المباهلة دلالة ظهور التعنت والعناء، وفي تخلفهم عن ذلك دليل علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وعدوا بالنزول عليهم، لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد، ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة. ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة، وإنما يكون بتوفير الحجة وقطع الشبهة، ففي ذلك بيان أنه كانت ثم محاجات حتى بلغ الأمر على ذلك: أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل، وإنما يكون عند ظهور معاندتهم وكثرة سفههم حتى هموا بالقتال، وأكثروا الأذى، وأكرهوا قوما على الكفر، وأخرجوا رسول رب العالمين من بين أظهرهم بما راموا قتله، وطردوا أصحابه من بلادهم حتى تحصنوا بالغيران، فأذن الله عند ذلك بالقتال وفتح الفتوح لتكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة، وحجته بينة، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة والتوحيد والرسالة، لكن على ما قال الله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 135]... وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن ذلك باللطف والرفق، يري المقصود به ليقرر به عنده الحجة، ويزيل عنه الشبهة من الوجه الذي يحتمله عقله، ويبلغه فهمه، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده، ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد. فإذا رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره، فتداويه بما جاء به التعليم من الضرب والحبس، فإن نفع ذلك، وإلا فكف شره عن غيره وتطهير الأرض، فإنه النهاية في القمع، والغاية في ما يحق من معاملة السفهاء، والله أعلم. لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية، بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير، والله أعلم. لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولا ليعرف بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به، ولا قوة إلا بالله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بعدما ظَهَرْتَ على صدق ما يُقال لك، وتَحقَّقْتَ بقلبك معرفة ما خاطبناك، فلا تحتشم من حملهم على المباهلة، وثقْ بأن لك القهر والنصرة، وأَنَّا توليناك، وفي كنف قُرْبنا آويناك،...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
والابتهال: الاجتهاد في دعاء اللعنة...واللعنة: الإبعاد والطرد عن الرحمة بطريق العقوبة،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {تعالوا} تفاعلوا من العلو، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك.. ودعاء النساء [والأبناء] للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين، وظاهر الأمر أن النبي عليه السلام جاءهم بما يخصه، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتاهم سبحانه وتعالى من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام بالفصل في البيان الذي ليس بعده إلا العناد، فبين أولاً ما تفضل فيه عيسى عليه الصلاة والسلام من أطوار الخلق الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ثم فضح بتمثيله بآدم عليه الصلاة والسلام شبهتَهم، ألزمهم على تقديره بالفيصل الأعظم للمعاند الموجب للعذاب المستأصل أهل الفساد فقال سبحانه وتعالى: {فمن} أي فتسبب عما آتيناك به من الحق في أمره أنا نقول لك: من {حآجك فيه} أي خاصمك بإيراد حجة، أي كلام يجعله في عداد ما يقصد.
ولما كان الملوم إنما هو من بلغته هذه الآيات وعرف معناها دون من حاج في الزمان الذي هو بعد نزولها دون اطلاعه عليها قال: {من} أي مبتدئاً المحاجة من، ويجوز أن يكون الإتيان بمن لئلا يفهم أن المباهلة تختص بمن استغرق زمان البعد بالمجادلة {بعدما جآءك من العلم} أي الذي أنزلناْه إليك وقصصناه عليك في أمره {فقل تعالوا} أي أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر نعرف فيه علو المحق وسفول المبطل {ندع أبنآءنا وأبناءكم} أي الذين هم أعز ما عند الإنسان لكونهم بعضه {ونساءنا ونساءكم} أي اللاتي هن أولى ما يدافع عنه أولو الهمم العوالي {وأنفسنا وأنفسكم} فقدم ما يدافع عنه ذوو الأحساب ويفدونه بنفوسهم، وقدم منه الأعز الألصق بالأكباد وختم بالمدافع، وهذا الترتيب على سبيل الترقي إذا اعتبرت أنه قدم الفرع ثم الأصل وبدأ بالأدنى وختم بالأعلى، وفائدة الجمع الإشارة إلى القطع بالوثوق بالكون على الحق. ثم ذكر ما له هذا الجمع مشيراً بحرف التراخي إلى خطر الأمر وأنه مما ينبغي الاهتمام به والتروي له وإمعان النظر فيه لوخامة العاقبة وسوء المنقلب للكاذب فقال: {ثم نبتهل} أي نتضرع -قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما نقله الإمام أبو حيان في نهره. وقال الحرالي: الابتهال طلب البهل، والبهل أصل معناه التخلي والضراعة في مهم مقصود- انتهى. {فنجعل لعنت الله} أي الملك الذي له العظمة كلها فهو يجير ولا يجار عليه، أي إبعاده وطرده {على الكاذبين} و قال ابن الزبير بعد ما تقدم من كلامه: ثم لما أتبعت قصة آدم عليه الصلاة والسلام -يعني في البقرة- بذكر بني إسرائيل لوقوفهم من تلك القصص على ما لم تكن العرب تعرفه، وأنذروا وحذروا؛ أتبعت قصة عيسى عليه الصلاة والسلام -يعني هنا- بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة -انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل} لهم قولا يظهر علمك الحق وارتيابهم الباطل {تعالوا ندع أبناءنا وأبناءك ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل} يقال ابتهل الرجل دعا وتضرع، والقوم تلاعنوا. وفسر الابتهال هنا بقوله: {فنجعل لعنت الله على الكاذبين} وتسمى هذه الآية آية المباهلة، وقد ورد من عدة طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا. أخرج البخاري ومسلم:" أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا. فقال له نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا فقال: قم يا أبا عبيدة فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة".
وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس "إن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله تعالى: {قل تعالوا}. فقالوا أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى قريظة والنضير وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه وقالوا: هو النبي الذي نجده في التوراة. فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم "وروي في الصلح غير ذلك. ومنها صالحوه على الجزية.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما عليهم السلام والرضوان وخرج بهم وقال: "إن أنا دعوت فأمِّنوا أنتم" وفي رواية لمسلم والترمذي وغيرهما عن سعد قال: "لما نزلت هذه الآية {قل تعالوا} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال: اللهم هؤلاء أهلي" وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه {قل تعالوا ندع أبناءنا} قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده. والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين.
قال الأستاذ الإمام: الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نساءنا على علي وفاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف. وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة. ولكن واضيعها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة "نساءنا" لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم. وأبعد من ذلك ان يراد بأنفسنا علي عليه الرضوان. ثم إن وفد النجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم. وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومماراتهم فيما يقولون وزلزالهم فيما يعتقدون وكونهم على غير بينة ولا يقين. وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته؟ وأي جراءة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا؟
قال: أما كون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى: {من بعد ما جاءك من العلم} فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله: {ندع أبناءنا وأبناءكم} إلخ وجهان أحدهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمين ندعو أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وأنتم كذلك ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص.
أقول: وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل في الأمور العامة إلا ما استثني منها ككونها لا تباشر الحرب بنفسها بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداواة الجرحى. وقد علمنا ما تقدم أن الحكمة في الدعوة إلى المباهلة هي إظهار الثقة بالاعتقاد واليقين فيه، فلو لم يعلم الله أن المؤمنات على يقين في اعتقادهن كالمؤمنين لما أشركهن معهم في هذا الحكم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{من بعد ما جاءك من العلم} بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو، لأن الحق قد تبين، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله، قصده اتباع هواه، لا اتباع ما أنزل الله، فهذا ليس فيه حيلة، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته،...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم. وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء: لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا، عُلم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب {أرَهْطِيَ أعَزُّ علَيكم من الله} وأنه يخشى سوء العيش، وفقدان الأهل، ولا يخشى عذاب الآخرة. والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارَك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللاّئي كُنَّ معهم. والنساء: الأزواج لا محالة، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا وَرَد غير مضاف، قال تعالى: {يا نساء النبيء لستُنّ كأحدٍ من النساء} [الأحزاب: 32] وقال: {ونساء المؤمنين}... والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم، ويحتمل أنه يشمل الصبيان، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المحاجة: تبادل الحجة،سواء أكانت الحجة قوية ام كانت حجة داحضة عند ربهم،... والمعنى على الأول يشير إلى ان المباهلة بين أهل الحق مجتمعين،وأهل الباطل مجتمعين،ثم يتجهون جميعا على رب العالمين؛ لأن الأمر يهم الجميع،فإما ان يذعن احد الفريقين للآخر،وإما انه يطرد من رحمة الله تعالى.وعلى الثاني يشير إلى ان المباهلة بين النبي وأسرته،وكبراء الفريق الآخر وأسرهم،... وفي الآيات الكريمة إشارة إلى عدة معان نفسية واجتماعية:
أولها:أن المجادل المماري لا تزيده الحجة القوية اقتناعا،ولا تحمله على الإذعان،إنما يحمله على الإذعان التوجيه النفسي،بأن يدرس مقدار اقتناعه هو بما يقول،وفي الابتهال وسط لجاجة أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه دعوة لهم إلى ان يفتشوا قلوبهم ويعرفوا مقدار إيمانهم بما يقولون،ومقدار الحق فيما يعدلون؛ ولذلك خروا صاغرين،ولم يستطيعوا جدالا.
وثانيها:أن الدعوة بالتي هي أحسن توجب على الداعي ألا يفرط في المجادلة،كما كان يقول الإمام مالك:بين الحق ولا تجادل فيه،فإن كل مجادلة توجب على الفريق الآخر ان يلتزم موقفه.
ثالثها:انه يجب ان تعلم الذرية والنساء شئون الدين؛ ولذلك كانوا مشتركين في تلك المنزلة بين الحق والباطل وهذه المعركة النفسية الفاصلة بين إيمان المؤمنين،وانحراف المنحرفين.
ورابعها:التعاون الفكري والنفسي بين المؤمنين؛ فإن تلك المباهلة كانت بين اهل الإيمان متعاونين على دعوة الحق،وأهل الباطل مدعوين إلى التعاون عليه فيها عن كانوا مؤمنين به،فلم يحيروا جوابا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم...).
بعد الآيات التي استدلّ فيها على بطلان القول بألوهية عيسى بن مريم، يأمر الله نبيّه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة. وأمره أن يقول لهم: إنّي سأدعو أبنائي، وأنتم ادعوا أبناءكم، وأدعو نسائي، وأنتم ادعوا نساءكم، وأدعو نفسي، وتدعون أنتم أنفسكم، وعندئذ ندعو الله أن ينزل لعنته على الكاذب منّا (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين).
ولا حاجة للقول بأنّ القصد من المباهلة لم يكن إحضار جمع من الناس للّعن، ثمّ ليتفرّقوا كلٌ إلى سبيله، لأنّ عملاً كهذا لن يكون له أيّ تأثير، بل كان المنتظر أن يكون لهذا الدعاء واللعن أثر مشهود عياناً فيحيق بالكاذب عذاب فوري.
وبعبارة أخرى: فإنّ المباهلة وإن لم يكن في الآية ما يشير إلى تأثيرها كانت بمثابة «السهم الأخير» بعد أن لم ينفع المنطق والاستدلال، فإنّ الدعاء وحده لم يكن المقصود بها، بل كان المقصود منها هو «أثرها الخارجي».
المباهلة دليل قاطع على أحقية نبي الإسلام:
لعلّ قضية المباهلة بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب، بل كانت أُسلوباً يبيّن صدق النبيّ وإيمانه بشكل قاطع. إذ كيف يمكن لمن لا يؤمن كلّ الإيمان بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان، فيطلب من معارضيه أن يتقدّموا معه إلى الله يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب، وأن يروا سرعة ما يحلّ بالكاذب من عقاب؟! لاشكّ أنّ دخول هذا الميدان خطر جدّاً، لأن المبتهل إذا لم يجد استجابة لدعائه ولم يظهر أيّ أثر لعقاب الله على معارضيه، فلن تكون النتيجة سوى فضيحة المبتهل. فكيف يمكن لإنسان عاقل ومدرك أن يخطو مثل هذه الخطوة دون أن يكون مطمئناً إلى أنّ النتيجة في صالحه؟ لهذا قيل إنّ دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة تعتبر واحداً من الأدلّة على صدق دعوته وإيمانه الراسخ بها، بصرف النظر عن النتائج التي كانت ستكشف عنها المباهلة.