15- فلأجل وحدة الدين ، وعدم التفرق فيه ، فادعهم إلى إقامة الدين ، وثابر على تلك الدعوة كما أمرك الله ، ولا تساير أهواء المشركين ، وقل : آمنت بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله ، وأمرني الله بإقامة العدل بينكم ، وقل لهم : الله خالقنا وخالقكم ، لنا أعمالنا لا لكم ، ولكم أعمالكم لا لنا ، لا احتجاج بيننا وبينكم لوضوح الحق . الله يجمع بيننا للفصل بالعدل ، وإليه - وحده - المرجع والمآل .
قوله تعالى : { فلذلك فادع } أي : فإلى ذلك ، كما يقال : دعوت إلى فلان ولفلان ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد ، { واستقم كما أمرت } أي : اثبت على الدين الذي أمرت به ، { ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أي : آمنت بكتب الله كلها ، { وأمرت لأعدل بينكم } أن أعدل بينك . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام . وقيل : لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء ، { الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } يعني : إلهنا واحد ، وإن اختلفت أعمالنا ، فكل يجازى بعمله . { لا حجةً } لا خصومة . { بيننا وبينكم } نسختها آية القتال ، فإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة ، { الله يجمع بيننا } في المعاد لفصل القضاء . { وإليه المصير }
ثم حض - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - على المضى فى دعوته فقال : { فَلِذَلِكَ فادع } .
واسم الإِشارة يعود إلى ما سبق الحديث عنه من ذم التفرق ، ومن الأمر بإقامة الدين ، أى : فلأجل ما أمرناك به من دعوة الناس إلى إقامة الدين وإلى النهى عن الاختلاف والتفرق ، من أجل ذلك فادع الناس إلى الحق الذى بعثناك به ، وإلى جمعهم على كلمة التوحيد ، التى تجعلهم يعيشون حياتهم آمنين مطمئنين .
{ واستقم كَمَآ أُمِرْتَ } أى : واستقم على الصراط الذى كلفناك بالسير على نهجه . والزم المنهج القويم الذى أمرناك بالتزامه .
{ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } أى : ولا تتبع شيئا من أهواء هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا .
{ وَقُلْ } لهم بكل ثبات وقوة { آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ } أى : آمنت بكل ما أنزله - تعالى - من كتب سماوية ، فالمراد بالكتاب : جنسه .
{ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أى : وأمرنى ربى أن أعدل بينكم فى الحكم عند رفع قضاياكم إلىّ ، فإن العدل شريعة الله تعالى .
{ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أى : الله - تعالى - وحده هو الخالق لنا ولكم ، وهو المنعم علينا وعليكم بالنعم التى لا تحصى .
{ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أى : لنا أعمالنا التى سيحاسبنا الله عليها يوم القيامة ، ولكم أنتم أعمالكم التى ستحاسبون عليها ، فنحن لا نسأل عن أعمالكم وأنتم لا تسألون عن أعمالنا .
{ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أى : لا احتجاج ولا خصومة بيننا وبينكم ، لأن الحق قد ظهر ، فلم يبق للجدال أو الخصام حاجة بيننا وبينكم .
{ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير } أى . الله - تعالى - يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة ، وإليه وحده ، مصيرنا ومصيركم ، وسيجازى كل فريق منا ومنكم بما يستحقه من جزاء .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على عشر جمل ، هذه الجمل الكريمة قد جاءت بأسمى ألوان الدعوة إلى الله - تعالى - بالحكمة والموعظة الحسنة .
( فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب . وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم . لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . لا حجة بيننا وبينكم . الله يجمع بيننا ، وإليه المصير ) . .
إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء . القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت . تدعو إلى الله على بصيرة . وتستقيم على أمر الله دون انحراف . وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك . القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق . والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد ، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد : ( وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ) . . ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل . ( وأمرت لأعدل بينكم ) . . فهي قيادة ذات سلطان ، تعلن العدل في الأرض بين الجميع . [ هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها . ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة ] . وتعلن الربوبية الواحدة : ( الله ربنا وربكم ) . . وتعلن فردية التبعة : ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) . . وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل : ( لا حجة بيننا وبينكم ) . . وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير : ( الله يجمع بيننا وإليه المصير ) . .
وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة ، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق . فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر . وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض . وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 15 )
يقول تعالى ذكره : فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم ، ووصّى به نوحا ، وأوحاه إليك يا محمد ، فادع عباد الله ، واستقم على العمل به ، ولا تزغ عنه ، واثبت عليه كما أمرك ربك بالاستقامة . وقيل : فلذلك فادع ، والمعنى : فإلى ذلك ، فوضعت اللام موضع إلى ، كما قيل : بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا وقد بيَّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا .
وكان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك ، في قوله : ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ ) إلى معنى هذا ، ويقول : معنى الكلام : فإلى هذا القرآن فادع واستقم . والذي قال من هذا القول قريب المعنى مما قلناه ، غير أن الذي قلنا في ذلك أولى بتأويل الكلام ، لأنه في سياق خبر الله جلّ ثناؤه عما شرع لكم من الدين لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإقامته ، ولم يأت من الكلام ما يدلّ على انصرافه عنه إلى غيره .
وقوله : ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : ولا تتبع يا محمد أهواء الذين شكُّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم ، فتشك فيه ، كالذي شكوا فيه .
يقول تعالى ذكره : وقل لهم يا محمد : صدّقت بما أنزل الله من كتاب كائنا ما كان ذلك الكتاب ، توراة كان أو إنجيلا أو زبورا أو صحف إبراهيم ، لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب ، وتصديقكم ببعض .
وقوله : ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) يقول تعالى ذكره : وقل لهم يا محمد : وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب ، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه .
كالذي حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) قال : أمر نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعدل ، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه . والعدل ميزان الله في الأرض ، به يأخذ للمظلوم من الظالم ، وللضعيف من الشديد ، وبالعدل يصدّق الله الصادق ، ويكذّب الكاذب ، وبالعدل يردّ المعتدي ويوبخه .
ذكر لنا أن نبي الله داود عليه السلام : كان يقول : ثلاث من كن فيه أعجبني جدا : القصد في الفاقة والغنى ، والعدل في الرضا والغضب ، والخشية في السر والعلانية ؛ وثلاث من كن فيه أهلكه : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه . وأربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة : لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وبدن صابر ، وزوجة مؤمنة .
واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله : ( وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) فقال بعض نحويي البصرة : معناها : كي ، وأمرت كي أعدل ؛ وقال غيره : معنى الكلام : وأمرت بالعدل ، والأمر واقع على ما بعده ، وليست اللام التي في لأعدل بشرط ؛ قال : ( وَأُمِرْتُ ) تقع على " أن " وعلى " كي " واللام أمرت أن أعبد ، وكي أعبد ، ولأعبد . قال : وكذلك كلّ من طالب الاستقبال ، ففيه هذه الأوجه الثلاثة .
والصواب من القول في ذلك عندي أن الأمر عامل في معنى لأعدل ، لأن معناه : وأمرت بالعدل بينكم .
وقوله : ( اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ) يقول : الله مالكنا ومالكم معشر الأحزاب ما أهل الكتابين التوراة والإنجيل .
يقول : لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال ، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها .
وقوله : ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ) يقول : لا خصومة بيننا وبينكم . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ والحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم ) قال : لا خصومة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عز وجل : ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ) لا خصومة بيننا وبينكم ، وقرأ : وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . . . . إلى آخر الآية .
وقوله : ( اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ) يقول : الله يجمع بيننا يوم القيامة ، فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه . ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) يقول : وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا .
{ وَالّذِينَ يُحَآجّونَ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }
يقول تعالى ذكره : والذين يخاصمون في دين الله الذي ابتعث به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من بعد ما استجاب له الناس ، فدخلوا فيه من الذين أورثوا الكتاب حُجّتُهُمْ داحِضَةٌ يقول : خصومتهم التي يخاصمون فيه باطلة ذاهبة عند ربهم وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ يقول : وعليهم من الله غضب ، ولهم في الاَخرة عذاب شديد ، وهو عذاب النار .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من اليهود خاصموا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينهم ، وطمعوا أن يصدّوهم عنه ، ويردّوهم عن الإسلام إلى الكفر . ذكر الرواية عمن ذكر ذلك عنه :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبّهِمْ ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ، ولَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ قال : هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين ، ويصدّونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله . وقال : هم أهل الضلالة كان استجيب لهم على ضلالتهم ، وهم يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَالّذِينَ يُحاجّونَ في اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ قال : طمع رجال بأن تعود الجاهلية .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الاَية وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتَجيبَ لَهُ قال : بعد ما دخل الناس في الإسلام .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَالّذِينَ يُحاجّونَ في الله مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ داحضَةٌ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : هم اليهود والنصارى ، قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ ما اسْتَجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ داحِضَةٌ . . . الاَية ، قال : هم اليهود والنصارى حاجوا أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن أولى بالله منكم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالّذِينَ يُحاجُونَ فِي اللّهِ . . . إلى آخر الاَية ، قال : نهاه عن الخصومة .
اللام في قوله : { فلذلك } قالت فرقة : هي بمنزلة إلى ، كما قال تعالى : { بأن ربك أوحى لها }{[10121]} أي إليها ، كأنه قال : فإلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد { فادع } ، وقالت فرقة : بل هي بمعنى من أجل كأنه قال : فمن أجل أن الأمر كذا ولكونه كذا { فادع } أنت إلى ربك وبلغ ما أرسلت به . وخوطب عليه السلام بأمر الاستقامة ، وقد كان مستقيماً ، بمعنى : دم على استقامتك ، وهكذا الشأن في كل مأمور بشيء هو متلبس به إنما معناه الدوام ، وهذه الآية ونحوها كانت نصب عين النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت شديدة الموقع من نفسه ، أعني قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت }{[10122]} [ هود : 112 ] لأنها جملة تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوءة ، وفي هذا المعنى قال عليه السلام : «شيبتني هود وأخواتها » ، فقيل له : لم ذلك ؟ فقال : لأن فيها { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله تعالى وقال هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا ولن تحصوا{[10123]} .
وقوله تعالى : { ولا تتبع أهواءهم } يعني قريشاً فيما كانوا يهوونه من أن يعظم آلهتهم وغير ذلك ، ثم أمره تعالى أن يؤمن بالكتب المنزلة قبله من عند الله ، وهو أمر يعم سائر أمته .
وقوله تعالى : { وأمرت لأعدل بينكم } قالت فرقة : اللام في { لأعدل } بمعنى : أن ، التقدير : بأن أعدل بينكم . وقالت فرقة المعنى : وأمرت بما أمرت به من التبليغ والشرع لكي أعدل بينكم ، فحذف من الكلام ما يدل الظاهر عليه .
وقوله : { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } إلى آخر الآية منسوخ ما فيه من موادعة بآية السيف .
وقوله : { لا حجة بيننا وبينكم } أي لا جدال ولا مناظرة ، قد وضح الحق وأنتم تعاندون ، وفي قوله تعالى : { الله يجمع بيننا } وعيد .
الفاء للتفريع على قوله : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } [ الشورى : 13 ] إلى آخره ، المفسر بقوله : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] المخلل بعضه بجمل معترضة من قوله : { كبر على المشركين إلى من ينيب } [ الشورى : 13 ] .
واللام يجوز أن تكون للتعليل وتكونَ الإشارة بذلك إلى المذكور ، أي جميع ما تقدم من الأمر بإقامة الدّين والنهي عن التفرق فيه وتلقي المشركين للدعوة بالتجهم وتلقي المؤمنين لها بالقبول والإنابة ، وتلقي أهل الكتاب لها بالشك ، أي فلأجل جميع ما ذكر فادعُ واستقِم ، أي لأجل جميع ما تقدم من حصول الاهتداء لمن هداهم الله ومن تبرم المشركين ومن شك أهل الكتاب فادْع .
ولم يذكر مفعول ( ادْع ) لدلالة ما تقدم عليه ، أي ادع المشركين والذين أوتوا الكتاب والذين اهتدوا وأنابوا . وتقديم ( لذلك ) على متعلقه وهو فعل ( ادع ) للاهتمام بما احتوى عليه اسم الإشارة إذ هو مجموع أسباب للأمر بالدوام على الدعوة . ويجوز أن تكون اللام في قوله : { فلذلك } لامَ التقوية وتكون مع مجرورها مفعول ( ادعُ ) . والإشارة إلى { الدّين من قوله : { شرع لكم من الدين } [ الشورى : 13 ] أي فادع لذلك الدّين .
وتقديم المجرور على متعلَّقه للاهتمام بالدّين .
وفعل الأمر في قوله : { فادع } مستعمل في الدّوام على الدّعوة كقوله : { يا أيها الذّين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] ، بقرينة قوله : { كما أُمرت } ، وفي هذا إبطال لشبهتهم في الجهة الثالثة المتقدمة عند قوله تعالى : { كَبُر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] .
والفاء في قوله : { فادع } يجوز أن تكون مؤكدة لفاء التفريع التي قبلها ، ويجوز أن تكون مضمنة معنى الجزاء لما في تقديم المجرور من مشابهة معنى الشرط كما في قوله تعالى : { فبذلك فليفرحوا } [ يونس : 58 ] .
والاستقامة : الاعتدال ، والسين والتاء فيها للمبالغة مثل : أجاب واستجاب . والمراد هنا الاعتدال المجازي وهو اعتدال الأمور النفسانية من التقوى ومكارم الأخلاق ، وإنّما أُمر بالاستقامة ، أي الدوام عليها ، للإشارة إلى أن كمال الدعوة إلى الحق لا يحصل إلا إذا كان الداعي مستقيماً في نفسه .
والكاف في { كما أمرت } لتشبيه معنى المماثلة ، أي دعوة واستقامة مثل الذي أمرت به ، أي على وفاقه ، أي وافية بما أمرت به . وهذه الكاف مما يسمى كاف التعليل كقوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] ، وليس التعليل من معاني الكاف في التحقيق ولكنه حاصلُ معنًى يعرض في استعمال الكاف إذا أريد تشبيه عاملها بمدخولها على معنى المطابقة والموافقة .
والاتِّباع يطلق مجازاً على المجاراة والموافقة ، وعلى المحاكاة والمماثلة في العمل ، والمراد هنا كِلا الإطلاقين ليرجع النهي إلى النهي عن مخالفة الأمرين المأمور بهما في قوله { فادع واستقم } .
وضمير { أهواءهم } للذين ذكروا من قبل من المشركين والذين أوتوا الكتاب ، والمقصود : نهي المسلمين عن ذلك من باب { لَئن أشركتَ ليحبَطَنَّ عَمَلُك } [ الزمر : 65 ] ألا ترى إلى قوله : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } في سورة هود ( 112 ) .
ويجوز أن يكون معنى { ولاَ تتبع أهواءَهم } لا تجارِهم في معاملتهم ، أي لا يحملك طعنهم في دعوتك على عدم ذكر فضائل رُسلهم وهدي كتبهم عدا ما بدَّلوه منها فأعْلِن بأنك مؤمن بكتبهم ، ولذلك عطف على قوله : { ولا تتبع أهواءهم } قولُه : { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } الآية ، فموقع واو العطف فيه بمنزلة موقع فاء التفريع . ويكون المعنى كقوله تعالى : { ولا يَجْرِمنَّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } في سورة المائدة ( 8 ) .
والأهواء : جمع هوى وهو المحبة ، وغلب على محبة ما لاَ نفع فيه ، أي ادعهم إلى الحق وإن كرهوه ، واستقم أنت ومن معك وإن عادَاكم أهل الكتاب فهم يحبون أن تتبعوا ملتهم ، وهذا من معنى قوله : { ولن ترضَى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قُل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } [ البقرة : 120 ] .
وقوله : { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } بعد قوله : { فادع } أمرٌ بمخالفة اليهود إذ قالوا : { نؤمن ببعضٍ } [ النساء : 150 ] يعنون التوراة ، { ونكفر ببعضٍ } [ النساء : 150 ] يعنون الإنجيل والقرآن ، فأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالإيمان بالكتب الثلاثة الموحى بها من الله كما قال تعالى : { وتؤمنون بالكتاب كلّه } [ آل عمران : 119 ] . فالمعنى : وقل لمن يهمه هذا القول وهم اليهود . وإنما أمر بأن يقول ذلك إعلاناً به وإبلاغاً لأسماع اليهود ، فلا يقابِل إنكارَهم حقّيَّةَ كتابه بإنكاره حقّيّةَ كتابهم وفي هذا إظهار لِما تشتمل عليه دعوته من الإنصاف .
و { من كتاب } بيان لما أنزل الله ، فالتنكير في { كتاب } للنوعية ، أي بأي كتاب أنزله الله وليس يومئذٍ كتاب معروف غير التوراة والإنجيل والقرآن .
وضمير { بينكم } خِطاب للذين أمر بأن يُوجه هذا القول إليهم وهم اليهود ، أي أمرت أن أقيم بينَكم العدل بأن أدعوكم إلى الحق ولا أظلمكم لأجل عداواتكم ولكني أنفذ أمر الله فيكم ولا أنتمي إلى اليهود ولا إلى النصارى . ومعنى { بينكم } أنني أقيم العدل بينكم فلا ترون بينكم جوراً مني ، ف ( بين ) هنا ظرف متحد غير موزَّع فهو بمعنى وسَط الجَمع وخلالَه ، بخلاف ( بين ) في قول القائل : قضَى بين الخصمين أو قسم المال بين العفاة . فليس المعنى : لأعدل بين فرقكم إذ لا يقتضيه السياق .
وفي هذه الآية مع كونها نازلة في مكة في زمن ضعف المسلمين إعجاز بالغيب يدل على أن الرّسول صلى الله عليه وسلم سيكون له الحكم على يهود بلاد العرب مثل أهل خيبر وتيماءَ وقُريظة والنضِير وبني قَيْنُقَاع ، وقد عَدَل فيهم وأقرهم على أمرهم حتى ظاهروا عليه الأحزاب كما تقدم في سورة الأحزاب .
واللام في قوله : { لأعدل } لامٌ يكثر وقوعها بعد أفعال مادتَيْ الأمر والإرَادة ، نحو قوله تعالى : { يُريد الله ليبيّنَ لكم } [ النساء : 26 ] ، وتقدم الكلام عليها وبعضهم يجعلها زائدة .
وجملة { الله ربنا وربكم } من المأمور بأن يقوله . فهي كلها جملة مستأنفة عن جُملة { آمنت بما أنزل الله من كتاب } مقررةٌ لمضمونها لأن المقصود من جملة { الله ربنا وربكم } بِحذَافِرها هو قوله : { لا حجة بيننا وبينكم } فهي مقررة لمضمون { آمنت بما أنزل الله من كتاب } ، وإنما ابتدئت بجملتي { الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } تمهيداً للغرض المقصود وهو لا حجة بيننا وبينكم ، فلذلك كانت الجمل كلّها مفصولة عن جملة { آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم } .
والمقصود من قوله : { الله ربنا وربكم } أننا متفقون على توحيد الله تعالى كقوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً } [ آل عمران : 64 ] الآية ، أي فالله الشهيد علينا وعليكم إذ كذبتم كتاباً أنزل من عنده ، فالخبر مستعمل في التسجيل والإلزام .
وجملة { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } دعوةُ إنصاف ، أي أن الله يجازي كُلاً بعمله . وهذا خبر مستعمل في التهديد والتنبيه على الخطأ . وجملة { لا حجة بيننا وبينكم } هي الغرض المقصود بعد قوله { وأُمرت لأعدل بينكم } أي أعدل بينكم ولا أخاصمكم على إنكاركم صدقي .
والحجة : الدليل الذي يدلّ المسوق إليه على صدق دعوى القائم به وإنما تكون الحجة بين مختلِفين في دعوى . ونفيُ الحجة نفي جنس يجوز أن يكون كناية عن نفي المجادلة التي من شأنها وقوع الاحتجاج كناية عن عدم التصدّي لخصومتهم فيكون المعنى الامساكُ عن مجادلتهم لأن الحق ظهر وهم مكابرون فيه وهذا تعريض بأن الجدال معهم ليس بذي جدوَى . ويجوز أن يكون المنفي جنسَ الحجة المفيدةِ ، بمعونة القرينة مثل : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب . والمعنى : أن الاستمرار على الاحتجاج عليهم بعد ما أظهر لهم من الأدلة يكون من العبث ، وهذا تعريض بأنهم مُكَابرون . وأيّاً مّا كان فليس هذا النفي مستعملاً في النهي عن التصدّي للاحتجاج عليهم فقد حاجّهم القرآن في آيات كثيرة نزلت بعدَ هذه وحاجّهم النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الرجم وقد قال الله تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } [ العنكبوت : 46 ] فالاستثناء صريح في مشروعية مجادلتهم .
و ( بين ) المكررة في قوله : { بيننا وبينكم } ظرف موزع على جماعاتتِ أو أفرادِ ضمير المتكلم المشارَككِ . وضمير المخاطبين ، كما يقال : قَسم بينهم ، وهذا مخالف ل ( بين ) المتقدم آنفاً .
والمراد بالجمع في قوله : { الله يجمع بيننا } الحشر لفصل القضاء ، فيومئذٍ يتبين المحق من المبطل ، وهذا كلام منصف . ولما كان مثل هذا الكلام لا يصدر إلا من الواثق بحقه كان خطابُهم به مستعملاً في المتاركة والمحاجزة ، أي سأترك جدالكم ومحاجّتكم لقلة جدواها فيكم وأفوض أمري إلى الله يقضي بيننا يوم يجمعنا ، فهذا تعريض بأن القضاء سيكون له عليهم . وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : { الله يجمع بيننا } للتقوّي ، أي تحقيق وقوع هذا الجمع وإلا فإن المخاطبين وهم اليهود يثبتون البعث .
و ( بَين ) هنا ظرف موزَّع مثلُ الذي في قوله : { لا حجة بيننا وبينكم } .
وجملة { وإليه المصير } عطف على جملة { يجمع بيننا } . والتعريف في { المصير } للاستغراق ، أي مصير النّاس كلّهم ، فبذلك كانت الجملة تذييلاً بما فيها من العموم ، أي مصيرنا ومصيركم ومصير الخلق كلهم .
وهذه الجمل الأربع تقتضي المحاجزة بين المؤمنين وبين اليهود وهي محاجزة في المقاولة ومتاركة في المقاتلة في ذلك الوقت حتى أذن الله في قتالهم لما ظاهروا الأحزاب .
وليس في صيغ هذه الجمل ما يقتضي دوام المتاركة إذ ليس فيها ما يقتضي عموم الأزمنة فليس الأمر بقتال بعضهم بعد يوم الأحزاب ناسخاً لهذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلذلك فادع} يعني إلى التوحيد، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ادع أهل الكتاب إلى معرفة ربك، إلى هذا التوحيد.
{واستقم}: وامض، {كما أمرت} بالتوحيد، كقوله في الزمر: {فاعبد الله} [الزمر:2]
{ولا تتبع أهواءهم} في ترك الدعاء، وذلك حين دعاه أهل الكتاب إلى دينهم.
{وقل} لأهل الكتاب: {آمنت}: صدقت، {بما أنزل الله من كتاب} يعني القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور.
{وأمرت لأعدل بينكم} بين أهل الكتاب في القول، يقول: أعدل بما آتاني الله في كتابه، والعدل أنه دعاهم إلى دينه.
{الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكن أعمالكم}: لنا ديننا الذي نحن عليه، ولكم دينكم الذي أنتم عليه.
{لا حجة}: لا خصومة، {بيننا وبينكم} في الدين، يعني أهل الكتاب، نسختها آية القتال في براءة.
{الله يجمع بيننا} في الآخرة، فيجازينا بأعمالنا، ويجازيكم، {وإليه المصير}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم، ووصّى به نوحا، وأوحاه إليك يا محمد، فادع عباد الله، واستقم على العمل به، ولا تزغ عنه، واثبت عليه كما أمرك ربك بالاستقامة...
وقوله:"وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ" يقول تعالى ذكره: ولا تتبع يا محمد أهواء الذين شكُّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم، فتشك فيه، كالذي شكوا فيه.
يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: صدّقت بما أنزل الله من كتاب كائنا ما كان ذلك الكتاب، توراة كان أو إنجيلا أو زبورا أو صحف إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعض.
وقوله: "وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ "يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه...
وقوله: "اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ" يقول: الله مالكنا ومالكم معشر الأحزاب من أهل الكتابين التوراة والإنجيل.
يقول: لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها.
وقوله: "لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ" يقول: لا خصومة بيننا وبينكم... وقوله: "اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا" يقول: الله يجمع بيننا يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه. "وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" يقول: وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختُلف في قوله: {فلذلك فادع واستقم} قيل: فلذلك وعد أن ينزل عليك، فادعُ. وقال بعضهم: أي وإلى ذلك الكتاب فادع.
{واستقِم كما أمرت} دليل على أنه كان قد سبق له الأمر بالاستقامة، ثم يحتمل ما ذكر من الاستقامة التي أمر بها، هو تبليغ الرسالة إليهم.
ويحتمل الاستقامة في التوحيد له ودعاء الخلق إليه.
{لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} هذا يخرّج على وجهين:
أحدهما: على المنابذة كقوله: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] وإنما يُقال هذا بعد ما تبلغ الحُجج غايتها، والحِجاج نهايته، فلم ينجع ذلك فيهم، وأيِس منهم.
والثاني: إنا لا نُؤاخَذ بأعمالكم، ولا أنتم تُؤاخَذون بأعمالنا [كقوله تعالى] {فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حُمّلتم} [النور: 54] ونحوه.
{لا حجة بيننا وبينكم} يحتمل {لا حجّة بيننا وبينكم} أي لا حجّة بقيت في ما ادّعيتُ ودعوتُكم إليه إلا وقد أقمتُها عليكم، أي لم تبق حجة في ذلك إلا وقد أقمتُها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(لا حجة بيننا وبينكم) قيل: معناه إن الحجة لنا عليكم لظهورها، وليست بيننا بالاشتباه والالتباس.
وقيل: معناه لا حجة بيننا وبينكم لظهور أمركم في البغي علينا والعداوة لنا والمعاندة، لا على طريق الشبهة، وليس ذلك على جهة تحريم إقامة الحجة؛ لأنه لم يلزم قبول الدعوة إلا بالحجة التي يظهر بها الحق من الباطل؛ فإذا صار الإنسان إلى البغي والعداوة سقط الحجاج بينه وبين أهل الحق.
(الله يجمع بيننا يوم القيامة واليه المصير) أي المرجع حيث لا يملك أحد الحكم فيه ولا الأمر والنهي غيره، فيحكم بيننا بالحق، وفي ذلك غاية التهديد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
خوطب عليه السلام بأمر الاستقامة، وقد كان مستقيماً، بمعنى: دم على استقامتك، وهكذا الشأن في كل مأمور بشيء هو متلبس به إنما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نصب عين النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت شديدة الموقع من نفسه، أعني قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112]؛ لأنها جملة تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوءة، وفي هذا المعنى قال عليه السلام: «شيبتني هود وأخواتها»، فقيل له: لم ذلك؟ فقال: لأن فيها {فاستقم كما أمرت} [هود: 112] وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله تعالى وقال هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا ولن تحصوا...
{وأمرت لأعدل بينكم} أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي، قل القفال: معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه، لكني أسوي بينكم وبين نفسي، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله...
وأعلم أنه ليس المراد من قوله {لا حجة بيننا وبينكم} تحريم ما يجري مجرى محاجتهم، ويدل عليه وجوه:
(الأول) أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجة، فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة، لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض.
(والثاني) أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف...
(الثالث) أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما تركوا تصديقه بغيا وعنادا، فبين تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم؛ لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة البتة، ومما يقوي قولنا: أنه لا يجوز تحريم المحاجة، قوله {وجادلهم بالتي هي أحسن} وقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الداعي لغيره لا ينفع دعاءه لذلك الغير ما لم ينفع نفسه، قال: {واستقم} {ولا تتبع} أي تعمداً {أهواءهم} في شيء ما، فإن الهوى لا يدعو إلى خير، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به لأجل أنه أمر به لا لأجل أنه يهواه...
{وأمرت} أي ممن له الأمر كله بما أمرني به مما أنزل عليّ...
{لنا أعمالنا} خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا.
{ولكم أعمالكم} خاصة بكم لا تعدوكم إلى غيركم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أمره بتكميل نفسه بلزوم الاستقامة، وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك...
{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي: أهواء المنحرفين عن الدين، من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على بعض دينهم، أو بترك الدعوة إلى الله، أو بترك الاستقامة، فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين.
ولم يقل:"ولا تتبع دينهم"؛ لأن حقيقة دينهم الذي شرعه الله لهم، هو دين الرسل كلهم، ولكنهم لم يتبعوه، بل اتبعوا أهواءهم، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء. القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت. تدعو إلى الله على بصيرة. وتستقيم على أمر الله دون انحراف. وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك. القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق. والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد: (وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب).. ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل. (وأمرت لأعدل بينكم).. فهي قيادة ذات سلطان، تعلن العدل في الأرض بين الجميع. [هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها. ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة]. وتعلن الربوبية الواحدة: (الله ربنا وربكم).. وتعلن فردية التبعة: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم).. وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل: (لا حجة بيننا وبينكم).. وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير: (الله يجمع بيننا وإليه المصير).. وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق. فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر. وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض. وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستقامة: الاعتدال، والسين والتاء فيها للمبالغة مثل: أجاب واستجاب. والمراد هنا الاعتدال المجازي وهو اعتدال الأمور النفسانية من التقوى ومكارم الأخلاق، وإنّما أُمر بالاستقامة، أي الدوام عليها، للإشارة إلى أن كمال الدعوة إلى الحق لا يحصل إلا إذا كان الداعي مستقيماً في نفسه...
وضمير {أهواءهم} للذين ذكروا من قبل من المشركين والذين أوتوا الكتاب، والمقصود: نهي المسلمين عن ذلك من باب {لَئن أشركتَ ليحبَطَنَّ عَمَلُك} [الزمر: 65] ألا ترى إلى قوله: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} في سورة هود (112). ويجوز أن يكون معنى {ولاَ تتبع أهواءَهم} لا تجارِهم في معاملتهم، أي لا يحملك طعنهم في دعوتك على عدم ذكر فضائل رُسلهم وهدي كتبهم عدا ما بدَّلوه منها فأعْلِن بأنك مؤمن بكتبهم، ولذلك عطف على قوله: {ولا تتبع أهواءهم}...
وفي هذه الآية مع كونها نازلة في مكة في زمن ضعف المسلمين إعجاز بالغيب يدل على أن الرّسول صلى الله عليه وسلم سيكون له الحكم على يهود بلاد العرب مثل أهل خيبر وتيماءَ وقُريظة والنضِير وبني قَيْنُقَاع، وقد عَدَل فيهم وأقرهم على أمرهم حتى ظاهروا عليه الأحزاب كما تقدم في سورة الأحزاب...
وجملة {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} دعوةُ إنصاف، أي أن الله يجازي كُلاً بعمله...
. {لا حجة بيننا وبينكم}... ونفيُ الحجة نفي جنس يجوز أن يكون كناية عن نفي المجادلة التي من شأنها وقوع الاحتجاج كناية عن عدم التصدّي لخصومتهم؛ فيكون المعنى الامساكُ عن مجادلتهم؛ لأن الحق ظهر وهم مكابرون فيه، وهذا تعريض بأن الجدال معهم ليس بذي جدوَى.
ويجوز أن يكون المنفي جنسَ الحجة المفيدةِ، بمعونة القرينة مثل: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. والمعنى: أن الاستمرار على الاحتجاج عليهم بعد ما أظهر لهم من الأدلة يكون من العبث... وأيّاً مّا كان فليس هذا النفي مستعملاً في النهي عن التصدّي للاحتجاج عليهم فقد حاجّهم القرآن في آيات كثيرة نزلت بعدَ هذه وحاجّهم النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الرجم وقد قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46] فالاستثناء صريح في مشروعية مجادلتهم...
وليس في صيغ هذه الجمل ما يقتضي دوام المتاركة إذ ليس فيها ما يقتضي عموم الأزمنة فليس الأمر بقتال بعضهم بعد يوم الأحزاب ناسخاً لهذه الآية
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لعل جملة «كما أمرت» إشارة إلى المرحلة العالية من الاستقامة، أو إلى أن الاستقامة يجب أن تكون من حيث الكمية والكيفية والزمن والخصوصيات الأُخرى مطابقة للقانون الإلهي. وبما أن أهواء الناس تعتبر من الموانع الكبيرة في هذا الطريق، لذا تقول الآية في ثالث أمر لها: (ولا تتبع أهواءهم)؛ لأن كلّ مجموعة ستدعوك إلى أهوائها ومصالحها الشخصية، تلك الدعوة التي يكون مصيرها الفرقة والاختلاف والنفاق، فعليك القضاء على هذه الأهواء، وجمع الكل في ظل الدين الإلهي الواحد. وبما أن لكل دعوة نقطة بداية، لذا فإن نقطة البداية هي شخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث تقول الآية في رابع أمر لها: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب). فأنا لا أفرّق بين الكتب السماوية، اعترف بها جميعاً، وكلها تدعو إلى التوحيد والمعارف الدينية الطاهرة والتقوى والحق والعدالة، وفي الحقيقة فإن ديني جامع لها ومكملها. فأنا لستُ مثل أهل الكتاب حيث يقوم كلّ واحد بإلغاء الأخرين، فاليهود يلغون المسيحيين، والمسيحيون يلغون اليهود، وحتى أن أتباع كلّ دين أيضاً يقبلون ما يتلاءم مع حاجاتهم ورغباتهم من كتبهم الدينية، فانا أقبل بالكل لأن الكل له أصول أساسية واحدة. وبما أن رعاية أصل العدالة ضروري لإيجاد الوحدة، لذا فإن الآية تطرح ذلك في خامس أمر لها فتقول: (وأمرت لأعدل بينكم)، سواء في القضاء والحكم، أو في الحقوق الاجتماعية والقضايا الأُخرى.
وبهذا الشكل فإنّ الآية التي نبحثها مؤلفة من خمس تعليمات مهمّة، حيث تبداً من أصل الدعوة، ثمّ تطرح وسيلة انتشارها يعني الاستقامة ثمّ تشير إلى الموانع في الطريق كعبادة الأهواء ثمّ تبين نقطة البداية التي تبدأ من النفس، وأخيراً الهدف النهائي والذي هو توسيع وتعميم العدالة. بعد هذه التعليمات الخمس، تشير إلى المشتركات بين الأقوام والتي تتلخص بخمس فقرات، حيث تقول: (الله ربّنا وربّكم) وكل واحد مسؤول عن أعماله (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم). (لا حجّة بيننا وبينكم) وليس بيننا نزاع وخصومة، ولا امتياز لأحدنا على الآخر وليست لدينا أغراض شخصية اتجاهكم. وعادة لا توجد حاجة إلى الاستدلال والاحتجاج، لأن الحق واضح، إضافة إلى ذلك فإننا جميعاً سوف نجتمع في مكان واحد: (الله يجمع بيننا). والذي سوف يقضي بيننا في ذلك اليوم هو الأحد الذي: (وإليه المصير). وعلى هذا الأساس فإنّ إلهنا واحد، ونهايتنا ستكون في مكان واحد، والقاضي الذي إليه المصير واحد، وبالرغم من كلّ هذا فإننا مسؤولون جميعاً حيال أعمالنا، وليس هناك فرق لإنسان على آخر إلاّ بالإيمان والعمل الصالح...