المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

11-اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن خفتم من قلة الماء ، ومن الأعداء ، فوهبكم الله الأمن ، وأصابكم النعاس فنمتم آمنين ، وأنزل الماء من السماء لتتطهروا به ، ولتذهبوا وساوس الشيطان عنكم ، وثبت قلوبكم واثقة بعون الرحمن ولتتماسك به الأرض فتثبت الأقدام{[73]} .


[73]:تتناول الآية الأولى فضل الله تعالى على المقاتلين المؤمنين من الحصول على الأمن في راحة النوم، ونزول المطر للطهارة والاغتسال وتلبد الرمل نتيجة وجود الماء فثبت عليه الأقدام، ومن المعروف أن الرمال الناعمة تسبب تعبا للمقاتلين، وتعتبر عائقا يحول دون خفة الحركة التي هي من مبادئ الحرب الرئيسية، وتتناول الآية الثانية خطاب الله تعالى بتثبيت المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، والمعروف أن الرعب إذا استولى على الجنود في الميدان أصابهم الفشل، وفي الآية الكريمة إشارة إلى مكان الإصابة المهلكة، وهي في أعلى الرقبة وقطع الأطراف حتى يسقط السلاح من اليد.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

{ إذ يغشّيكم النعاس } بدل ثان من { إذ يعدكم } لإظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله معنى الفعل ، أو بجعل أو بإضمار اذكر . وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمر " يغشاكم الناس " بالرفع . { أمنة منه } أمنا من الله ، وهو مفعول له باعتبار المعنى فإن قوله { يغشيكم النعاس } متضمن معنى تنعسون ، و " يغشاكم " بمعناه ، وال { أمنة } فعل لفاعله ويجوز أن يراد بها الإيمان فيكون فعل المغشي ، وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه ، أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاكم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشهم كقوله :

يهاب النوم أن يغشى عيونا *** تهابك فهو نفّار شرود

وقرئ { أمنة } كرحمة وهي لغة . { وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من الحدث والجنابة . { ويذهب عنكم رجز الشيطان } يعني الجنابة لأنها من تخييله ، أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش . روي أنهم نزلوا في كثيب أغفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء ، فوسوس إليهم الشيطان وقال : كيف تنصرون ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله ، وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر ، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضئوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة . { وليربط على قلوبكم } بالوثوق على لطف الله بهم . { ويثبّت به الأقدام } أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل ، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

العامل في { إذ } هو العامل الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال : 7 ] بتقدير تكراره لأن الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف ، وإنما القصد أن تعدد نعمة{[5231]} الله تعالى على المؤمنين في يوم بدر فقال : واذكروا إذ فعلنا كذا وقال الطبري : العامل في { إذ } قوله { ولتطمئن } [ الأنفال : 10 ] .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، ولو جعل العامل في { إذ } شيئاً قريباً مما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في { إذ } { حكيم } [ الأنفال : 10 ] لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل{[5232]} ، وقرأ نافع «يُغْشيكم » بضم الياء وسكون الغين وهي قراءة الأعرج وأبي حفص وابن نصاح ، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر والكسائي «يغَشِّيكم » بفتح الغين وشد الشين المكسورة وهي قراءة عروة بن الزبير وأبي رجاء والحسن وعكرمة وغيرهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يَغشاكم » بفتح الياء وألف بعد الشين وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وأهل مكة «النعاسُ » بالرفع ، وحجة من قرأ «يغشاكم » إجماعهم في آية أحد على { يغشى طائفة منكم } [ آل عمران : 154 ] ، وحجة من قرأ «يغشيكم » أن يجيء الكلام متسقاً مع { ينزل }{[5233]} ، ومعنى { يغشيكم } يغطيكم به ويفرغه عليكم ، وهذه استعارة و { النعاس } أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماشٍ ، وينص على ذلك قصص هذه الآية أنهم إنما كان بهم خفق في الرؤوس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا نعس أحدكم في صلاته »{[5234]} الحديث ، وينص على ذلك قول الشاعر [ ابن الرقاع ] : [ الكامل ]

وسنان أقصده النعاس فرنّقت*** في عينه سِنَةٌ وليس بنائم{[5235]}

وقوله { أمنة } مصدر من أمن الرجل يأمن أمناً وأمنة وأماناً ، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة{[5236]} ، وقرأ ابن محيصن «أمْنة » بسكون الميم وروي عن عبد الله بن مسعود{[5237]} أنه قال : النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله ، وهو في الصلاة من الشيطان .

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده ، وقوله { وينزل عليكم من السماء ماء } تعديد أيضاً لهذه النعمة في المطر ، فقال بعض المفسرين وحكاه الطبري عن ابن عباس وغيره ، وقاله الزجّاج : إن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم - بإلقاء الشيطان إليهم - نزعم أنَّا أولياء الله وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالنا هذه والمشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر{[5238]} وتدمثت السبخة{[5239]} التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين ، وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل الطش تلبدت{[5240]} قالوا : فهذا معنى قوله { ليطهركم به } أي من الجنابة ، { ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر والرجز العذاب ، وقرأ أبو العالية «رجس » بالسين أي وساوسه التي تمقت وتتقذر ، وقرأ ابن محيصن «رُجز » بضم الراء ، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهبْ » بجزم الباء ، { وليربط على قلوبكم } أي بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو ومنه قولهم : رابط الجأش أي ثابت النفس عند جأشها في الحرب{[5241]} { ويثبت به الأقدام } أي في الرملة الدهسة{[5242]} التي كان المشي فيها صعباً .

قال القاضي أبو محمد : والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر ، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري{[5243]} حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول ماء ، فقال له حباب : أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة ؟ الحديث المستوعب في السيرة{[5244]} .

قال القاضي أبو محمد : ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك ، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم ، وهذا قبل الترائي بالأعين ، وأيضاً فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان ودمثت الطريق ، وتلبدت تلك الرملة ، فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء ، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم ، فُسَّر المؤمنون وتبينوا من جعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم ، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت ، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين .

قال القاضي أبو محمد : هذا أحد ما يحتمله قوله { ويثبت به الأقدام } والضمير في { به } على هذا الاحتمال عائد على الماء ، ويحتمل أن يعود الضمير في { به } على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب ، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول .

قال القاضي أبو محمد : ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط ، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ «وينزل عليكم من السماء ماء » ساكنة الألف { ليطهركم به } قال : وهي بمعنى الذي .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف{[5245]} وقرأ ابن المسيب «ليطْهركم به » بسكون الطاء .


[5231]:- النص الذي وجدناه في النسخ التي بين أيدينا هو: "وإنما القصد أن تعدد نعمة الله تعالى" ...الخ، ولكننا آثرنا هذا الذي أثبتناه معتمدين على كتاب "البحر المحيط" لأنه نقل العبارة عن ابن عطية هكذا، ثم علّق عليها، وهي التي يتسق بها الكلام.
[5232]:- قريب من هذا ما قاله أبو البقاء، وهو: "يجوز أن يكون ظرفا لما دل عليه {عزيز حكيم}.
[5233]:-وأيضا فإن الفعل فيها مضاف إلى الله عز وجل الذي تقدم ذكره في قوله سبحانه: {وما النصر إلا من عند الله}، هذا وآية (أحد) هي الآية (154) من سورة (آل عمران) وهي قوله تعالى: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم} إلى آخر الآية.
[5234]:- الحديث مروي في البخاري ومسلم وغيرهما- عن عائشة رضي الله عنها، ونصه: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه). ورواه أيضا مالك، ورمز له في "الجامع الصغير" بالصحة.
[5235]:- نسبه في (اللسان) إلى ابن الرقاع وقال: امرأة وسنى ووسنانة: فاترة الطرف، شُبّهت بالمرأة الوسنى من النوم"، وقال أيضا: "إن ابن الرقاع فرّق بين السنة والنوم"، وعلى هذا الوسن: النوم الخفيف، يقال: وسن كفرح يوسن وسنا وسنة، وأقصده: أصابه فلم يخطئه، ورنّق النوم في عينه: خالطها، أو تهيأت العين للنوم، وقبل هذا البيت يقول ابن الرقاع، (وهو عدّي بن الرقاع العامليّ، كان شاعرا مقدما عند بني أمية مداحا لهم): لولا الحياء وأن رأسي قد عسا فيه المشيب لزرت أم القاسم وكأنها بين النساء أعــارها عينيه أحور من جآذر جاسم
[5236]:- معنى أن [أمنة] مصدر أنه منصوب على المصدر، والتقدير: فأمنتم أمنة، ويرى الزمخشري وأبو حيان أنه منصوب على أنه مفعول له ( في قراءة [يغشيكم] لاتحاد الفاعل، لأن المغشي والمؤمن هو الله تعالى.
[5237]:- نسب هذا الكلام في "الكشاف" إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
[5238]:- الظهر: الإبل التي يُحمل على ظهرها والجمع ظهران بالضم.
[5239]:- السبخة- بسكون الباء وكسرها-: أرض ذات نزّ وملح وجمعها: سبخات- والأرض الدمثاء: السهلة اللينة.
[5240]:- الطش: المطر الخفيف، وهو فوق الرذاذ- وتلبدت الأرض: تماسكت وصلحت للمشي عليها.
[5241]:- الجأش: النفس أو القلب- وقول ابن عطية: "...عند جأشها" يعني عند فزعها.
[5242]:- يقال: دهس المكان بمعنى كثر فيه الدهاس، وهو المكان السهل اللين ليس برمل ولا تراب ولا طين.
[5243]:- الاسم الصحيح: "الحُباب بن المنذر بن الجموح" الأنصاري الخزرجي ثم السلمي. فهو بالألف واللام وضم الحاء، كان يكنى أبا عمر، وهو القائل يوم السقيفة: "أنا جذيلها المحكك، وعُذيقها المُرجّب"، قال ابن سعد: مات في خلافة عمر وقد زاد على الخمسين. (الإصابة)- وزاد في (الاستيعاب): كان يقال له ذو الرأي لما أشار به على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
[5244]:- الحديث طويل، وقد ذكره القرطبي وابن كثير-وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب الحباب: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بنا إلى أدنى ماء من القوم فننزله ونغوّر (ندفن ما وراءه من القلب (جمع قليب وهو البئر العادية القديمة)، ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربوا، فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وفعله، ثم التقوا فنصر الله نبيه والمسلمين.
[5245]:- والسبب أن ما دخلت عليه لام التعليل لا يصح أن يكون صلة، قال في "البحر المحيط": "ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أن [ما] ليس موصولا بمعنى (الذي) وأنه بمعنى (ماء) الممدود، وقد حكوا أن العرب حذفت هذه الهمزة فقالوا: (ما يا هذا) بحذف الهمزة وتنوين الميم، فيمكن أن تخرّج على هذا إلا أنهم أجروا الوصل مجرى الوقف فحذفوا التنوين وأبقوا الألف، وهي إما ألف الوصف التي هي بدل من الواو وهي عين الكلمة، وإما الألف التي هي بدل التنوين في حالة النصب".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، فقَرَنَها ، في قَرَن زمانها ، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذْ الزمانية ، وهذا من أبدع التخلص ، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب .

ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولاً فيه لقوله : { ومَا النصر } [ الأنفال : 10 ] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر ، فلا جرم أن يكون وقت حُصوله طرفاً للنصر .

والغَشْيُ والغشيان كون الشيء غاشياً أي غاماً ومغطياً ، فالنوم يغطي العَقل .

والنعاسُ النوم غير الثقيل ، وهو مثل السِّنة .

وقرأ نافع ، وأبو جعفرُ : { يُغْشِيكم } ، بضم التحتية وسكون الغين وتخفيف الشين بعدها ياء مضارع أغشاه وبنصب { النعاسَ } والتقدير : إذ يغشيكم الله النعاسَ ، والنعاس مفعول ثاني ليغشي بسبب تعدية الهمزة وقرأه ابنُ كثير ، وأبو عمرو : بفتح التحتية وفتح الشين بعدها ألف ، وبرفع النعاس ، على أن يغشاكم مضارع غشي والنعاس فاعل ، وقرأه الباقون : بضم التحتية وفَتح الغين وتشديد الشين ونصب النعاس ، على أنه مضارع غشاه المضاعف والنعاس مفعول ثان .

فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف ، ولا يكون عامّاً سائرَ الجيش ، فهو نوم منحهم الله إياه لِفائِدتهم .

وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف وقد علم أنه من تقدير الله بقوله { أمنة منه } .

و ( الأمنة ) الأمن ، وتقدم في آل عمران ، وهو منصوب على المفعول لأجله على قراءة من نصب ( النعاس ) ، وعلى الحال على قراءة من رفع ( النعاس ) .

وإنما كان ( النعاس ) أمناً لهم لأنهم لمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة ، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً ، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب .

وصيغة المضارع في { يُغشيكم } لاستحضار الحالة .

و ( مِنْ ) في قوله : { منه } للابتداء المجازي ، وهو وصف ل ( أمنة ) لإفادة تشريف ذلك النعاس وأنه وارد من جانب القُدس ، فهو لطْف وسكينة ورحمة ربَانية ، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله ، على قراءة من نصبوا ( النعاس ) ، تنبيهاً على أنه إسناد مخصوص ، وليس الإسناد الذي يعم المقدورات كلها ، وعلى قراءة من رفعوا ( النعاس ) يكون وصف الأمنة بأنها منه سارياً إلى الغَشي فيعلم أنه غشي خاص قُدسي ، وليس مثل سائِر غشيان النعاس فهو خارق للعادة كان كرامة لهم وقد حصل ذلك للمسلمين يومَ بدر كما هو صريح هذه الآية وحصل النعاس يوم أُحُد لطائفة من الجيش قال تعالى : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم } وتقدم في سورة آل عمران ( 154 ) ، وفي صحيح البخاري عن أبي طلحة قال : « كنتُ فيمن تَغَشّاه النعاس يومَ أُحُد حتى سَقط سيفي من يدي مراراً » .

وذكر الله مِنةٌ أخرى جاءت في وقت الحاجة : وهي أنه أنزل عليهم المَطر يوم بَدر ، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به وذلك لكونه نزل في وقت احتياجهم إلى الماء ، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أُفُقِهم ، قال أهل السير : كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر ، وكان طريقهم دَهْساء أي رملاً ليناً ، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض طريق المشركين ملبدة ، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أَمكن لهم ، واستوحلتْ الأرض للمشركين فصار السير فيها متعباً ، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيراً من ماء المطر ، وتطهروا وشربوا ، فذلك قوله تعالى : { ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } .

و ( الرجز ) القَذَر ، والمراد الوسخ الحِسي وهو النجس ، والمعنوي المعبر عنه في كتب الفقه بالحَدَث . والمراد الجنابة ، وذلك هو الذي يعم الجيش كله فلذلك قال : { ويذهب عنكم رجز الشيطان } ، وإضافته إلى الشيطان لأن غالب الجيش لما ناموا احتلموا فأصبحوا على جنابة وذلك قد يكون خواطر الشيطان يخيلها للنائِم ليفسد عليه طهارته بدون اختيار طمعاً في تثاقله عن الاغتسال حتى يخرج وقت صلاة الصبح ، ولأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأجساد والنجاسة تلائم طبع الشيطان .

وتقدير المجرور في قوله : { عنكم رجز الشيطان } للرعاية على الفاصلة ، لأنها بنيت على مد وحرف بعده في هذه الآيات والتي بعدها مع ما فيه من الاهتمام بهم .

وقوله : { وليربط على قلوبكم } أي يؤمنّكم بكونكم واثقين بوجود الماء لا تخافون عطشاً وتثبيت الأقدام هو التمكن من السير في الرمل ، بأن لا تسوخ في ذلك الدهس الأرجل ، لأن هذا المعنى هو المناسب حصوله بالمطر .

و ( الربط ) حقيقته شد الوثاق على الشي وهو مجاز في التثبيت وإزالة الاضطراب ومنه قولهم : فُلان رابط الجأش وله رباطة جَأش .

و { على } مستعارة لتمكن الربط فهي ترشيح للمجاز .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"يُغَشّيكُمُ النّعاسَ": يلقي عليكم النعاس. "أمَنَةً "يقول: أمانا من الله لكم من عدوّكم أن يغلبكم، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عزّ وجلّ...

والأمنة: مصدر من قول القائل: أمنت من كذا أَمَنَةً وأمانا وأمنا، وكلّ ذلك بمعنى واحد...

وأما قوله: "ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيّطَهّرَكُمْ بِهِ "فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر، ليطهر به المؤمنين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذٍ مُجْنِبين على غير ماء فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا. وكان الشيطان وسوس لهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر، فذلك ربطه على قلوبهم وتقويته أسبابهم وتثبيته بذلك المطر أقدامهم، لأنهم كانوا التقوا مع عدوّهم على رَمْلة هَشّاء فلبّدَها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها، توطئة من الله عزّ وجلّ لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ذكر النعاس بعد شدة خوفهم، والنعاس لا يكون ممن اشتد به الخوف ويغشيه إلا بعد الأمن، فذكر لطفه ومنته الأمن بعد شدة الخوف، ذكر عظيم ما منَّ عليهم من الأمن لما ذكر من إلقاء النعاس عليهم والنعاس إنما يكون بعد الأمن، بعد ما كان من حالهم ما ذكر حيث قال: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ). وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ذكر هذا -واللَّه أعلم- على المبالغة في المنة أنه أخبر أنه أنزل من السماء ماء فضل عن حوائجهم حتى وجدوا ماء لتطهير أنفسهم وأبدانهم، وأذهب عنهم رجز الشيطان؛ ذكر السبب الذي به يذهب الرجز؛ لأن الرجز هو العذاب، فذكر الرجز والمراد منه سبب الرجز.

وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ). يحتمل: حقيقة تثبيت الأقدام. ويحتمل: الثبات على ما هم عليه. والربط: هو الشد لشيء، فيحتمل قوله: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) أي شدها حتى لا يزول أحدهم عما هو فيه، ولا يزيغ عن ذلك، وإن ابتلاه اللَّه- تعالى -بأنواع الشدائد والبلايا. ذكر في التوحيد والإيمان الربط والتثبيت بقوله: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) وقوله: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ)، وقوله: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ). وذكر في الشرك والكفر الطبع والختم والقفل ونحوه؛ فهو- واللَّه أعلم -عقوبة لهم لما اختاروا ذلك...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

... وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:

أحدهما: قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.

الثاني: أن أمَّنَهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما قال: الأمن منيم، والخوف مسهر...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

...

كما طَهَّرَ ظواهرهم بماء السماء طهَّر سرائرهم بماء التحقيق عن شهود كلِّ غير وكلِّ عِلَّة، وصان أسرارهم عن الإصغاء إلى الوساوس، وربط على قلوبهم بشهودهم جريان التقدير على حسب ما يجري الحقُّ من فنون التصريف. قوله جلّ ذكره: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}. أقدامَ الظاهر في مَشَاهِدِ القتال، وأقدامَ السرائر على نهج الاستقامة بشهود مجاري التقدير.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ومعنى {يغشيكم} يغطيكم به ويفرغه عليكم، وهذه استعارة و {النعاس} أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماشٍ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال: {وما النصر إلا من عند الله} ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع:

الأول: قوله: {إذ يغشاكم النعاس أمنة منه} أي من قبل الله، واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى، فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لابد فيه من مزيد فائدة، وذكروا فيه وجوها:

أحدها: أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يأخذه النوم، وإذا نام الخائفون أمنوا، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن.

وثانيها: أنهم خافوا من جهات كثيرة. أحدها: قلة المسلمين وكثرة الكفار، وثانيها: الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين، وثالثها: العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر.

...

.

والوجه الثالث: في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم، أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن العدو من معاقصتهم، بل كان ذلك نعاسا يحصل لهم زوال الإعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه.

والوجه الرابع: أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة. فلهذا السبب قيل: إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز. فإن قيل: فإن كان الأمر كما ذكرتم فلم خافوا بعد ذلك النعاس؟ قلنا: لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفرا منصورا وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين...

النوع الثاني: من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان} ولا شبهة أن المراد منه المطر، وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء، واستولوا عليه، وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة، وأكثرهم احتلموا وأجنبوا، وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملا تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير، وكان الخوف حاصلا في قلوبهم، بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم، فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلا على حصول النصرة والظفر، وعظمت النعمة به من جهات:

أحدها: زوال العطش، فقد روي أنهم حفروا موضعا في الرمل، فصار كالحوض الكبير، واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا.

وثانيها: أنهم اغتسلوا من ذلك الماء، وزالت الجنابة عنهم، وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه.

وثالثها: أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود. وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة. أما قوله: {ويذهب عنكم رجز الشيطان} ففيه وجوه:

الأول: أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان.

الثاني: أن الكفار لما نزلوا على الماء، وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك، فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة، روى أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم، تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة، وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضا واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام.

الثالث: أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد فإن قيل: فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى؟ قلنا: قوله: {ليطهركم} معناه ليزيل الجنابة عنكم، فلو حملنا قوله: {ويذهب عنكم رجز الشيطان} على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل، ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله: {ليطهركم} حصول الطهارة الشرعية.

والمراد من قوله: {ويذهب عنكم رجز الشيطان} إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول: حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان، وذلك يوجب الحكم بكونه نجسا مطلقا لقوله تعالى: {والرجز فاهجر}.

النوع الثالث: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وليربط على قلوبكم} والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم، ومعنى الربط في اللغة الشد، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى: {ورابطوا} ويقال لكل من صبر على أمر، ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال: رجل رابط أي حابس.

قال الواحدي: ويشبه أن يكون {على} ههنا صلة والمعنى -وليربط قلوبكم بالنصر- وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة (على) تفيد الاستعلاء. فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها. والنوع الرابع: من النعم المذكورة ههنا قوله تعالى: {ويثبت به الأقدام} وذكروا فيه وجوها:

أحدها: أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه، فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه، وعلى هذا التقدير، فالضمير في قوله: {به} عائد إلى المطر.

وثانيها: أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم، لأن من كان قلبه ضعيفا فر ولم يقف، فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم، وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله: {به} عائد إلى الربط.

وثالثها: روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين، وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل، فلما نزل المطر عظم الوحل، فصار ذلك مانعا لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله: {ويثبت به الأقدام} يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك...

.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{إذ يغشّيكم النعاس أمنة منه} هذه منة أخرى من مننه تعالى على المؤمنين، التي كانت من أسباب ظهورهم على المشركين، وهي إلقاؤه تعالى النعاس عليهم حتى غشيهم – أي غلب عليهم فكان كالغاشية تستر الشيء وتغطيه- تأمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم من الفرق العظيم بينهم وبين عدوهم في العدد والعدة وغير ذلك. روى أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن علي كرم الله وجهه قال ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح. وذلك أن من غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف، كما أن الخائف لا ينام، ولكن قد ينعس، والنعاس فتور في الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم فهو يضعف الإدراك ولا يزيله كله فمتى زال كان نوما ولذلك قال بعضهم هو أول النوم...

{وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} وهذه منة ثالثة منه عز وجل على المؤمنين، كان لها شأن عظيم في انتصارهم على المشركين، روى ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، وكان ببينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم (أي على الدهاس أو الرمل اللين لتلبده بالمطر) وذهبت وسوسته.

هذا أثبت وأوضح وأبسط ما ورد في المأثور عن هذا المطر في بدر، وعن مجاهد أنه كان قبل النعاس خلافا لظاهر الترتيب في الآية والواو لا توجبه. ولولا هذا المطر لما أمكن المسلمين القتال لأنهم كانوا رجالة ليس فيهم إلا فارس واحد هو المقداد كما تقدم وكانت الأرض دهاسا تسيخ فيها الأقدام أو لا تثبت عليها.

قال المحقق ابن القيم في الهدي النبوي: وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاّ طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض وصلب الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط على قلوبهم. فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحياض وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيها على تل مشرف على المعركة ومشى في موضع المعركة وجعل يشير بيده (هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى) فما تعدى أحد منهم موضع إشارته.اه...

ذكر تعالى لذلك المطر أربع منافع:

الأولى: تطهيرهم به أي تطهيرا حسيا بالنظافة التي تشرح الصدر وتنشط الأعضاء في كل عمل –وشرعيا بالغسل من الجنابة والوضوء من الحدث الأصغر.

الثانية: إذهاب رجز الشيطان عنهم. والرجز والرجس والركس كلها بمعنى الشيء المستقذر حسا أو معنى والمراد هنا وسوسته كما تقدم في المأثور.

الثالثة: الربط على القلوب ويعبر به عن تثبيتها وتوطينها على الصبر كما قال تعالى: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} [القصص: 10]. وتأثير المطر في القلوب تفسره المنفعة.

الرابعة: وهو تثبيت الأقدام به فإن من كان يعلم أنه يقاتل في أرض تسوخ فيها قدمه كلما تحرك وهو قد يقاتل فارسا لا راجلا لا يكون إلا وجلا مضطرب القلب.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، فقَرَنَها، في قَرَن زمانها، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذْ الزمانية، وهذا من أبدع التخلص، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب. ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولاً فيه لقوله: {ومَا النصر} [الأنفال: 10] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، فلا جرم أن يكون وقت حُصوله طرفاً للنصر. والغَشْيُ والغشيان كون الشيء غاشياً أي غاماً ومغطياً، فالنوم يغطي العَقل. والنعاسُ النوم غير الثقيل، وهو مثل السِّنة( ...

) فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف، ولا يكون عامّاً سائرَ الجيش، فهو نوم منحهم الله إياه لِفائِدتهم. وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف وقد علم أنه من تقدير الله بقوله {أمنة منه}. (...

.) وإنما كان (النعاس) أمناً لهم لأنهم لمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هنا في آية الأنفال نعاس وأمنة، وهناك في آية آل عمران أمنة ونعاس؛ لأن الحالتين مختلفتان- فتوضح آية آل عمران أن النعاس قد غشي طائفة واحدة من المقاتلين في غزوة أحد بعد أن أصابهم الغم في هذه الغزوة، وهؤلاء هم المؤمنون الصادقون الملتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما في سورة الأنفال فتبين الآية أن النعاس قد غشي الجيش كله حيث كان الجميع على قلب رجل واحد والإيمان يملأ قلوبهم جميعا ولا يوجد بينهم منافق أو مرتاب فغشيتهم جميعا هذه الآمنة بالنعاس؛ لأنه يزيل الخوف، ومن دلائل الأمن والطمأنينة والثقة بنصر الله. ويقول الحق تبارك وتعالى متابعا في ذات الآية: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} (من الآية 11 سورة الأنفال). ومعنى التطهير أن هناك حادثا يستحق التطهر منه وهم لم يجدوا ماء ليتطهروا منه وهم لم يجدوا ماء ليتطهروا به حيث كان المشركون قد غلبوا المسلمين على الماء في أول الأمر، فظمئ المسلمون وانشغلوا بالعطش، وبالرغبة في تطهير أجسامهم، وهذا يدل على أن المؤمن يجب أن يظل نظيفا، رغم الوجود في المعركة التي لو استمر فيها الواحد منهم يوما أو اثنين دون استحمام، لما لامه أحد على ذلك، وجاء هذا القول ليدل على حرص المؤمن على النظافة إن خرج شيء من الإفرازات والعرق، أو كان التطهر من رجز الشيطان؛ لأن الشيطان خيل لهم منامات جنسية، وأخذ يوسوس قائلا لهم: أنتم تقولون إنّكم على حق، فكيف تصلون وأنتم جنب؟ وكان مجرد حدوث هذا الأمر لهم جميعا هو آية أخرى من الآيات. فأغاظ الله الشيطان وأنزل عليهم الماء ليشربوا ويتطهروا...