حثت هذه السور الكريمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه ، وتعظيمه لله تعالى ، وترك ما لا يصح أن يصدر منه ، وتحدثت عن نفخ الصور وشدة العذاب على الكافرين ، وأمرته صلى الله عليه وسلم أن يترك من جحد فضله عليه ثم يطمع في الزيادة بدون اعتراف ولا شكر ، وبينت كيف كان تفكير ذلك الجاحد وإنكاره للقرآن ، وفصلت كيف يكون عذابه في سقر التي وصفت بما يزعج ويخيف ، وذكرت الأنفس بما تكسب من خير أو شر ، وأخبرت عن حال أصحاب اليمين وتبكيتهم للمجرمين بسؤالهم عما سلكهم في سقر ، وختمت بالحديث عن القرآن بأنه لمن شاء أن يتذكر وأن من يتذكر به هم أهل التقوى وأهل المغفرة .
1 - يا أيها المتدثر بثيابه قم من مضجعك فحذر الناس من عذاب الله إن لم يؤمنوا ، وخُصَّ ربك - وحده - بالتعظيم ، وثيابك فطهرها بالماء من النجاسة .
ثبت في صحيح البخاري [ من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ]{[29456]} عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل من القرآن : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }
وخالفه{[29457]} الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } كما سيأتي [ بيان ]{[29458]} ذلك هناك .
قال البخاري : حدثنا يحيى ، حدثنا وَكِيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ، قال : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } قلت : يقولون : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ؟ فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلتُ له مثل ما قلتَ لي ، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاورت بحرَاء ، فلما قضيت جواري هبطتُ فنُوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا . فرفعت رأسي فرأيت شيئًا ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني . وصبوا علي ماء باردا . قال : فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال : فنزلت { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } {[29459]}
هكذا ساقه من هذا الوجه . وقد رواه مسلم{[29460]} من طريق عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي : " فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قبَلَ السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجَثَثْتُ{[29461]} منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض ، فجئت إلى أهلي ، فقلت : زملوني زملوني . فزملوني ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } إلى : { فَاهْجُرْ } -
قال أبو سلمة : والرجز : الأوثان - ثم حَميَ الوحيُ وتَتَابع " .
هذا لفظ البخاري{[29462]} وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا ، لقوله : " فإذا الملك الذي جاءني{[29463]} بحراء " ، وهو جبريل حين أتاه بقوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثم إنه حصل بعد هذا فترة ، ثم نزل الملك بعد هذا . ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا حجاج ، حدثنا لَيْث ، حدثنا عُقَيل ، عن ابن شهاب{[29464]} قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثم فتر الوحي عني فترة ، فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قِبَل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني [ بحراء الآن ]{[29465]} قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجُثت{[29466]} منه فَرَقًا ، حتى هَوَيت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت لهم : زملوني زملوني . فزملوني ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } ثم حمي الوحي [ بعدُ ]{[29467]} وتتابع " . أخرجاه من حديث الزهري ، به{[29468]} .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثنا الحسن بن بشر{[29469]} البَجَلي ، حدثنا المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن يزيد ، سمعت ابن أبي مُلَيْكة يقول : سمعت ابن عباس يقول : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا . قال : ما تقولون في هذا الرجل ؟ فقال بعضهم : ساحر . وقال بعضهم ليس بساحر . وقال بعضهم : كاهن . وقال بعضهم : ليس بكاهن . وقال بعضهم : شاعر . وقال بعضهم ليس بشاعر . وقال بعضهم : [ بل ]{[29470]} سحر يُؤثر . فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه ، وتَدَثَّر ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } {[29471]} .
اختلف القراء في { المدثر } على نحو ما ذكرناه في { المزمل } [ المزمل : 1 ] ، وفي حرف أبيّ بن كعب { المدثر } ومعناه المتدثر بثيابه ، و «الدثار » ، ما يتغطى الإنسان به من الثياب ، واختلف الناس لم ناداه ب { المدثر } ، فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال : زملوني زملوني نزلت { يا أيها المدثر }{[11408]} ، وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله . وروي أنه كان يدثر في قطيفة . وقال آخرون : معناه أيها النائم . وقال عكرمة معناه { يا أيها المدثر } للنبوة وأثقالها ، واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو { يا أيها المدثر } الآيات . وقال الزهري والجمهور هو { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] وهذا هو الأصح . وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك{[11409]} .
تسمى في كتب التفسير { سورة المدثر } وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس .
وأريد بالمدثر النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحالة التي ندي بها ، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها .
وأما تسمية باللفظ الذي وقع فيها ، ونظيره ما تقدم في تسمية { سورة المزمل } ، ومثله ما تقدم في سورة المجادلة من احتمال فتح الدال أو كسرها .
وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابن عطية والقرطبي ولم يذكرها في الإتقان في السور التي بعضها مدني . وذكر الآلوسي أن صاحب التحرير محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة 698 له تفسير ذكر قول مقاتل أو قوله تعالى { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } الخ نزل بالمدينة اه . ولم نقف على سنده في ذلك ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي .
قيل إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلا سورة { اقرأ باسم ربك } وهو الذي جاء في حديث عائشة في الصحيحين في صفة بدأ الوحي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى { ما لم يعلم } ثم قالت : ثم فتر الوحي . فلم تذكر نزول وحي بعد آيات { اقرأ باسم ربك } .
وكذلك حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض . وحاصل ما يجتمع من طرقه : قال جابر بن عبد الله وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فأتيت خديجة فقلت : دثروني فدثروني زاد غير ابن شهاب من روايته وصبوا علي ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا . قال النووي : صب الماء لتسكين الفزع . فأنزل الله { يا أيها المدثر } إلى { والرجز فأهجر } ثم حمي الوحي وتتابع اهـ .
ووقع في صحيح مسلم عن جابر أنها أول القرآن سورة المدثر وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي وإنما تقع الفترة بين شيئين فتقتضي وحيا نزل قبل سورة المدثر وهو ما بين في حديث عائشة .
وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد : أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق وأن سورة المزمل ثالثة وأن سورة المدثر رابعة .
وقال جابر بن زيد : نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة . ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع .
وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري وجامع الترمذي من طريق ابن شهاب إن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة .
والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمسة أو أقل وسواء كانت واجبة كما هو ظاهر قولهم : فرضت أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافا كثيرا فقيل كانت سنتين ونصفا ، وقيل : أربعين يوما ، وقيل : خمسة عشر يوما ، والأصح أنها كانت أربعين يوما . فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوق حوادث سيرته .
وعد أهل المدينة في عدهم الأخير الذي أرسوا عليه وأهل الشام آيها خمس وخمسين وعدها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستا وخمسين .
جاء فيها من الأغراض تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة .
وإعلان وحدانية الله بالإلهية .
والأمر بالتطهر الحسي والمعنوي .
وتهديد من تصدى للطعن في القرآن وزعم أنه قول البشر وكفر الطاعن نعمة الله عليه فأقدم على الطعن في آياته مع علمه بأنها حق .
والرد على المشركين الذين استخفوا بها وزعموا قلة عدد حفظتها .
وتحدي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عدد حفظتها .
وتأييسهم من التخلص من العذاب .
ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء .
نوديّ النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة . وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال : دثروني دثروني ، أو قال : زملوني ، أو قال : زملوني فدثروني ، على اختلاف الروايات ، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت : { يا أيها المدثر } .
وقد مضى عند قوله تعالى : { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف .
و{ المدثر } : اسم فاعل من تدثّر ، إذا لبس الدِّثَار ، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادَّعى .
والدِّثار : بكسر الدال : الثوب الذي يُلبس فوق الثوب الذي يُلبس مباشِراً للجسد الذي يسمى شعاراً . وفي الحديث " الأنصار شِعَار والناسُ دِثَار " .
فالوصف ب { المدثر } حقيقة ، وقيل هو مجاز على معنى : المدثر بالنبوءة ، كما يقال : ارتدى بالمجد وتأزَّر به على نحو ما قيل في قوله تعالى : { يا أيها المزمل ، أي يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودِثارها .